المقالة السادسة : مخالفته إجماع المسلمين في مسئلة الطلاق
واما مخالفته للإجماع في مسألة الطلاق فهو مما شهر عنه وحبس لأجله، قال تقي الدين الحصني ما نصه: وأما الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه –أي ابن تيمية- البتة ولا يعتبره، سواء كان بالتصريح أو الكناية أو التعليق أو التنجيز، وإشاعته هو وأتباعه أن الطلاق الثلاث واحدة خُزعبلات ومكرٌ، وإلا فهو لا يوقع طلاقًا على حالف به ولو أتى به في اليوم مائة مرة على أي وجه سواء كان حثًا أو منعًا أو تحقيق خبر فاعرف ذلك، وأن مسألة الثلاث إنما يذكرونها تسترًا وخديعة وقد وقفت على مُصنف له في ذلك وكان عند شخص شريف زينبي وكان يرد الزوجة إلى زوجها في كل واقعة بخمسة دراهم، وإنما أطلعني عليه لأنه ظن أني منهم فقلت له: يا هذا أتترك قول الإمام أحمد وقول بقية الأئمة وتقول بقول ابن تيمية، فقال: اشْهَدْ عليّ أني تُبت، وظهر لي أنه كاذب في ذلك ولكن جرى على قاعدتهم في التستر والتقية، فنسأل الله العافية من المخادعة اهـ.
وتعلقوا لمسألة الطلاق الثلاث بما رواه مسلم عن عبد الله بن عباس أنه قال: “كان الطلاق طلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر واحدًا، ثم قال عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.
هذا الحديث لا يجوز العمل بظاهره، والجواب عنه: إما أن يقال إنه ضعيف بالشذوذ كما حكم الإمام أحمد بن حنبل عليه، وقد ذكر ذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي في رده على من جعل الثلاث بلفظ واحد واحدًا، وبمخالفته لما ثبت عن عبد الله بن عباس أنه ألإتى فيمن طلّق بالثلاث دفعة واحدة بأنه ثلاث، وقد تواتر ذلك عن ابن عباس، فقد ذكر البيهقي في السنن الكبرى بأسانيده عن ثمانية من ثقات تلاميذه أنه أفتى بذلك [1]. وإما أن يقال: إنه مؤول بأن معنى “كان الطلاق طلاق الثلاث واحدًا” أن البتة كانت تستعمل للطلاق الواحد للتأكيد، ثم صار الناس يستعملونها في اثناء خلافة عمر بقصد الثلاث فأجرى عليهم عمر الحكم على موجب قصدهم، وبيان ذلك أن قول الناس أنتِ طالق البتة كانت تستعمل في أول الأمر بنية تأكيد الطلقة الواحدة ثم اشتهرت للطلاق الثلاث، لذلك اختلف فيها مذاهب الأئمة، فكان منهم من يجعل البتة للثلاث، وكذلك أنتِ حرام عليّ وأنتِ بائن، ومنهم من يجعلها على حسب القصد، ويدل لذلك أن في بعض نسخ مسلم عند المغاربة: “كانت البتة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة”، كما ذكر ذلك الحافظ أبو بكر بن العربي في كتابه: القَبَس على موطأ مالك بن أنس.
وإما أن يعارض هذا الحديث بالإجماع المنعقد على أن الثلاث بلفظ واحد ثلاث في عهد عمر ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في ءاخر بحث له واسع في هذه المسألة أي مسألة جمع الثلاث في شرحه على البخاري، فإن هذه المسألة ليس فيها خلاف معتدّ به، والخلاف الذي يأتي بعد الإجماع لا عبرة به، وأما ما نقله الحافظ ابن حجر أن ذلك روي عن علي وغيره فلم يذكره الحافظ بصيغة الجزم، إنما مراده أن بعض الناس نقل ذلك عن علي وغيره، فلا يناقض ما قرره من الإجماع في ءاخر المبحث في ذلك الشرح، فإنه لو كان عنده ثابتًا ذلك النقل عن علي ومن ذكر معه لم يختم المبحث بقول: “المسئلة إجماعية”.
