الخميس مارس 28, 2024

بيان تحريم مصافحة الرجل المرأة الأجنبية بلا حائل

روى ابن حبّان عن أميمة بنت رقيقة، وإسحاق بن راهويه عن أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إني لا أصافح النساء”، والحديث صحّحه ابن حبّان، وإسناد إسحاق بن راهويه قال الحافظ ابن حجر عنه: حسن.

وأمّا قول أم عطيّة: “بايعنا رسول الله فقرأ علينا: أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا {12} [سورة الممتحنة] ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها فقالت: أسعدتني فلانة وأنا أريد أن أجزيها فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فانطلقت ورجعت فبايعها” يُجاب عنه بأنه ليس نصًّا في مسّ الجلد للجلد وإنما معناه كنّ يُشرن بأيديهنّ عند المبايعة بلا مماسّة، فتعيّن تأويله توفيقًا بين الحديثين الثابتين، لأنه يتعين الجمع بين الحديثين إذا كان كل واحد منهما ثابتًا، أي كان كلّ منهما صحيحًا أو كان أحدهما صحيحًا والآخر حسنًا، ولا يجوز إلغاء أحدهما.

ومما يؤيد كلامنا ما ذكره الحافظ ابن الجوزي في تفسيره ونص عبارته: “وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصافح في البيعة امرأة وإنما بايعهن بالكلام” اهــ

أيضًا قال العلامة اللغوي ابن منظور ما نصه: “بايعه عليه مبايعة: عاهده” اهــ

ويصحّ أن يُجاب عنه أنّ المبايعة كانت تقع بحائل، قال الحافظ في الفتح ما نصه: “فقد روى أبو داود في المراسيل عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء أُتي ببرد قَطَري فوضعه على يده وقال: “لا أصافح النساء”. وروى عبد الرزاق من طريق إبراهيم النخعي مرسلًا نحوه. وروى سعيد بن منصور من طريق قيس بن أبي حازم كذلك.

وروى ابن إسحاق في المغازي من رواية يونس بن بُكير عن قيس بن أبي حازم عن أبان بن صالح أنه صلى الله عليه وسلم كان يغمس يده في إناء فتغمس المرأة يدها فيه، ويحتمل التعدد” انتهى كلام الحافظ، أي أن تكون المصافحة بحائل مرة، والمبايعة بغمس يده في الماء في إناء وغمس المرأة المبايِعة يدها فيه أي مرة أخرى.

وقد قال الحافظ ابن عساكر في تاريخه دمشق بعد أن أورد قصة إسلام عشر نسوة من قريش وأنهن أتين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالأبطح لمبايعته ما نصه: “فقالت هند من بينهن: يا رسول الله نماسحك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إني لا أصافح النساء إن قولي لمائة امرأة مثل قولي لامرأة واحدة”. ويقال: وضع على يده ثوبًا ثم مسحن على يده يومئذ. ويقال: كان يؤتى بقدح من ماء فيدخل يده فيه ثم يرفعه إليهن فيدخلن أيديهن فيه، والقول الأول أثبتهما عندنا: “إني لا أصافح النساء” اهــ

وقد أخرج الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم بايعهنّ بواسطة عمر، وهذا أيضًا محمول على أنه بايعهنّ بمدّ يده من خارج البيت، ومدّ النساء أيديهنّ من الداخل إشارة للمبايعة بدون مصافحة، وهو عند الطبراني.

ولحديث أسماء بنت يزيد طريق ءاخر، وروى النسائي والطبري من طريق محمّد بن المنكدر أن أُميمة بنت رُقيقة – بضم الراء مصغر – أخبرته أنها دخلت في نسوة تبايع فقلن يا رسول الله: “ابسط يدك نصافحك”، فقال: “إني لا أصافح النساء ولكن سآخذ عليكنّ”، فأخذ علينا حتى بلغ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ {12} [سورة الممتحنة] وقال: “فيما أطقتنّ واستطعتنّ”، فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا. وعند ابن حبّان: “إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة”. وفي رواية الطبري زيادة: “قالت: وما صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم منّا أحدًا”.

وأخرج مثل رواية أبي داود أيضًا يحيى بن سلام في تفسيره عن الشَّعبي أنهنّ كنّ يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب.

وفي كتاب طرح التثريب ما نصه: “قولها رضي الله عنها: “كان يبايع النساء بالكلام” أي فقط من غير أخذ كف ولا مصافحة، وهو دال على أن بيعة الرجال بأخذ الكف والمصافحة مع الكلام وهو كذلك، وما ذكرته عائشة رضي الله عنها من ذلك هو المعروف، وذكر بعض المفسرين أنه عليه الصلاة والسلام دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده ثم غمس فيه أيديهن، وقال بعضهم: ما صافحهن بحائل وكان على يده ثوب قطري، وقيل: كان عمر رضي الله عنه يصافحهن عنه، ولا يصح شىء من ذلك ولا سيما الأخير، وكيف يفعل عمر رضي الله عنه أمرًا لا يفعله صاحب العصمة” اهــ

ثم قال ما نصه: “وقد قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إنه يحرم مس الأجنبية ولو في غير عورتها كالوجه” اهــ

فبهذا البيان بطل تأويل التحريرية أتباع حزب التحرير ما أخرجه البخاري في الصحيح من قولها: “والله ما مسّت يده يد امرأة قطّ في المبايعة” بأن نفيها محمول على حسب علمها لا على الواقع.

