الجمعة مارس 29, 2024

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي شرح الصدور بنظم شمل الإسلام وسيرته، والصلاة والسلام على من شرفه الله بحسن الشمائل وخصه بعموم الفضائل والفواضل على خليقته، وعلى ءاله وصحبه التابعين له على منهاجه وطريقته، وبعد فهذه عجالة سنية على ألفية السيرة النبوية الحاوية مع ذلك للمعجزات والخصائص المصطفوية، نظم جدنا الأعلى من قبل الأم شيخ الإسلام حافظ مصر والحرمين والشام عبد الرحيم العراقي الشافعي رحمه الله، يبين مراده ويتمم مفاده مع الاختصار والاقتصار، والله أسأل أن ينعم بقوله ويحشرنا في زمرة رسوله، ءامين.

قال الناظم رحمه الله تعالى:

يقول راجي  من إليه المهربُ ** عبد الرحيم بنُ الحسينِ المُذنبُ

أحمدُ ربّي  بأتمّ الحمدِ ** وللصلاةِ     وللسلامِ  أهدي

إلى نبيه وأرجو الله ** في نُجح ما        سئلتهُ شِفاها

مِن نظمِ سيرة  النبي الأمجدِ ** ألفيةً     حاويةً للمقصدِ

وليعلم الطالبُ أن السيرا ** تجمعُ ما صحّ وما قد أنكرا

والقصدُ ذكرُ ما أتى أهلُ السير ** به وإن        إسنادهُ لم يُعتبر

فإن يكن قد صحّ  غيرُ ما ذكر ** ذكرتُ ما قد صحّ منهُ واستُطر

الشرح: ناظم هذه الألفية هو الشيخ الإمام الحبر الهمام أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم ابن الشيخ الإمام العابد الزاهد القدوة المسلك حسين بدر الدين بن أبي بكر بن إبراهيم الكردي الرازياني الأصل ثم المصري الشافعي المعروف بالعراقي نسبة إلى عراق العرب.

قال جدنا قاضي القضاة شيخ الإسلام الشرف المناوي: “نسبه متصل بالفاروق رضي الله عنه، لكن الشيخ كان لا يذكر ذلك تورعًا”، كانت إقامة أسلافه ببلدة يقال لها رازيان من أعمال إربل، ولهم هناك مناقب ومآثر مشهورة وكرامات مأثورة، ومنهم جماعات من العلماء وجماعات من الصلحاء. وسبب إتيان جده إلى مصر أن عميه انجفلا في نوبة غازان ملك التتار إلى مصر فلما استقرا بها أرسلا إليه فأحضراه إلى مصر وهو طفل، فنشأ بها على الاشتغال بالعلم والإقبال على شأنه، فولد بها هذا الإمام في الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبعمائة ونشأ بها، فحفظ القرءان وهو ابن ثمان والتنبيه والإلمام وأكثر الحاوي، وأراد حفظه كله في شهر فمل بعد اثني عشر يومًا، وكان يحفظ كل يوم أربعمائة سطر. ثم أخذ الفقه وأصوله عن ابن عدلان والسبكي والإسنوي والعلائي وابن كثير، وتوغل في القراءات فقال له العز بن جماعة: “إنه علمٌ كثير التعب قليل الجدوى وأنت متوقد الذهن فاصرف نفسك للحديث” فأقبل عليه حتى مهر وبرع فيه وفاق أهل عصره حتى وصفه مشايخه بأنه حافظ الوقت، ونقل عنه شيخه في المهمات وغيرها وترجمته في طبقات الشافعية ولم يذكر فيه أحدًا من الأحياء سواه، وامتنع السبكي حين قدم القاهرة من التحديث إلا بحضرته، وأولع بتخريج أحاديث الإحياء ورافق الزيلعي الحنفي في تخريج أحاديث الكشاف وأحاديث الهداية فكانا يتعاونان. كذا ذكره ابن قاضي شهبة.

وكان مفرط الذكاء جدًا بحيث يضرب به المثل في ذلك، وتصدى للتخريج والتصنيف والتدريس، فمن تصانيفه تخريج أحاديث الإحياء في كبير ومتوسط وصغير يسمى المغني وهو المتداول، وخرج أربعين متباينة البلاد، والألفية في علوم الحديث ثم شرحها، والألفية في السيرة هذه، وتقريب الاسانيد واختصره وشرح منه قطعة وكمله ولده، وشرح البخاري ولم يكمل ولو كمل لم يكن له نظير في بابه، وشرح سنن أبي داود ولم يكمل وبعضها عندي بخطه، وشرح مختصر ابن الصلاح، وكمل شرح الترمذي لابن سيد الناس فكتب منه عشر مجلدات نحو ثلثي الجامع ولم يكمله فكمله ولده، وكمل تكملة السبكي لشرح المهذب ولم تكمل، ونظم منهاج البيضاوي والاقتراح، وذيّل على الميزان للذهبي فأوعب، ونظم غريب القرءان، واستدرك على المهمات في الفقه كتابًا سماه تتمات المهمات، وعمل للوفيات ذيلًا على ذيل أبي الحسين، وأملى أكثر من أربعمائة مجلس من حفظه، وله غير ذلك مما كمل ومما لم يكمل.

