فائدة في بيان حكم منكر المجمع عليه
قال الفقيه الأصولي بدر الدين الزركشي في تشنيف المسامع ما نصه: “(ص) خاتمة: جاحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة كافر قطعًا، وكذا المشهور المنصوص في الأصح، وفي غير المنصوص تردد، ولا نكفر جاحد الخفي ولو منصوصًا. (ش) من جحد مجمعًا عليه فله أحوال:
* إحداها: أن يكون ذلك المجمع عليه معلومًا من الدين بالضرورة كأركان الإسلام فهو كافر قطعًا، وليس كفره من حيث إنه مجمع عليه بل لجحده ما اشترك الخلق في معرفته، ولأنه صار بخلافه جاحدًا لصدق الرسول. واعلم أنه قد يستشكل قولهم المعلوم من الدين بالضرورة، فإنه ليس في الأحكام الشرعية على قاعدة الأشعرية شىء يعلم كونه حكمًا شرعيًّا إلا بدليل، وجوابه أنها ثبتت بأعظم دليل، وإنما سميت ضرورية في الدين من حيث أشبهت العلوم الضرورية في عدم تطرق الشك إليها واستواء الخواص والعوام في دركها.
* الثانية: أن لا يبلغ رتبة الضروري لكنه مشهور، فينظر فيه فإن كان فيه نص كالصلوات ففي تكفيره خلاف، والأصح نعم، وإن لم يكن فيه نص ففي الحكم بتكفيره خلاف، وصحح النووي في باب الردة التكفير، ونقل الرافعي في باب حد الخمر عن الإمام أنه لم يستحسن إطلاق القول بتكفير المستحل، وقال: كيف نكفّر من خالف الإجماع ونحن لا نكفر من رد أصل الإجماع وإنما نبدعه ونضلّله، وأوّل ما ذكره الأصحاب على ما إذا صدق المجمعين على أن التحريم ثابت في الشرع ثم خالفه فإنه يكون ردًّا للشرع.
* الثالثة: أن يكون خفيًّا لا يعرفه إلا الخواص كفساد الحج بالوطء قبل الوقوف، وتوريث بنت الابن السدس مع بنت الصلب، فإذا اعتقد المعتقد في شىء من هذا أنه خلاف إجماع العلماء لم نكفره لكن يحكم بضلاله وخطئه، ولا فرق في هذا القسم بين المنصوص عليه وغيره لاشتراك الكل في الخفاء ولا نعلم فيه خلاف” اهــ
قال الحافظ الفقيه أبو زرعة العراقي في نكته ما نصه: “نقل الإمام في الشامل في أصول الدين عن القاضي أبي بكر أنهم أجمعوا على عدم الوجوب ولم يخالفه فيه وإنما ينكر المجمع إلا أن يرى الفاعل تحريمه” اهــ
قال زكريا الأنصاري في شرح الروض في كتاب السّيَر ممزوجًا بالمتن ما نصه: “ولا ينكر العالم إلا مجمعًا عليه أي على إنكاره لا ما اختلف فيه إلا ان يرى الفاعل تحريمه”. اهــ
وفي هامشه لأبي العباس الرملي نقلًا عن عز الدين بن عبد السلام قال: “من أتى شيئًا مختلفًا في تحريمه معتقدًا تحريمه وجب الإنكار عليه، وإن اعتقد تحليله لم يجز الإِنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفًا تنتقض الأحكام بمثله لبطلانه في الشرع ولا ينقض إلا لكونه باطلًا، وذلك كمن يطأ جارية بالإِباحة معتقدًا لمذهب عطاء فيجب عليه الإِنكار وإن لم يعتقد تحريمًا ولا تحليلًا أرشد إلى اجتنابه من غير توبيخ ولا إنكار” انتهى كلام أبي العباس الرملي.
وبذلك صرح الماوردي في الأحكام السلطانية، ومثل هذا في سائر شروح منهاج الطالبين وشرح منهج الطلّاب، وكذلك في الفتاوى الكبرى لابن حجر، وفي كتاب الأنوار لأعمال الأبرار، وكذلك في كثير من كتب المالكية كالحطّاب شارح مختصر خليل المسمى بمواهب الجليل، وفي شرح الخرشِي على مختصر خليل، وفي الشرح المسمى منح الجليل، وكذلك في كثير من كتب الحنابلة وكتب الحنفية كالدر المختار، وكذلك في كتاب القواعد للحافظ الفقيه الأصولي أبي سعيد العلائي الشافعي، وكذلك في كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي.
