الجمعة مارس 29, 2024

بيان حد العورة بالنسبة للرجل

اعلم أن هذه المسألة من المسائل التي اختلف فيها العلماء، فقال الشافعي وكثير غيره إن عورة الرجل ما بين سرّته وركبته، وقال الحافظ المجتهد محمّد بن جرير الطبري والتابعي الجليل عطاء بن أبي رباح الذي قال عنه أبو حنيفة: ما رأيت أفقه منه، ومالك في قول له وكذلك أحمد ابن حنبل في قول له: إن عورته السوأتان فقط، روى عن أحمد ذلك مُهنّا أحد كبار الثقات الآخذين عنه. ولهم الحديث الذي رواه البخاري وأحمد عن أنس بن مالك: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حَسَرَ الإِزار عن فخذه، قال أنس: حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.

وروى مسلم وغيره أن عائشة قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعًا في بيتي كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدّث، ثمّ استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدّث، ثمّ استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوّى ثيابه، فدخل فتحدّث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتَشّ له ولم تباله، ثمّ دخل عمر فلم تهتشّ له ولم تبالِه ثمَّ دخل عثمان فجلست وسوّيت ثيابك، فقال: “ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة” اهــ

قال البخاري: “ويُروى عن ابن عبّاس وَجَرْهَد ومحمّد بن جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم “الفخذ عورة” وقال أنس بن مالك: حَسَرَ النبي صلى الله عليه وسلم عن فخذه، وحديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط” اهــ

قوله: “ويُروى” للتضعيف لأنه صيغة تمريض، وقوله: “أحوط” قال الحافظ في الفتح: “أي للدين”، وقال الحافظ أيضًا: “وأما حديث جرهد فإنه حديث مضطرب جدًّا” اهــ

ثم قال ما نصه: “وقوله: “وحديث أنس أسند” أي أصح إسنادًا” اهــ

وروى البخاري في صحيحه أن أنس بن مالك أتى ثابت بن قيس وقد حسر عن فخذيه وهو يتحنَّط، الحديث، قال الحافظ ابن حجر: “واستدل به على أن الفخذ ليست عورة” اهــ

فليس لمن رأى رجلًا ءاخذًا بهذا القول عاملًا به أن يعترض عليه كما يعترض على فاعل المعصية، إذ إنه لم يرتكب معصية بأخذه بقولهم، ولكن يجوز أن يقولَ له خيرٌ لك أن تستر ما بين سرّتك وركبتك، وأما أن ينكر عليه فهو ممنوع، والذي ينكر هو جاهل بالقاعدة المتّفق عليها: “لا ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه”، إلا إذا كان الشخصُ يعتقد فيه حرمته.

وقال النووي في المجموع ما نصّه: “وقال داود ومحمد بن جرير وحكاه في التتمّة عن عطاء: عورته (أي الرجل) الفرجان فقط” اهــ

وقد أفتى ابن حجر الهيتمي في فتاويه في عامل يكشف فخذه في حال عمله بالسكوت عنه، قال لأن الفخذ يجوز كشفه في أحد قولي مالك وأحمد.

وفي كتاب الإِنصاف للمرداوي الحنبلي عند ذكر عورة الرجل ما نصّه: “وعنه – أي عن أحمد – أنها الفرجان، اختاره المجد في شرحه، وصاحب مجمع البحرين والفائق. قال في الفروع: وهي أظهر، وقدَّمَهُ ابن رزين في شرحه وقال: هي أظهر وإليها ميلُ صاحب النظم أيضًا فيه” اهــ

وقال الإِمام مالك: إن من صلى وفخذه مكشوفة فلا إعادة عليه.

وفي فتاوى الشيخ عز الدين بن عبد السلام المالكي أنه سئل عن الرجل يدخل الحمام فيجلس بمعزل عن الناس، إلا أنه يعرف بالعادة أنه يكون معه في الحمام من هو كاشف لعورته هل يجوز له حضوره على هذه الحال أم لا؟ فأجاب: “يجوز له حضور الحمام، فإن قدر على الإِنكار أنكر ويكون مأجورًا على إنكاره، وإن عجز عن الإنكار كره بقلبه فيكون مأجورًا على كراهته، ويحفظ بصره عن العورات ما استطاع، ولا يلزم الإنكار إلا في السوأتين، لأن العلماء رحمهم الله تعالى اختلفوا في قدر العورة، فقال بعضهم: لا عورة إلا السوأتين، فلا يجوز الإِنكار على من قلّد بعض أقوال العلماء إلا أن يكون فاعل ذلك معتقدًا لتحريمه فينكر عليه حينئذٍ، وما زال الناس يقلّدون العلماء في مسائل الخلاف ولا ينكر عليهم”. اهــ

فلا يجوز للشافعي أن ينكر على المالكي فيما يعتقدُ الشافعي تحريمه والمالكي تحليله، وكذلك سائر مذاهب العلماء، اللهم إلا أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ بحيث يجب نقضه فينكر حينئذٍ على الذاهب إليه وعلى من يقلّده.