وطار صيته وعلا ذكره وحج مرارًا وولي قضاء المدينة المشرفة وخطابتها وإمامتها، ثم عاد إلى القاهرة فولي عدة تداريس، ثم انجمع وتقلل مع تواضع وعفاف وكفاف ومروءة ونخوة وصدع بالحق لا يهاب سلطانًا ولا غيره، وصار المنظور إليه في فن الحديث من بين أهل عصره، وانتفع به الأصاغر والأكابر، وصاهره جدنا المناوي على ابنته بعد موته لما أخذ عن ولده شيخ الإسلام الولي العراقي فتزوج كل منهما أخت الآخر وأتى منها بأولاد.

وكان عالمًا باللغة والنحو والفقه والاصول لكن غلب عليه علم الحديث وانفرد بمعرفته.

وأخذ عنه علماء الديار المصرية وغيرهم، قال الحافظ ابن حجر: “ولم أر في جميع مشايخي أحسن صلاة منه”، وقد أفرد ولده ترجمته في مؤلف حافل، وفي هذا القدر كفاية.

مات في شعبان سنة ست وثمانمائة عقب خروجه من الحمام ودفن في تربة خارج باب البرقية.

قال الحافظ نور الدين الهيثمي: “رأيت المصطفى صلى الله عليه وسلم في النوم وعيسى عليه السلام عن يمينه والشيخ زين الدين العراقي عن يساره”.

وقوله: “أحمد ربي بأتم الحمد” أي بأكمله، والحمد والثناء باللسان على الجميل الاختياري، والصلاة من الله رحمة مقرونة بتعظيم، والسلام التسليم من الآفات المنافية للكمالات. والإضافة في قوله: “نبيه” للتشريف ومزيد التعظيم. والنبي إنسان أوحي إليه بشرع… فإن أمر فرسول أيضًا [1]، وإن لم يكن له كتاب ونسخ بعض شرع من قبله فإن كان فرسول أيضًا قولان ثالثهما هما بمعنى، ولفظه بالهمز من النبإ وهو الخبر لإخباره عن الله، وبدونه من النبوة بالفتح وهي الرفعة.

وقوله: “وأرجو الله في نجح ما سئلته” إلخ أي أؤمل من الله في قضاء حاجتك التي سألتني أيها الطالب فيها وهي نظم السيرة النبوية في ألف بيت، وقوله: “حاوية للمقصد” بكسر الصاد أي المقصود.

ثم أفاد أن السير يذكر فيها من الأخبار ما صح سنده وما أنكر ولا يعتبر أهله صحة الإسناد، فجرى في هذه الأرجوزة على طريقتهم لكن زاد إن كان ما ورد من طريق صحيح أو متماسك غير ما ذكروه نبّه عليه فهذا هو المراد بقوله “ذكرت ما قد صح منه واستطر” بالبناء للمجهول يقال: سطر واستطر: كتب، وهذه أرجوزة من أساطير الأولين مما سطروا من أعاجيب حديثهم، وسطر فلان: قص علينا من أساطيرهم، والأساطير الأباطيل، والألف من قوله “السيرا” و”أنكرا” للإطلاق.

[1] كان في المتن: “وإن لم يؤمر بتبليغه” وقد حذفناها من فوق وأثبتناها في الهامش مع التعليق فنقول: كلامه هنا يخالف ما ذكره في مقدمة كتابه “فيض القدير شرح الجامع الصغير” [1/15-16] الذي هو الصواب ونص عبارته: “والرسول والنبي طال فيما بينهما من النسبة الكلام، والمحققون كما قال ابن الهمام كالعضد والتفتازاني والشريف الجرجاني على ترادفهما لا فارق إلا الكتاب”، ثم قال: “وقال في المقاصد: النبي إنسان بعثه الله لتبليغ ما أوحي إليه، قال وكذا الرسول، قال الكمال بن أبي شريف: هذا ينبئ عن اختياره للقول بترادفهما.

وفي شرح العقائد بعد ما ذكر أنه لا يقتصر على عدد في تسمية الأنبياء ما نصه: وكلهم كانوا مبلغين عن الله تعالى لأن هذا معنى النبوة والرسالة، قال الكمال بن أبي شريف: هذا مبني على أن الرسول والنبي بمعنى واحد. وقال الإمام الرازي في تفسيره: ولا معنى للنبوة والرسالة إلا أن يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم، وفي المواقف وشرحه في السمعيات: النبي من قال له الله تعالى أرسلتك إلى قوم كذا أو إلى الناس جميعًا أو بلغهم عني أو نحوه، ولا يشترط في الإرسال شرط.

وفيه في شرح الديباجة: الرسول نبي معه كتاب، والنبي غير الرسول من لا كتاب معه بل أمر بمتابعة شرع من قبله كيوشع. قال المتولى خسرو: تبع –يعني الشريف- صاحب الكشاف في تفسير الرسول، واعتراضه بأنه لا يوافق المنقول في عدد الرسل والكتب إذ الكتب نحو مائة والرسل أكثر من ثلاثمائة مدفوع بأن مراده بمن معه كتاب أن يكون مأمورًا بالدعوة إلى شريعة كتاب سواء أنزل على نفسه أو على نبي ءاخر. قال: والأقرب أن الرسول من أنزل عليه كتاب أو أمر بحكم لم يكن قبله وإن لم ينزل عليه كتاب، والنبي أعم لما في ذلك من النقض عما أورد على الأول من أنه يلزم عليه أن يكون من بعث بدون كتاب ولا متابعة من قبله خارجًا عن النبي والرسول معًا، اللهم إلا أن يقال إنه لا وجود لمثله. انتهى.