قال الشيخ زكريا في شرح روض الطالب ممزوجًا بالمتن ما نصه: “لكن إن ندَبَ على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف برفق فحسن إن لم يقع في خلاف ءاخر وترك أي وفي ترك سنة ثابتة لاتفاق العلماء على استحباب الخروج من الخلاف حينئذ. وليس للمحتسب المجتهد أو المقلّد كما فهم بالأولى حمل الناس على مذهبه لما مرّ ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع ولا ينكر أحد على غيره مجتهدًا فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا جَليًّا” اهــ
وقال الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه عن سفيان الثوري ما نصه: “ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحدًا من إخواني أن يأخذ به” اهــ
أما القاعدة: “لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المتفق عليه إلا أن يكون فاعله يرى تحريمه”، ذكرها الأصوليون في كتبهم، وكذا الفقهاء كما تقدم. ولو تعامل الناس على موجب هذه القاعدة لخفّ الخلاف والتشويش، كالتشويش الذي يحصل من بعض الناس على بعض بغير حق. اللهم إلا أن يكون الخلاف بعد انعقاد الإجماع فلا عبرة به كالخلاف في وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثًا لأن الإجماع انعقد في عهد عمر، وما حصل بعد ذلك فلا معنى له كما ذكر الحافظ ابن حجر، ومن خالف هذا فهو منابذ للإجماع، ذكر ذلك في شرحه فتح الباري في كتاب الطلاق.
ويدخل في هذا الخلاف الذي يشوش به بعض الناس في مسئلة كشف الفخذ للرجل فإن هذا لا يعتدّ به عند المحصلين، فقد أفتى ابن حجر الهيتمي في فتاويه في سؤال صورته رجل يعمل وهو كاشف فخذه فأجاب لا ينكر عليه لأن ذلك أحد القولين لمالك وأحمد، ومن لا يراعي هذه القاعدة فكأنه ينكر المذاهب كلها إلا المذهب الذي يتقلده. وهذا مخالف لما جرى عليه السلف فقد قال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز حين عُرض عليه أن يجمع الناس على مذهب واحد: “دعوا الناس على ما هم عليه”، وكان هو مع كونه أميرًا للمؤمنين مجتهدًا مطلقًا كغيره من المجتهدين، فما لهؤلاء الذين لا يتقنون مذهبًا واحدًا هم يقلدونه ينكرون على الناس ما خالف رأيهم كأنه عمل معصية كبيرة متفقًا عليها، فليحاسب هؤلاء أنفسهم قبل أن يحاسبوا. وإلى الله المرجع والمآب.
ويؤيد ما ذكرناه ما جاء في كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ونصه: “والأمر بالمعروف أي الواجب والنهي عن المنكر أي المحرّم، لكن محله في واجب أو حرام مجمع عليه، ويجب الإِنكار على معتقد التحريم وإن اعتقد المنكر إباحته لأنه يعتقد حرمته بالنسبة لفاعله باعتبار عقيدته، ويمتنع على عامي يجهل حكم ما رءاه إنكارٌ حتى يخبره عالم بأنه مجمع عليه أو محرّم في اعتقاد فاعله، ولا لعالم إنكار مختلف فيه حتى يعلم من فاعله اعتقاد تحريمه له حالة ارتكابه لاحتمال أنه حينئذ قلّد القائل بحله أو جاهل بحرمته، أما من ارتكب ما يرى إباحته بتقليد صحيح فلا يحل الإنكار عليه، لكن لو ندب للخروج من الخلاف برفق فحسن”. اهــ
وفي الأشباه والنظائر للسيوطي ما نصه: “القاعدة الخامسة والثلاثون لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه”. اهــ
وفي التفسير الكبير للفخر الرازي عند تفسير قوله تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ {30} [سورة النور] ما نصّه: “اعلم أن العورات على أربعة أقسام: عورة الرجل مع الرجل، وعورة المرأة مع المرأة، وعورة المرأة مع الرجل، وعورة الرجل مع المرأة. فأمّا الرجل مع الرجل فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا عورته، وعورته ما بين السرّة والركبة، والسرّة والركبة ليستا بعورة، وعند أبي حنيفة رحمه الله الركبة عورة، وقال مالك: الفخذ ليس بعورة”. اهــ
ويقول القرطبي عند تفسير الآية المذكورة ما نصّه: “إن دَلّكه أحدٌ لا يمكّنه من عورته من سرّته إلى ركبته إلا امرأته أو جاريته، وقد اختلف في الفخذين هل هما عورة أم لا” اهــ
