بيان تقسيم المعاصي وتحريم مباشرة الأجنبية بغير جماع والمفاخذة لها وأنها من المحرمات الصغائر
اعلم أنَّ المعاصي تنقسم إلى قسمين: كبائر وصغائر فأكبر الكبائر الكفر لأنّ مَن مات عليه يخلد في نار جهنم، وأكبر الذنوب بعد الكفر قتل النفس التي حرّم الله إِلا بالحقّ والزنى، ومن الكبائر بعدهما أكل الربا وأكل لحم الخنزير وشرب الخمر وترك الصلاة وذنوب أخرى يزيد عددها على الثلاثين.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اجتنبوا السبع الموبقات” قيل: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: “الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات”.
وأحسن ما يقال في تعريف الكبيرة: الكبيرة كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب أو سنّة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم، أو أخبر فيه بشدّة العقاب، أو علّق عليه الحدّ وشدّد النكير عليه.
وقد اختلفت الأقوال في تعدادها، فذهب بعضهم إلى أنّها سبعون وءاخرون إلى أنها أكثر من ذلك، حتّى عدّها بعضهم أربعمائة. وقد أوصل عددها تاج الدين السبكي إلى خمس وثلاثين من غير ادعاء حصر في ذلك ونظم ذلك السيوطي في ثمانية أبيات فقال:
كالْقَتْلِ والزّنَى وشُرْبِ الخمرِ
ومُطْلَقِ المُسْكِرِ ثمّ السّحْرِ
والقَذفِ واللّواطِ ثمّ الفِطْرِ
ويأسِ رحمةٍ وأمنِ المكْرِ
والغصْبِ والسّرْقَةِ والشهادَةِ
بالزورِ والرّشْوةِ والقيادَةِ
منعِ زكاةٍ ودِيَاثةٍ فِرارْ
خِيانةٍ في الكيلِ والوزنِ ظِهَارْ
نميمةٍ كتمِ شهادةٍ يمينْ
فَاجرةٍ على نبيّنا يَمينْ
وسَبّ صَحْبِهِ وضَرْبِ المسلمِ
سعَايةٍ عقٍّ وقطعِ الرَّحِمِ
حَرَابَةٍ تقديمِهِ الصلاةَ أو
تأخيرِها ومالِ أيتامٍ رَأوا
وأكلِ خنزيرٍ ومَيْتٍ والرّبا
والغلِّ أو صغيرةٍ قد واظَبَا
وقوله: (واظبا) أي مع الغلبة على الحسنات، وليس الإِصرار على الصغيرة الذي يجعلها كبيرة مجرد المداومة، بل أن تكثر بحيث تغلب الحسنات.
وما سوى الكفر والكبائر من الذنوب فهو من الصغائر نحو مصافحة الرجل المرأة الأجنبية بغير حائل.
والتوبة واجبة من جميع الذنوب كبائرها وصغائرها، ولا يعتمد المسلم في محو ذنوبه على حسناتِه بأن يفعلَ سيئاتٍ ثمَّ يتبعها بحسنات ويقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ {114} [سورة هود]، بل لا بُدَّ من التوبةِ لأنَّ الشخصَ إذا فعلَ حسنةً لا يدري هل قُبلت منه أم لا.
وهذا التقسيم والتبيين ليس المرادُ به تشجيع النّاس على المعاصي الصغيرة، وإنما المرادُ به تعليمُ الشرع، وهو واجب لأن الله ما ذكر الكبائر واللمم إلا ليعلّم وليكون العمل على موجَب ذلك، بل يجبُ تعليم الناس الصغائر والكبائر مع بيان أنَّ كلًّا من الصغائر والكبائر له عقوبة، وإلا لما ذكر العلماء ذلك في كتبهم، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: “أنّ رجلًا أصابَ من امرأة قُبلة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت عليه: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {114} [سورة هود]، قال الرجل: ألِي هذه؟ قال: “لمن عمل بها من أمتي”، وهذا نص البخاري. ولم يكن مراد النبيّ صلى الله عليه وسلم تشجيع أمّته على هذه المعصية، إنّما بيّن ما أُوحي إليه، ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان حاضرًا أخفوا هذا عن الناس، ولو فهموا ذلك منه لما رواه عنه ابن مسعود، ولما رواه البخاري في صحيحه ولا غيرهما من علماء الإِسلام سلفًا وخلفًا.
