الجمعة مارس 29, 2024

باب ما جاء في قراءة سورة يس

عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” اقرءوا يس على موتاكم “، رواه أبو داود[1] والنسائي[2] وابن ماجه[3] وابن حبان[4] وصححه، وأحمد[5] والطبراني[6] والحاكم[7] والبيهقي[8] وابن أبي شيبة[9] والطيالسي[10] وغيرهم.

هذا الحديث ضعفه بعضهم، لكن صححه ابن حبان، وسكت عنه أبو داود فهو حسن عنده، وحسنه الحافظ السيوطي[11] أيضا.

فهذا الحديث شاهد لنفع الميت بقراءة غيره، وكذلك حديث: ” يس قلب القرءان لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له، واقرءوها على موتاكم “. رواه أحمد[12] والنسائي[13] والطبراني[14] وغيرهم.

وعلى تقدير ضعفه فقد قال الإمام أحمد بن حنبل والإمام عبد الله بن المبارك والإمام عبد الرحمن بن مهدي وغيرهم: إذا روينا في الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا.[15]اهـ

قال الحافظ النووي في كتابه الأذكار ما نصه[16]: قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم: يـجوز ويستحب العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعا. اهـ

قال أبو عبد الله القرطبي[17] بعد ذكره الحديث: اقرءوا يس عند موتاكم: يـحتمل أن تكون هذه القراءة عند الميت في حال موته ويحتمل أن تكون عند قبره. اهـ[18]

قال ابن القطان [وهو من مشايخ الحافظ ابن حجر] في رسالته” القول بالإحسان العميم في انتفاع الميت بالقرءان العظيم” ما نصه: وأول جماعة من التابعين القراءة للميت بالـمحتضر، والتأويل خلاف الظاهر، ثم يقال عليه: إذا انتفع الـمحتضر بقراءة يس، وليس من سعيه، فالـميت كذلك، والـميت كالحي الحاضر يسمع كالحي الحاضر كما ثبت في الحديث[19].اهـ

 وقد ذكر عدد من الفقهاء أن المراد بالحديث أنـها تقرأ بعد الموت، منهم الإمام ابن الرفعة[20] وابن عبد الواحد المقدسي[21] وشمس الدين المنبجي الحنبلي[22] ومحمد الفتوحي المعروف بابن النجار[23] والزركشي[24] وشمس الدين الرملي[25] وغيرهم كثير.

ومن قال من العلماء إن المراد بالحديث الـمحتضر، لا يـمنعون من قرءاة القرءان بعد الموت، كما مر سابقا نقل الإجماع على هذا، وإنما مرادهم بيان المراد من كلمة “موتاكم” في هذا الحديث.

قال الفقيه الحنبلي محمد شمس الدين المنبجي، بعد ذكره حديث معقل بن يسار[26]: وفيه دليل على وصول القراءة إلى الميت فإنه صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقرأها على موتانا، وأمره في هذا المكان أمر إرشاد لا يجوز أن يعرى عن فائدة، ولا فائدة للعبد بعد موته أعظم من الثواب، فإنا نعلم يقينا، أن الميت من أحوج الناس الى ما يقربه من رحمة الله، ويباعده من عذاب الله، وقد امتنع عليه ذلك بعد موته بفعل نفسه، فما بقي يحصل له ذلك إلا بفعل غيره، والحصول هو الثواب المترتب على القراءة، والله أعلم.اهـ

فإن قيل ما معنى قوله تعالى: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى؟ فالجواب: أن هذه الآية لم تنف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفت ملك غير سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء يبذله لغيره وإن شاء يبقيه لنفسه، وهو سبحانه وتعالى لم يقل إنه لم ينتفع إلا بما سعى[27]، وعموم الآية مخصوص بـما مر ذكره من صدقة وحج عن الميت ودعاء ونحو ذلك، لـما تقدم من الأدلة.

فقد ذكر الحافظ مرتضى الزبيدي في الإتحاف[28] عن الحافظ السيوطي[29] أقوال العلماء في هذه الآية ومنها: أنـها خاصة بقوم إبراهيم وموسى عليهما السلام، فأما هذه الأمة فلها ما سعت وما سعي لها، قاله عكرمة، ومنها: أن المراد بالإنسان هنا هو الكافر، فأما المؤمن فله ما سعى وما سعي له قاله الربيع بن أنس، ومنها: ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل، فأما من باب الفضل فجائز أن يزيده الله ما شاء قاله الحسين بن الفضل.اهـ ثم نقل الزبيدي

عن ابن القطان عدة أقوال للمفسرين في الآية: ومنهم من قال: لم ينف في الآية انتفاع الرجل بسعي غيره له وإنما نفى عمله بسعي غيره وبين الأمرين فرق، ثم قال ابن القطان: والصحيح من الأجوبة أن قوله تعالى: وإن ليس للإنسان إلا ما سعى، عام مخصوص لما تقدم من الأدلة وكذا: لا تجزون إلا ما كنتم تعملون، وكذا: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث. اهـ