ويقول عند تفسير قوله تعالى: يَا بَنِي ءادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ ءايَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ {26} [سورة الأعراف] ما نصّه: “ومن جملة الإِنعام ستر العورة، فبيّن أنه جعل لذريته ما يسترون به عوراتهم، ودلّ على الأمر بالتستر، ولا خلاف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعْين الناس، واختلفوا في العورة ما هي؟ فقال ابن أبي ذئب: هي من الرجل الفرج نفسه، القبل والدبر دون غيرهما، وهو قول داود وأهل الظاهر وابن أبي عبلة والطّبري لقوله تعالى: لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ {26} [سورة الأعراف] وقوله: بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا {22} [سورة الاعراف]، وقوله: لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا {27} [سورة الأعراف]، وفي البخاري عن أنس: فأجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في زُقاق خيبر، – وفيه – ثم حَسَر الإِزار عن فخذه، حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم” انتهى كلام القرطبي.
ونقل الحطاب المالكي عن ابن الحاج المالكي المعروف بالتشدّد أن إظهار بعض الفخذ مكروه على المشهور، وقيل حرام.
فظهر ظهورًا جليًّا أن الفخذ ليس عورة في قول للإِمام مالك بن أنس وأحمد بن حنبل المعروف بالزهد والورع وعند التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح وابن جرير الطبري وكل هؤلاء من أهل الاجتهاد.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في تخريج مختصر ابن الحاجب ما نصّه: “وأما كشف الفخذ فأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز عن علي ابن سهل هو الرملي، حدَّثنا حجاج هو ابن محمّد المصيصي قال: قال ابن جريج: أُخبرت عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضَمْرَة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت”، وأعاده أبو داود في كتاب الحمَّام بهذا الإِسناد وقال: فيه نكارة، وقال: أوَّلا كان سفيان ينكر أن يكون حبيب روى عن عاصم يعني سماعًا، وقال ابن أبي حاتم في كتاب العلل: سألت أبي عن هذا الحديث فقال: لم يسمعه ابن جريج من حبيب ولا سمع حبيب من عاصم بن ضمرة شيئًا، قلت: وكل من ابن جريج وحبيب ثقة لكن موصوفٌ بالتدليس. وقد وقعت لنا رواية فيها تصريح ابن جريج بالإخبار وأخرى فيها تصريحه بالتحديث.
وبالسند الماضي إلى عبد الله بن أحمد، حدَّثنا عبيد الله بن أحمد القواريري، حدَّثنا يزيد أبو خالد القرشي، أخبرنا ابن جريج، أخبرني حبيب بن أبي ثابت فذكره. وهذا لولا أنه معلول لأفاد لكن يزيد أبو خالد مجهول. وقد أخرجه أبو يعلى عن عبيد الله القواريري فقال في روايته: قال حبيب: وكذا أخرجه الطحاوي عن ابن أبي عمران، عن القواريري فقال في روايته عن حبيب: وقرأت على أم الحسن التنوخية بدمشق، عن سليمان بن حمزة، أخبرنا محمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد الحافظ، أخبرنا عبد الباقي بن عبد الجبّار، أخبرنا أبو شجاع عمر ابن محمّد، أخبرنا أبو القاسم الخليلي، أخبرنا علي بن أحمد الخزاعي، حدَّثنا الهيثم بن كليب، حدَّثنا محمّد بن سعد العوفي، (ح) وأخبرنيه عاليًا الشيخ أبو إسحاق التنوخي، عن عبد الله بن أحمد بن تمام، أخبرنا يحيى بن أبي السعود قرئ على شُهْدة وأنا أسمع، عن الحسين بن أحمد ابن طلحة حدثني سماعًا، أخبرنا أبو الحسين بن بِشران، أخبرنا إسماعيل ابن محمّد الصفّار، حدَّثنا محمّد بن سعد، حدَّثنا روْحُ بن عبادة، حدَّثنا ابن جريج، حدثني حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه قال: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وفخذي مكشوفة فقال: “غطّ فخذك فإن الفخذ عورة” قال الصَّفَّار: هكذا قال: حدثني حبيب يشير إلى أن المعروف عن ابن جريج عدم التصريح.
وهكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن روح بن عبادة بالعنعنة، وكذا أخرجه ابن ماجه عن بشر ابن ءادم، عن رَوْح، وخالف رَوْح في متنه أصحاب ابن جريج فالمحفوظ عنهم ما تقدّم ولعل ذلك من ابن جريج فإنه حدّث بالبصرة بأشياء وَهِمَ فيها لكونها من حفظه وسماع رَوْح منه كان بالبصرة، وقد حدّث عنه عبد المجيد بن أبي رَوّاد عن ابن جريج معنعنًا، أخرجه الدارقطني وحجاج ابن محمّد، وعبد المجيد من أعرف الناس بحديث ابن جريج.
وقال البخاري في صحيحه: باب ما يذكر في الفخذ ويُروى عن ابن عباس وَجَرْهَد ومحمد بن جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم: “الفخذ عورة” وقال أنس: حسَرَ النبي صلى الله عليه وسلم عن فخذه. وحديث أنس أَسنَدُ – يعني أصح إسنادًا – وحديث جرهد أحوط. انتهى.
وحديث ابن عباس المذكور وصله أحمد والترمذي من رواية أبي يحيى القَتَّات عن مجاهد عنه قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وفخذه مكشوفة فقال: “غطّ فخذك فإن الفخذ عورة” والقتّات ضعيف، وحديث جرهد أخرجه مالك في بعض روايات الموطإ كالقعنبي، وأخرجه عنه أبو داود وأخرجه الترمذي من وجه ءاخر. ولفظ حديث مالك عن جرهد وكان من أصحاب الصفة قال: كنت جالسًا وفخذي مكشوفة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أما علمت أن الفخذ عورة” ورجاله ثقات، لكن اختلف عليهم في سياقه اختلافًا كثيرًا حتى وصِفَ بالاضطراب، وجرى بعضهم على الظاهر فصححه كابن حبان.
وحديث محمّد بن جحش أخبرني به أبو عبد الله بن علي البُزَاعِيُّ بصالحية دمشق، عن زينب بنت إسماعيل بن الخباز سماعًا قالت: أخبرنا أحمد بن عبد الدائم، أخبرنا يحيى بن محمود، أخبرنا عبد الواحد بن محمّد، أخبرنا عبيد الله بن المعتز، أخبرنا محمّد بن الفضل، حدَّثنا محمّد بن إسحاق بن خزيمة، حدَّثنا علي بن حجر، حدَّثنا إسماعيل بن جعفر، حدَّثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبي كثير، عن محمّد بن جحش رضي الله عنه قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على معمر وفخذاه مكشوفتان فقال: “غطّ فخذيك فإن الفخذين من العورة”، أخرجه البخاري في تاريخه وأحمد من رواية إسماعيل بن جعفر فوقع لنا بدلاً عاليًا مع اتصال السماع، ومحمد بن جحش هو محمد بن عبد الله بن جحش ابن أخي زينب أم المؤمنين نُسِبَ إلى جده، وأبوه من كبار الصحابة، وكان هو على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صغيرًا، وأبو كثير مولاه لا يُعرفُ اسمه والمشهور فيه بالثاء المثلثة وقيل أبو كبيرة بموحدة وزيادة هاء.
وأما حديث أنس فوصله البخاري من رواية عبد العزيز بن صهيب عنه قال: أجرى النبي صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم حسر الإِزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذه صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف في ضبط الإِزار هو بالرفع أو بالنصب والمشهور الثاني، ورجح الإسماعيلي الأول.
وقد جاء في حديث ءاخر كشف الفخذ وبه إلى ابن خزيمة، حدَّثنا علي بن حجر، حدَّثنا إسماعيل بن جعفر، حدَّثنا محمّد بن أبي حَرْمَلَة، عن سليمان بن يسار وعطاء بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم متكئًا في بيته كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له فدخل فتحدّث، ثم استأذن عمر فأذن له فدخل وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وسَوّى عليه ثيابه. الحديث. هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن علي ابن حُجر فوقع لنا موافقة عالية، وفي الاستدلال به نظر من أجل الشكّ الواقع فيه. والله أعلم. ءاخر المجلس الرابع بعد الثلاثمائة وهو الرابع والخمسون بعد المائة من التخريج.