ولم يثبت عن أحد من مجتهدي أهل السنة الخلاف في هذه المسألة حتى إن ابن تيمية الذي احيا هذا الخلاف كان صرّح قبل ذلك بأنه هذه المسألة إجماعية وقال إن من خالف فيها كافر، نقل ذلك عنه الحافظ أبو سعيد العلائي. وليس ابن تيمية من أهل الاجتهاد، وخلافه هذا نظير خلافه في مسئلة بقاء النار بعد أن نقل في كتابه منهاج السنة النبوية اتفاق المسلمين على بقاء الجنة والنار، وأنه لم يخالف في ذلك إلا جهم بن صفوان وأنهم كفروه، فنقض هذا الإجماع فقال: إن نار جهنم تفنى. وكذلك قوله: إن الطلاق المعلق على وجه اليمين لا يقع بوقوع المعلق عليه، وإنه ليس في ذلك إلا الكفارة خرق في ذلك إجماع علماء الإسلام على أن الطلاق المعلق يقع إذا وقع المعلق عليه إن كان على وجه اليمين أو على غير وجه اليمين. فهل يجوز أن يعدّ مثل هذا إمامًا مجتهدًا يؤخذ بقوله الذي يجتهد به. والذين روى عنهم أنهم قالوا به ممن هم معدودون من أهل السنة لم يثبت عنهم، وإنما نسب إليه نسبة، ولا يثبت قول لإمام لمجرد النسبة إليه. ونحمد الله على نبذ المحاكم السعودية لرأي ابن تيمية في الطلاق، وأما محاكم مصر فلا داعي لموافقتها في هذا التحريف فإنه منابذ للإجماع الذي عليه المذاهب الأربعة وغيرهم، والسبب في عدم موافقة القضاة في المحاكم السعودية لابن تيمية أنه مخالف لمذهب الإمام أحمد كما هو مخالف للإجماع في هذه المسألة التي ليس لأحمد فيها قول مخالف، بل جميع أصحاب أحمد متفقون على أن مذهبه أن الثلاث بلفظ واحد ثلاثة.
وأما السبب في تغيير الحكم في المحاكم المصرية قاض كان بمصر في عصرنا كان مولعًا بابن تيمية، فأحيا ضلالته مع موافقة أهواء الجاهلين المتهورين في الطلاق، فجرأهم على إيقاع الثلاث على ظن أن لهم رجعة بعد ذلك، وهذا على أحد قولي ابن تيمية، والقول الآخر عنه أن الثلاث بلفظ واحد لا شيء، فمن قلّده بذلك يرجع إلى امرأته المطلقة بالثلاث بلا تجديد العقد بعد أن تنكح زوجًا ءاخر.
ومن اعتبر ابن تيمية من المجتهدين الذين يجوز تقليدهم فقد بعد عن الصواب، كيف وهو القائل إن العالم أزليٌّ بجنسه، أي أن جنس العالم لم يتقدمه الله بالوجود وإنما تقدّم الأفراد المعينة، وقد اتفق المسلمون على تكفير من يقول بأن العالم أزلي مع الله سواء جعله أزليًا بنوعه فقط أو بنوعه وتركيبه وأفراده المعينة. وقد نص ابن تيمية على ما ذكرنا عنه في خمسة من كتبه كما سبق بيانه. ثم كيف تجرأ المفتونون به على اعتباره مجتهدًا ومن شرط المجتهد الإسلام ومن يقول بتلك المقالة مقطوع بكفره كما نقل الإجماع على ذلك المحدث الفقيه الأصولي بدر الدين الزركشي ما مر.
ثم إن من أخذ بظاهر حديث: كان الطلاق طلاق الثلاث… يكون خوّن عمر بن الخطاب وابن عباس. وأما تخوينهم لعمر فلأنهم جعلوه حكم بتحريم النساء المطلقات بالثلاث باللفظ الواحد على أزواجهن إلا بعد أن ينكحن أزواجًا ءاخرين وهو بزعمهم يعلم أن الرسول وأبا بكر حكمهما خلاف ذلك، بل في ذلك تكفير لعمر لأن من حرّف حكمًا لرسول الله قد شرعه معتبرًا ذبك حقًا فهو كافر.
وأما تخوينهم لابن عباس فمن قال منهم بأن ابن عباس أفتى بأن الثلاث بلفظ واحد ثلاث مع علمه بأن حكم رسول الله خلاف ذلك فقد نسبه لتحريف حكم رسول الله عمدًا، ثم هذا تخوين للصحابة الذين كانوا في ذلك الوقت كعلي رضي الله عنه حيث إنهم سكتوا بزعمهم لعمر على تحريفه الباطل لحكم الشرع، وعمر هو القائل: نعوذ بالله من مُعضلةٍ ليس لها أبو الحسن، فكيف يليق بأبي الحسن أن يسكت لو كان يعلم أن هذا خلاف حكم الرسول. سبحانك هذا بهتان عظيم.