وفي فتاوى الحافظ ابن الصلاح[30]: مسألة في قوله تعالى: ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى )، وقد ثبت أن أعمال الأبدان لا تنتقل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له، وقد اختلف في القرآن هل يصل إلى الميت أم لا كيف يكون الدعاء يصل إليه والقرآن أفضل؟ أجاب رضي الله عنه: هذا قد اختلف فيه، وأهل الخير وجدوا البركة في مواصلة الأموات بالقرآن وليس الاختلاف في هذه المسألة كالاختلاف في الأصول بل هي من مسائل الفروع، وليس نص الآية المذكورة دالا على بطلان قول من قال: إنه يصل، فإن المراد: أنه لا حق له ولا جزاء إلا فيما سعى فلا يدخل فيما يتبرع عليه الغير من قراءة أو دعاء، فإنه لا حق له في ذلك ولا مجازاة وإنما أعطاه إياه الغير تبرعا، وكذلك الحديث لا يدل على بطلان قوله، فإنه في عمله وهذا من عمل غيره.اهـ

قلنا: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له“. رواه مسلم[31]. ففيه نفي استمرار العمل التكليفي الذي يتجدد به للميت ثواب، أما أن ينتفع الميت بعمل غيره فليس ممنوعا بدليل أن الميت ينتفع بدعاء غيره والصدقة عنه ولو من غير ولده، فكذلك ينتفع الميت بدعاء قارىء القرءان إذا قال: اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان، بإذن الله تعالى.

قال النووي في شرح صحيح مسلم[32]: قال العلماء: معنى الحديث: أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له، إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم، أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي الوقف.اهـ

[1]  سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب القراءة عند الميت.

[2]  سنن النسائي الكبرى، ما يقرأ على الميت، وفي عمل اليوم والليلة للنسائي، ما يقرأ على الميت. ولفظه: (اقرءوا على موتاكم يس).

[3]  سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر. ولفظه: (اقرءوها عند موتاكم يعني يس).

[4]  صحيح ابن حبان، كتاب الجنائز، فصل في المحتضر، قراءة سورة “يس” على من حضرته المنية، ولفظه: (اقرءوا على موتاكم يس).

[5]  مسند أحمد [تابع مسند البصريين]، حديث معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه. ولفظه: (اقرءوها على موتاكم يعني يس).

[6]  المعجم الكبير، للطبراني، معقل بن يسار ويكنى أبا علي، ولفظه: (اقرءوها على موتاكم يعني يس).

[7]  مستدرك الحاكم، كتاب فضائل القرآن، ذكر فضائل سور، وآي متفرقة. ولفظه: (سورة يس اقرءوها عند موتاكم). وقال الحاكم: وقفه يحيى بن سعيد وغيره عن سليمان التيمي، والقول فيه قول ابن المبارك، إذ الزيادة من الثقة مقبولة.

[8]  السنن الكبرى، للبيهقي، باب ما يستحب من قراءته عنده، ولفظه: (اقرءوها عند موتاكم يعنى سورة يس).

[9]  مصنف ابن أبي شيبة، ما يقال عند المريض إذا حضر، ولفظه:(اقرؤوها عند موتاكم يعني يس).

[10]  مسند الطيالسي، ما أسند عن معقل بن يسار، ولفظه: (اقرءوا يس على موتاكم).

[11]  الجامع الصغير للحافظ السيوطي، تتمة باب حرف الألف. وقال في “إسعاف المسلمين والمسلمات بـجواز القراءة ووصول ثوابـها إلى الأموات” (ص/6-7): فسكوت الإمام أبي داود عن تضعيفه إن لم يكن صحيحا عنده كما قال ابن حبان فهو مقبول ولا يبعد عن درجة الحسن لغيره، فهو محتج به على كل حال، وعليه فلا يلتفت لرأي أحد بعد ما أمر الرسول بـها كائنا صاحبه من كان. قال الإمام أحمد في المسند أيضا: حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان أن المشيخة كانوا يقولون: إذا قرئت – يعني يس- على ميت خفف عنه ـبها. وأسنده صاحب الفردوس، قال محب الدين الطبري: المراد الميت الذي فارقته روحه، وحمله على المحتضر قول بلا دليل.اهـ قلنا: قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: حرف الغين المعجمة، القسم الأول [من ذكر له صحبة، وبيان ذلك].الغين بعدها الضاد والطاء )5/190، دار الكتب العلمية( عن ما نقله الإمام أحمد عن المشيخة: وهو حديث حسن الإسناد.اهـ

[12] مسند أحمد [تابع مسند البصريين]، حديث معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه.

[13]  سنن النسائي الكبرى، وفي عمل اليوم والليلة، ما يقرأ على الميت.

[14]  الطبراني في المعجم الكبير، معقل بن يسار يكنى أبا علي.