قال المُمْلي رضي الله عنه: وقد أخرج أحمد حديث عائشة من وجه ءاخر وفيه كشف الفخذ بلا تردد ولكن في إسناده راوٍ مجهول، وله شاهد من حديث حفصة أم المؤمنين، قرأت على أم عيسى الأسدية، عن علي ابن عمر الواني سماعًا، أخبرنا أبو القاسم سبط السِّلَفي، أخبرنا جدي، أخبرنا أبو القاسم الربعي، أخبرنا أبو الحسن بن مَخْلد، أخبرنا إسماعيل ابن محمّد، حدَّثنا الحسن بن عرفة، حدَّثنا روح بن عبادة، حدَّثنا ابن جريج، (ح) وأخبرني إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد، عن عيسى بن عبد الرحمن أخبرنا جعفر بن علي، أخبرنا أبو طاهر السِّلَفي، أخبرنا أبو طالب البصري، حدَّثنا أبو القاسم بن بشران إملاءً، حدَّثنا محمد بن عبد الله الشافعي، حدَّثنا محمّد بن الفرج، حدَّثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: حدثني أبو خالد، عن عبد الله بن أبي سعيد المدني، حدثتني حفصة بنت عمر رضي الله عنهما قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في بيته فوضع ثوبه بين فخذيه، فجاء أبو بكر فاستأذن فأذن له وهو على هيئته فتحدث ثم خرج، ثم جاء علي رضي الله عنه بمثل هذه القصة، ثم عمر رضي الله عنه، ثم ناس من أصحابه كذلك، ثم جاء عثمان رضي الله عنه يستأذن فتجلل له النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه فأذن له فدخل فتحدثوا ثم خرجوا، فقلت: يا رسول الله استأذن أبو بكر وعمر وعلي وناس من أصحابك وأنت على هيأتك، ثم جاء عثمان فأخذت ثوبك فتجللت له، فقال: “ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة”.
وبه إلى حجاج قال: قال ابن جريج: وسمعت أبي وغيره يحدثون بنحو هذا الحديث. هذا حديث حسن أخرجه أحمد عن رَوْح بن عبادة فوقع لنا موافقة عالية، وأبو خالد شيخ ابن جُريج لا يعرف اسمه ولا نسبه ولا حاله لكن لم ينفرد به، فقد أخرجه أحمد أيضًا من طريق أبي يعفور أحد الثقات عن شيخ أبي خالد، وشيخهما عبد الله بن أبي سعيد لا يعرف حاله.
وللحديث شاهد أصرح منه أخرجه الطبراني في المعجم الكبير من رواية النضر أبي عُمر، عن عكرمة، عن ابن عبّاس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ليس عليه إلا إزار وقد طرحه بين رجليه وفخذاه خارجتان، فجاء أبو بكر يستأذن فذكر الحديث بنحوه، والنضر أبو عمر ضعيف.
وجاء في كشف الفخذ حديث ءاخر قرأت على فاطمة بنت محمّد بن عبد الهادي، عن أبي نصر بن الشيرازي، أخبرنا أبو محمّد بن بنيمان في كتابه، أخبرنا الحسن بن أحمد بن الحسين الحافظ، أخبرنا الحسن بن أحمد بن الحسن المقرئ، أخبرنا أحمد بن عبد الله بن أحمد، أخبرنا الطبراني في الأوسط، أخبرنا علي بن سعيد الرازي، حدَّثنا أبو مُصْعَب، حدَّثنا عبد العزيز بن محمّد هو الدراوردي، حدَّثنا شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسواف ومعه بلال فدلّى رجليه في البئر وكشف عن فخذيه، فجاء أبو بكر فاستأذن فقال: “يا بلال ائذن له وبشّره بالجنّة” فدخل فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلى رجليه في البئر وكشف عن فخذيه. ثم جاء عمر فاستأذن فقال: “يا بلال ائذن له وبشّره بالجنّة” فدخل فجلس عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلى رجليه في البئر وكشف عن فخذيه، ثم جاء عثمان فاستأذن فقال: “يا بلال ائذن له وبشّره بالجنّة على بلوى تصيبه” فدخل فجلس قبالتهم ودلى رجليه في البئر وكشف عن فخذيه وبه قال الطبراني: لم يروه عن شريك بن عبد الله بهذا الإِسناد إلا الدراوردي تفرّد به أبو مصعب.