ولفظ البخاري في صحيحه: حدّثنا إسحاق، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدّثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمّه، أخبرني عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن مَن هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ {12} [سورة الممتحنة]، إلى قوله: غَفُورٌ رَّحِيمٌ {12} [سورة الممتحنة]، قال عروة: قالت عائشة: فمَن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قد بايعتك كلامًا”، ولا والله ما مسّت يده يد امرأةٍ قطّ في المبايعة ما يبايعهنّ إلا بقوله: “قد بايعتك على ذلك”. اهــ

ولفظه عند ابن حبان عن عائشة أنها قالت: “ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله جلَّ وعلا، وما مست كفه كفَّ امرأة قط، وما كان يقول لهن إذا أخذ عليهن إلا قد بايعتكن كلامًا”.

ثم من الجواب على زعم حزب التحرير أن ما ورد في الحديث أنه مدّ يده، لا يلزم من مدّ يده صلى الله عليه وسلم من خارج البيت ومدّهنّ أيديهنّ من داخل البيت ثم قال: “اللهمّ اشهد”، المصافحةُ بمسّ اليد باليد، فكيف يحتجّون بهذا على ردّ حديث أميمة بنت رقيقة وحديث أسماء بنت يزيد وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “إني لا أصافح النساء”، وهذا شأن مَن يخوض في الاستدلال بالحديث لهوى في نفسه من غير أن يكون له إلمام بالحديث، وكذلك قبض المرأة يدها ليس فيه تصريح بأن غيرها من النساء صافحن بلا حائل.

ومعنى الإسعاد المتقدم ذكره في حديث أم عطية هو قيام المرأة مع الأخرى في النياحة تراسلها، قال الحافظ ابن حجر: “وفي رواية النسائي: “قال: فاذهبي فأسعديها” قالت: فذهبت فأسعدتها ثم جئت فبايعت”. اهــ

أقول: فإن قيل النياحة صحّت الأحاديث بالنهي عنها على وجه التحريم فهي من الكبائر، فما وجه الجمع بين ذلك وبين أن المرأة قالت للنبيّ لما قبضت يدها: “أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها”، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، فالجواب: أنه يفهم مما ورد في الحديث من تعدّد الألفاظ والطرق أن النياحة كانت مباحة ثم كرهت كراهة تنزيه ثم تحريمًا، فبهذا ذهب الإشكال.

ويدلّ على تحريم المصافحة للأجنبية أيضًا حديث: “لأن يطعن أحدكم في رأسه بمخيط من حديد خيرٌ له من أن يمسّ امرأة لا تحلّ له” رواه الطبراني وحسّنه الحافظ ابن حجر.

ثم المسّ في الحديث معناه الجسّ باليد ونحوها ليس الجماع كما زعمت التحريرية لأن راوي الحديث معقل بن يسار فهم من الحديث خلاف ما تدّعيه التحريرية، ذكر أثره ذلك المبيّن لمعنى المسّ ابن أبي شيبة في المصنّف.

ثم إن تفسير المسّ بالجماع مجاز ولا يعدل إلى المجاز إلا بدليل عقلي أو نقلي بشرط أن يكون العقلي قطعيًّا والنقلي ثابتًا، وفي غير ذلك تأويل النص من الحقيقة إلى المجاز عبث بالنص كما ذكر الأصوليون من الشافعية والحنفية وغيرهم، وأما كون المسّ مجازًا في معنى الجماع لا حقيقة فقد ذكره خاتمة اللغويين الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في شرحه على القاموس قال في إطلاق المسّ على الجماع إنه من الاستعارة، وذلك في مادة (م س س).

وأيضًا قولكم يا تحريرية بجواز مصافحة الرجل المرأة الأجنبية بلا حائل اجتهاد على خلاف النص فقد أخبر عليه الصَّلاة والسّلام أن العين تزني واليد تزني، روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: “فالعينان زناهما النظر”، وقال: “واليد زناها البطش”. والبطش هو الإِمساك باليد لأنّ البطش له معنيان في اللغة: أحدهما الأخذ بعنف والثاني عمل اليد. قال الفيّومي اللغوي في المصباح: “بطشت اليد: عملت”، والمراد بالبطش الوارد في حديث: “وزنى اليد البطش” هو الإمساك باليد بمصافحة أو غمز لشىء من بدنها للتلذّذ والاستمتاع بها، أو لغير ذلك بدون حائل، فلو لم يرد نص شرعي إلا هذا لكفى، فلا جواب لكم عن هذا الحديث، ولو كان مراد رسول الله بالبطش هنا الجماع لم يقل بعد ذلك: “والفرج  يصدق ذلك أو يكذبه”. فالمسألة ظاهرة ليس فيها خفاء، فلم يبق للتحريرية إلا المكابرة.