وهذا بخلاف ما فعله عمر من ضرب شارب الخمر ثمانين بعد أن كان يضرب في زمن الرسول وأبي بكر أربعين لأن ذلك ليس فيه ما في هذا، كما قال علي بن أبي طالب عند جلد أربعين إنه سنة وعن جلد ثمانين إنه سنة، كما رواه مسلم وغيره. فلا يجوز أن يجعل هذا نظير ذاك لأن ما فعله عمر في مسألة الجلد ليس فيه إبطال حكم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن فعل الرسول لذلك لا يتضمن أن ما سوى هذا العدد حرام.
ولنذكر هنا ما قاله المرداوي الحنبلي في الإنصاف [2] الذي هو شرح كتاب المقنع، قال: قوله: -يعني صاحب المقنع- وإن قال: أنت الطلاق، أو: الطلاق لي لازم، وكذا قوله: الطلاق يلزمني، أو: يلزمني الطلاق، أو: علي الطلاق، ونحوه، ونوى الثلاث طلقت ثلاثًا، وإن لم ينوِ شيئًا، أو قال: أنتِ طالق ونى الثلاث ففيه روايتان. اعلم أن الصحيح من المذهب أن قوله: أنت الطلاق أو الطلاق لي لازم، أو: يلزمني الطلاق، أو: علي الطلاق، ونحوه، صريح في الطلاق منجزًا كان أو معلقًا بشرط أو محلوفًا به، نص عليه وعليه جماهير الأصحاب وقطع به كثير منهم، لكن هل هو صريح في الثلاث أو في واحدة؟ يأتي ذلك وقيل ذلك كناية.
قال في القواعد الفقهية وتبعه في الاصولية: لو نوى به ما دون الثلاث فهل يقع به ما نواه خاصة، أو يقع به الثلاث ويكون ذلك صريحًا في الثلاث فيه طريقان للأصحاب انتهى.
وذكر الشيخ –يعني ابن تيمية- أن قوله: الطلاق يلزمني ونحوه يمين باتفاق العقلاء والأمم والفقهاء، وخرجه على نصوص الإمام أحمد رحمه الله، قال في الفروع [3]: وهو خلاف صريحها.
وقال الشيخ أيضًا: إن حلف به نحو: الطلاق لي لازم ونوى النذر كفّر عند الإمام أحمد رحمه الله. ذكره عنه في الفروع في كتاب الأيمان ونصره في أعلام الموقعين هو والذي قبله. انتهى كلام المرداوي. الشاهد أن ابن تيمية ادعى اتفاق العقلاء والأمم والفقهاء على أن قول الشخص: الطلاق يلزمني ونحوه يمين وقد فنّده صاحب الفروع بقوله: وهو خلاف صريحها، أي خلاف صريح نصوص أحمد، فقد ظهر أنه ادعى الإجماع في أمر نص أحمد على خلافه، ومراد ابن تيمية بهذا الذي ادعاه تأييد رايه المخالف للإجماع أن الطلاق إذا كان على وجه اليمين والحلف لا يقع، وإنما يترتب على ذلك كفارة اليمين، وتبين أن غرض ابن تيمية بهذا الدعوى تأييد هواه. وفي هذا البيان فائدة أخرى وهي أن ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية ينسبان لأحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قال: من ادعى الإجماع فقد كذب، ألا ترون تهافته حيث ادعى في هذه المسئلة لتأييد هواه اتفاق العقلاء والأمم والفقهاء، وقد ثبت عن أحمد القول بالإجماع في مسائل عديدة.
الهوامش:
1- الثمانية هم: عكرمة مولى ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، ومعاوية بن أبي عياش الأنصاري. انظر سنن البيهقي [7/337].
2- انظر الكتاب [9/4-5].
3- يعني شمس الدين بن مفلح صاحب كتاب الفروع وهو من تلامذة ابن تيمية وممن لازمه، لكنه لم يوافقه في مسألة الطلاق لأنه رأى أن نصوص أحمد على خلاف ابن تيمية.