السبت مايو 18, 2024
  • رؤية الرسول لربّه بقلبه لا ببصره في تلك الليلة

    روى الطبراني في «المعجم الأوسط» [(1193)] بإسنادٍ قوي [(1194)] عن ابن عباس رضي الله عنهما «رأى محمد ربه مرتين»، وروى ابن خزيمة بإسناد قوي [(1195)] «رأى محمد ربه». والمراد أنه رءاه بقلبه بدليل حديث مسلم [(1196)] من طريق أبي العالية عن ابن عباس في قوله تعالى ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى *وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *﴾ [سورة النجم] قال «رءاه بفؤاده مرتين».
    وأخرج أيضًا [(1197)] من طريق عطاء عن ابن عباس قال «رءاه بقلبه». فيحمل المطلق على المقيد فتحمل رواية «رأى محمد ربه» على رواية «رأى ربَّه بفؤاده مرتين»، ولا سيما وقد روى ابن مردويه [(1198)] عنه أنه قال «لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه إنما رءاه بقلبه». قال الحافظ [(1199)] وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر وإثباته على رؤية القلب» اهـ. فإن قيل فكيف يوفَّق بين الرؤية بالفؤاد وبين ما رواه البخاري ومسلم [(1200)] ولفظ مسلم عن عائشة أنها قالت في قول الله تعالى ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *﴾ [سورة النجم]: «أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا فقال «إنما هو جبريل».

    قلنا الإشكال ظاهر فنصير إلى ترجيح ما روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى *﴾ [سورة النجم] على ما جاء عن ابن عباس من تفسير الآية برؤيته صلى الله عليه وسلم لربه مرتين لأن المرفوع يقدم على الموقوف. أما بالنسبة لغير هذه الحيثية فالجمع المذكور صحيح. وبذلك يُجمع بين ما ذكر وبين ما رَوَى مسلم [(1201)] عن أبي ذر «قلت هل رأيت ربك يا رسول الله؟ قال «نورٌ أنَّى أراهُ» وما رواه أحمد [(1202)] من حديثه أيضًا «رأيت نورًا» بدليل ما رواه ابن خزيمة [(1203)] عنه أنه قال «رءاه بقلبه ولم يره بعينه».
    ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم «نورٌ أنَّى أراهُ» [(1204)] حال دون رؤيتي له ببصري نور منعني أي نور من الأنوار المخلوقة. وليس في قوله عليه السلام «نورٌ أنَّى أراهُ» وقوله «رأيت نورًا» منافاة لإثبات الرؤية بالفؤاد وإنما يفيد نفي الرؤية البصرية. وليس معنى الرؤية بالفؤاد العلمَ بل معناها نظر إلى ربّه بقوة جعلها الله في قلبه كقوة العين.

    وأما تكليم الله بلا واسطة مَلَك كما سمع موسى تلك الليلة فقد قيل [(1205)] حصل لرسول الله سماع كلامه الذي لا يشبه كلام العالمين فَفَهِمَ منه فرض الصلوات على أمته وغير ذلك مما جاء في مسلم وغيره [(1206)] إلا أنه يشكل عليه ما جاء عن ابن عباس أن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد فكلّم موسى مرتين ورءاه محمد مرتين. ويمكن الجواب عنه بأن هذا مما أخذه ابن عباس عن بعض علماء أهل الكتاب لا عن الرسول فلا حجة فيه لنفي سماعه الكلام كما سمع موسى صلى الله عليهما وسلم، فيقال سمع كلامه أي في حين غير حين رؤيته بالفؤاد فلا يستشكل بآية ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ … *﴾ الآية [سورة الشورى] أو أن تُحمل الآية على نفي اجتماع الرؤية بالبصر وسماع كلامه في وقت واحد في الدنيا. وأما ما يروى أنه عليه السلام قال «التحيات لله والصلوات والطيبات لله فقال الله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» إلى ءاخره فهو لا أصل له.
    ـ[1193] انظر إحياء علوم الدين مع شرحه إتحاف السادة المتقين (9/ 580).
    ـ[1194] فتح الباري (8/ 609).
    ـ[1195] انظر الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 182).
    ـ[1196] رواه مسلم في صحيحه: كتاب الفتن وأشراط الساعة: باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، وأبو داود في سننه: كتاب الفتن والملاحم: باب ذكر الفتن ودلائلها، والترمذي في سننه: كتاب الفتن: باب ما جاء في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا في أمته، وأحمد في مسنده (4/ 123)، والبيهقي في سننه (9/ 181).
    ـ[1197] أي يستأصلهم.
    ـ[1198] رواه مسلم في صحيحه: كتاب الفتن وأشراط الساعة: باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض.
    ـ[1199] فتح الباري (6/ 494).
    ـ[1200] فتح المغيث شرح ألفية الحديث (3/ 43).
    ـ[1201] الحاوي للفتاوى (2/ 165).
    ـ[1202] الفتن لنعيم بن حماد (ص/185 – 212)، التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص/720).
    ـ[1203] عقد الدرر في أخبار المنتظر، طبع.
    ـ[1204] تلخيص البيان في علامات مهدي ءاخر الزمان.
    ـ[1205] مقدمة ابن خلدون (ص/199 – 209).

    ـ[1206] رواه أبو داود في سننه: كتاب المهدي: أول كتاب المهدي، وابن حبان في صحيحه انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (8/ 291)، والطبراني في المعجم الكبير (10/ 164)