الخميس مارس 28, 2024

بيان حكم الاستنجاء والاستبراء وأن التلوث بالبول حرام

اعلم أنَّ الاستنجاء اختلف العلماء المجتهدون في وجوبه، فقال الإِمام الشافعي إنه واجب لا تصحّ الصلاة بدونه، وقال أبو حنيفة: هو سنّة تصحّ الصلاة بدونه.

وأما الاستبراء فإنّه سنّة لمن كان لا يخشى خروج بقية البول بعد الانقطاع، وواجب لمن كان يخشى نزوله كي لا يتلوث به، ويكون ذلك بالتنحنح والمشي وغيرهما.

وأما الاستنزاه من البول وترك التضمّخ به فإنه واجب بالإِجماع لم يختلف في ذلك اثنان من المجتهدين، روى البيهقي وغيره أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ عامّة عذاب القبر من البول فتنزّهوا من البول”.

وروى البخاريُّ ومسلم وأبو داود والترمذيّ  والنسائي وابن ماجه وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: “إنهما ليعذبان وما يُعذّبان في كبير”، ثم قال: “بلى، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما أحدهما فكان لا يستتر من بوله”، ثم أخذ عودًا رطبًا فكسره باثنتين ثم غرز كل واحد منهما على قبر ثم قال: “لعلّه يخفّف عنهما ما لم ييبسا”، وأخرجه ابن ماجه وأحمد عن أبي بكرة رضي الله عنه.

وأخرج ابن راهويه وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر فوقف عليه فدعا بجريدتين فجعل إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه ثم قال: “لعل الله أن يخفف عنه بعض عذاب القبر ما كانت فيه نداوة”.

وأخرج البخاري أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت إنسانين يعذّبان في قبورهما فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: “يعذّبان وما يعذّبان في كبير”، ثمّ قال: “بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله وكان الآخر يمشي بالنميمة”، ثم دعا بجريدة فكسرها كِسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة فقيل له: يا رسول الله لِمَ فعلت هذا؟ قال: “لعلّه أن يخفّف عنهما ما لم تيبسا” أو: “إلى أن ييبسا” اهــ

قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: “قوله: “لا يستتر” كذا في أكثر الروايات بمثنّاتين من فوق الأولى مفتوحة والثانية مكسورة، وفي رواية ابن عساكر يستبرئ بموحدة ساكنة من الاستبراء، ولمسلم وأبي داود في حديث الأعمش يستنزه بنون ساكنة بعدها زاي ثمّ هاء، فعلى رواية الأكثر معنى الاستتار أنه لا يجعل بينه وبين بوله سترة يعني لا يتحفّظ منه، فتوافق رواية لا يستنزه لأنها من التنزّه وهو الإِبعاد، وقد وقع عند أبي نعيم في المستخرج من طريق وكيع عن الأعمش كان لا يتوقى وهي مفسّرة للمراد اهــ

ثم قال: “وأمّا رواية الاستبراء فهي أبلغ في التوقّي” اهــ

ثم قال: “وسياق الحديث يدلّ على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية، يشير إلى ما صحّحه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة مرفوعًا: “أكثر عذاب القبر من البول” أي بسبب ترك التحرّز منه” اهــ إلى أن قال: “ويؤيّده أنّ في حديث أبي بكرة عند أحمد وابن ماجه: “أما أحدهما فيعذّب في البول”، ومثله للطبراني عن أنس”. اهــ

ثم قال ءاخر البحث: “وفيه – أي من الفوائد – التحذير من ملابسة البول ويلتحق به غيره من النجاسات في البدن والثوب” اهــ

وفي حاشية الشيخ أبي العباس أحمد الرملي الأنصاري الشافعي ما نصّه: “قال – أي النووي – في شرح مسلم: انغماس مَن لم يستنجِ في الماء ليستنجي فيه إن كان الماء قليلًا حرم لما فيه من تلطخه بالنجاسة وتنجيس الماء. انتهى. جعل تنجيس الماء والبدن جميعًا كالتضمّخ بالنجاسة”. انتهى كلام الأنصاري.

وفيه ما نصه: “(قوله ولا يبول قائمًا) قال الأذرعي: الظاهر التحريم إذا علم التلويث ولا ماء أو وجده ولكن ضاق وقت الصلاة أو لم يضق وقلنا: يحرم التضمخ بالنجاسة عبثًا” اهــ

وفي الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي: “أنّه سئل عن فتوى زكريا الأنصاري أنه يحرم على مَن بال ولم يستنجِ أن يطأ زوجته لما في ذلك من التضمّخ بالنجاسة وهو حرام فأجاب بقوله: أمّا ما قاله فيمن لم يستنجِ فظاهر” اهــ

أما ما ثبت من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائمًا فقد قال الحافظ ابن حجر ما نصّه: “قوله: “سباطة قوم” بضم المهملة بعدها موحدة هي المزبلة والكُناسة تكون بِفناء الدور مرفقًا لأهلها، وتكون في الغالب سهلة لا يرتدّ فيها البول على البائل” اهــ

ثمّ قال: “واستدل به لمالك في الرخصة في مثل رءوس الإِبر من البول وفيه نظر، لأنه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة لم يصل إلى بدنه منه شىء، وإلى هذا أشار ابن حبّان في ذكر السبب في قيامه قال: لأنه لم يجد مكانًا يصلح للقعود، فقام لكون الطرف الذي يليه من السباطة كان عاليًا، فأمن أن يرتدّ إليه شىء من بوله، وقيل لأنَّ السباطة رِخوة يتخللها البول فلا يرتدّ إلى البائل منه شىء”. اهــ

ثمّ يقول في الصحيفة عينها ما نصّه: “وقد ثبت عن عمر وعليّ وزيد ابن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قيامًا وهو دالٌّ على الجواز من غير كراهة إذا أمِنَ الرشاش” اهــ

وقد ذكر القسطلاني نحوه في شرح البخاري فقال: “إن السباطة مرمى من تراب كُناسة قوم من الأنصار تكون بفناء الدور مرتفقًا لأهلها، أو السباطة الكناسة نفسها وتكون في الغالب سهلة لا يرتدّ منها البول على البائل” انتهى. ونحوَه ذكر النووي في شرح مسلم.

وقال الخطابي في معالم السنن: “ويكون ذلك في الغالب سهلًا منثالاً يَخُدُّ فيه البول ولا يرتدّ على البائل” اهــ

وقال البغوي في شرح السنة: “والسباطة مُلقى التراب القُمام يكون بفناء الدار، ويكون في الأغلب مرتفعًا عن وجه الأرض لا يرتدّ فيه البول على البائل، ويكون سهلًا يَخُدُّ فيه البول” اهــ

ثم إنه لا يليق بمقام النبوّة أن يترشش النبي بالبول بفعله ويتضمخ به وهو المعلم لأمته أحكام الشريعة. ومن ادّعى ذلك فقد نسب إليه ما هو بعيد منه وليس له مرجع في ذلك إلا وهمه الكاذب.