قلت: المحفوظ بهذا الإِسناد ما أخرجه الشيخان من طريق سليمان ابن بلال ومحمّد بن جعفر بن أبي كثير، كلاهما عن شريك بن عبد الله ابن أبي نَمِر، عن سعيد بن المسيب، عن أبي موسى الأشعري، وسليمان ومحمّد بن جعفر كل منهما أحفظ من الدراوردي فكيف إذا اتفقا، لكن اختلاف السياق يشعر بأنهما واقعتان، فيقوى أن لشريك فيه إسنادين وذلك أن في حديث أبي موسى أن القصة كانت في بئر أريس وأنه هو كان المستأذن وفيه كشف الساقين. وفي هذا أن القصة كانت بالأسواف وأن المستأذن كان بلالا، وفيها كشف الفخذين، والأسواف – بفتح الهمزة وسكون المهملة وءاخره فاء – مكان بالبقيع فيه بئر معروفة وقد صارت بعد ذلك في صدقة زيد بن ثابت قاله ابن عبد البر.
وقد أخرج البخاري ومسلم حديث أبي موسى من وجه ءاخر من رواية أيوب وغيره عن أبي عثمان النهدي عنه، ليس فيه تعرض لكشف شىء، غير أن في البخاري زيادة عن عاصم وهو ابن سليمان عن أبي عثمان عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم كشف عن ركبته، فلما دخل عثمان غطّاها وهي زيادة مستغربة في حديث أبي موسى. وأخرج أبو يعلى من حديث ابن عمر نحوًا من حديث حفصة ولكن فيه كشف الركبة ولم يذكر الفخذ”. انتهى كلام الحافظ ابن حجر.
قال الحافظ المجتهد ابن القطان عن حديث جرهد ما نصه: “هذا الحديث له علتان: إحداهما: الاضطراب المورث لسقوط الثقة به، وذلك أنهم يختلفون فيه، فمنهم من يقول: زرعة بن عبد الرحمن، ومنهم من يقول: زرعة بن عبد الله، ومنهم من يقول: زرعة بن مسلم. ثم مِن هؤلاء من يقول: عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم مَن يقول: عن أبيه، عن جرهد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم مَن يقول: زرعة عن ءال جرهد، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن كنت لا أرى الاضطراب في الإسناد علة، وإنما ذلك إذا كان من يدور عليه الحديث ثقة، فحينئذ لا يضره اختلاف النقلة عنه إلى مسند ومرسل، أو رافع وواقف، أو واصل وقاطع.
وأما إذا كان الذي اضطُرب عليه بجميع هذا، أو ببعضه، أو بغيره غير ثقة، أو غير معروف، فالاضطراب حينئذ يكون زيادة في وهنه، وهذه حال هذا الخبر، وهي العلة الثانية، وذلك أن زرعة وأباه غير معروفي الحال ولا مشهوري الرواية، فاعلم ذلك” اهــ
وقال العلامة الشيخ محمد بن أحمد ميّارة المالكي ما نصه: “قال الباجي جمهور أصحابنا أن عورة الرجل ما بين سرته وركبتيه السوأتان مثقلها وإلى سرته وركبتيه مخففها، وصحح عياض هذا، وصرح بخروج السرة والركبة ابن القطان، وهذا هو الأظهر لقول مالك، يجوز أن يأتزر الرجل تحت سرته، وفي ابن الحاجب وفي الرجل ثلاثة أقوال: السوأتان خاصة، ومن السرة إلى الركبة، والسرة حتى الركبة” اهــ
فإذا تقرر هذا فما بال من ينتهر الأطفال الذين يسترون السوأتين وبعض الفخذ ويعتبره أكبر الكبائر وأفحش الفاحشات بحيث إذا دخل أحد هؤلاء الأطفال المسجد يطردونه طرد الكلب، فليتق الله وليذكر القاعدة المتفق عليها المتقدم ذكرها: “لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه إلا أن يكون فاعله يعتقد حرمته”.