فإذا علم هذا فليعلم أن الفقهاء ذكروا أنّ المفاخذة من المحرمات الصغائر، قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري شرح البخاري نقلًا عن أبي عبد الله الحليمي وكان من أصحاب الوجوه في مذهب الإِمام الشافعي ما نصّه: “والأول – أي الصغائر – كالمفاخذة مع الأجنبية صغيرة” اهــ
وقال زكريا الأنصاري في شرح روض الطالب كتاب الشهادات: “ومن الصغائر النظر المحرّم، وغيبة للمسرّ فسقه واستماعها، وكذب لا حدّ فيه ولا ضرر، وإشراف على بيوت الناس، وجلوس بين فسّاق إيناسًا لهم، واستعمال نجس في بدن أو ثوب لغير حاجة، والتغوّط مستقبلًا القبلة بشرطه، وكشف العورة ولو في خلوة لغير حاجة. ومن ذلك القبلة للصائم التي تحرّك شهوته، والوصال في الصوم، والاستمناء، ومباشرة الأجنبية بغير جماع” اهــ
قلت: تحريم كشف العورة في الخلوة خاص بالسوأتين وكشف ما سواهما في الخلوة جائز ولو لغير حاجة.
وقال النووي في كتاب روضة الطالبين ما نصّه: “ومن الصغائر: القبلة للصائم التي تحرّك الشهوة، والوصال في الصوم على الأصح، والاستمناء، وكذا مباشرة الأجنبية بغير جماع، ووطء الزوجة المظاهر منها قبل التكفير، والخلوة بالأجنبية، ومسافرة المرأة بغير زوج ولا محرم” اهــ
وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه: “نعم يمكن أن يرد عليه ما لو اشتغل بعمل صغيرة عن كبيرة كالقبلة والمعانقة عن الزنا” اهــ
وقال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء في مبحث الصغائر ما نصه: “وقد ذكر ابن حجر – أي الهيتمي – منها – أي الصغائر – في شرح الشمائل جملة فقال: هي كالغيبة في غير عالم أو حامل قرءان، نعم تباح لأسباب ستة مقررة في محلها، وكقبلة أجنبية”، إلى أن قال: “والوصال في الصوم على الاصح، والاستمناء باليد، ومباشرة الأجنبية بغير الجماع، ووطء الزوجة المظاهر منها قبل التكفير”. اهــ
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ {32} [سورة النجم] الآية: “المسألة الثانية: فقال: إِلاَّ اللَّمَمَ {32} [سورة النجم] وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه. وقد اختلف في معناها، فقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي: اللمم كل ما دون الزنى، وذكر مقاتل بن سليمان أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار، كان له حانوت يبيع فيه تمرًا، فجاءته امرأة تشتري منه تمرًا فقال لها: إن داخل الدكان ما هو خير من هذا، فلما دخلت راودها فأبت وانصرفت، فندم نبهان، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما من شىء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجماع، فقال: “لعل زوجها غاز” فنزلت هذه الآية، وكذا قال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق: إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة” اهــ
وقال البغوي في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ {32} [سورة النجم] الآية ما نصه: “وقال بعضهم: هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا، وهذا قول ابن مسعود، وأبي هريرة، ومسروق، والشعبي، ورواية طاوس عن ابن عباس” اهــ
وليعلم أن مستحلّ المفاخذة مع الأجنبية كافر لاستحلاله ما علم من الدين بالضرورة حرمته.