[15]  نقل عنهم ذلك جمع، انظر الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي، (ص/133، دائرة المعارف العثمانية)، مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، (ص/286، دار المعارف)، تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي للحافظ السيوطي، (1/298، دار الفكر)، ومنهج ذوي النظر لمحمد محفوظ الترمسي(ص/116، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي)، وغيرهم.

[16]  الأذكار، فصل في الأمر بالإخلاص وحسن النيات في جميع الأعمال الظاهرات والخفيات. (ص/10-11).

[17]  التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، باب ما جاء في قراءة القرآن عند القبر حالة الدفن وبعده وأنه يصل إلى الميت ثواب ما يقرأ ويدعى ويستغفر له ويتصدق عليه. (ص/90)

[18]  قال الفقيه أبو العباس الونشريسي في المعيار المعرب (1/313، نشر وزراة الأوقاف والشئون الإسلامية للمملكة المغربية): والأصل في القراءة على الميت عند دفنه الحديث المشهور في حديث يس اقرءوها على موتاكم فخصه قوم بحالة الاحتضار وأطلقه الآخرون. اهـ

[19]  نقل عنه ذلك الحافظ الزبيدي وأقره في إتحاف السادة المتقين، بيان زيارة القبور والدعاء للميت وما يتعلق به. (10/370).

[20]  انظر كفاية النبيه شرح التنبيه لابن الرفعة ،كتاب الجنائز، باب ما يفعل بالميت، (5/12). وذكر أن الأصح أن تقرأ بعد الموت، وقال القاضي حسين: وقيل تقرأ عند القبر. اهـ

[21]   نقل عنه ذلك الحافظ السيوطي في شرح الصدور (ص/312).

[22]  انظر كتابه  تسلية أهل المصائب في موت الأولاد والأقارب، الباب الثالث والعشرون: في الصدقة عن المصاب به وأفعال البر عنه، فصل: في الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب.(1/179، دار الكتب العلمية). وعبارته في الرد على من قال المراد بالقراءة عند الاحتضار: هذا خلاف الحقيقة، فإنه إذا حمل على من سيموت يكون حمل اللفظ على مجازه، ومعلوم أن حمل اللفظ على حقيقته أولى من حمله على مجازه، فإن سلم أنه أريد به المحتضر، فهو حجة على المخالف المانع من وصول ثواب القراءة إلى الميت، فإن قول المخالف في أن الحي لا ينتفع بعمل الغير، أشد من قوله في الميت.اهـ

[23]  انظر كتابه شرح الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير، اطلاق اللفظ على حقيقته ومجازه الراجح معا (3/ 196، مكتبة العبيكان)، وعبارته: قوله صلى الله عليه وسلم:” اقرءوا يس على موتاكم“، يشمل المحتضر والميت قبل الدفن وبعده، فبعد الموت حقيقة، وقبله مجاز.اهـ

[24]  نقله عنه ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الكبرى الفقهية، باب الجنائز، (2/27، دار الفكر). وعبارته: أخذ ابن الرفعة كغيره بظاهر الخبر من أنها تقرأ عليه بعد موته وهو مسجى بل في وجه لبعض أصحابنا أنها تقرأ عليه عند القبر، وتبع هؤلاء الزركشي فقال لا يبعد على القول باستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه أنه يندب قراءتها في الموضعين.اهـ

[25]  انظر كتابه نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ، كتاب الجنائز، (2/437، دار الفكر)، وعبارته بعد ذكر قول ابن الرفعة: ولك أن تقول: لا مانع من إعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.اهـ

[26]  انظر كتابه تسلية أهل المصائب في موت الأولاد والأقارب، الباب الثالث والعشرون: في الصدقة عن المصاب به وأفعال البر عنه، فصل: في الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب (1/179).

[27]  وإلى أولئك المشوشين الذين يقدسون ابن تيمية، نقول لهم: قال ابن القيم في كتاب الروح (ص/174): وكان شيخنا- يعني ابن تيمية- يختار هذه الطريقة ويرجحها. اهـ وقال ابن تيمية: من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع. اهـ انظر كتاب “جامع المسائل لابن تيمية”(5/ 203، دار عالم الفوائد).

[28]  إتحاف السادة المتقين للحافظ الزبيدي، بيان زيارة القبور والدعاء للميت وما يتعلق به. (10/372).

[29]  شرح الصدور للسيوطي، باب في قراءة القرءان للميت أو على القبر (ص/310)

[30]  فتاوى ومسائل ابن الصلاح (1/149، دار المعرفة)

[31]  صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته

 

[32]  شرح صحيح مسلم للنووي (11/85)، وإلى أولئك الذين يقدسون ابن القيم نقول لهم: قال ابن القيم في كتاب الروح (ص/175): وأما استدلالكم بقوله صلى الله عليه وسلم: إذا مات العبد انقطع عمله، فاستدلال ساقط، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقل انقطع انتفاعه، وإنما أخبر عن انقطاع عمله، وأما عمل غيره فهو لعامله فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل، لا ثواب عمله هو، فالمنقطع شيء والواصل إليه شيء آخر. اهـ