المقالة السابعة : بيان انحراف ابن تيمية عن سيدنا علي رضي الله عنه
ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة [1] أن ابن تيمية خطّأ أمير المؤمنين عليًا كرم الله وجهه في سبعة عشر موضعًا خالف فيها نص الكتاب، وأن العلماء نسبوه إلى النفاق لقوله هذا في علي كرم الله وجهه، ولقوله أيضًا فيه: إنه كان مخذولًا، وإنه قاتل للرئاسة لا للديانة. وقد ذكر ابن تيمية ذلك في كتابه المنهاج [2] فقال ما نصه: “وليس علينا أن نبايع عاجزًا عن العدل عليًا ولا تاركًا له، فأئمة السنة يسلمون أنه ما كان القتال مأمورًا به لا واجبًا ولا مستحبًا” اهـ.
ويقول في موضع ءاخر [3] ما نصه: “… وإن لم يكن علي مأمورًا بقتالهم ولا كان فرضًا عليهم قتالهم بمجرد امتناعهم عن طاعته مع كونهم ملتزمين شرائع الإسلام” اهـ. ويقول في نفس الكتاب بعد ذكره أن قتال علي في صفين والجمل كان بالرأي ولم يكن علي مأمورًا بذلك ما نصه [4]: “… فلا رأي أعظم ذمًا من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من المسلمين، ولم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا في دنياهم بل نقص الخير عما كان وزاد الشر على ما كان…” اهـ. ويقول [5]: “وأن عليًا مع كونه أولى بالحق من معاوية لو ترك القتال لكان أفضل وأصلح وخيرًا” اهـ.
فقوله: “إنه ما كان القتال مأمورًا به لا واجبًا ولا مستحبًا،”، وقوله: “لو ترك القتال لكان أفضل وأصلح وخيرًا” مخالف لما رواه النسائي بالإسناد الصحيح في الخصائص عن علي رضي الله عنه أنه قال: “أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين”. والناكثون هم الذين قاتلوه في وقعة الجمل، والقاسطون هم الذين قاتلوه في صفين، والمارقون هم الخوارج، وهذا الحديث إسناده صحيح ليس فيه كذاب ولا فاسق كما ادعى ابن تيمية.
وكلامه هذا أيضًا ردّ لقول الله تعالى: {فإن بَغَتْ إحداهُما على الأخرى فقاتِلوا التي تبغي} [سورة الحجرات/9]، وقد اتفق العلماء على أن عليًا رضي الله عنه هو أول من قاتل البغاة فشغل بهم عن قتال الكفار المعلنين اليهود والنصارى وغيرهم حتى قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: “أخذنا أحكام البغاة من سِيَر علي”. وأيضًا فيه رد لحديث الحاكم وابن حبان والنسائي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “إن منكم من يقاتل على تأويل القرءان كما قاتلتُ على تنزيله”، فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله، قال: “لا”، فقال عمر: أنا يا رسول الله، قال: “لا، ولكنه خاصف النعل”. [وكان علي يخصف نعله].
قال ابن تيمية في نقد مراتب الإجماع ما نصه: قال –يعني ابن حزم- واتفقوا أن الإمام إذا كان من ولد عليّ وكان عدلًا ولم يتقدم بيعته بيعة أخرى لإنسان حيّ وقام عليه من هو دونه أن قتال الآخر واجب، قال ابن تيمية: قلت ليس للأئمة في هذه بعينها كلام ينقل عنهم ولا وقع هذا في الإسلام إلا أن يكون في وقعة علي ومعاوية، ومعلوم أن أكثر علماء الصحابة لم يروا القتال مع واحد منهما وهو قول جمهور أهل السنة والحديث وجمهور أهل المدينة والبصرة وكثير من أهل الشام ومصر والخلف اهـ. هذا نصه في التعليق على مراتب الإجماع وهو افتراء ظاهر على العلماء.
ثم إن عليًا خليفة راشد واجب الطاعة على المؤمنين لقوله تعالى: {يا أيُّها الذينَ ءامنوا أطِيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأوْلي الأمرِ مِنكُمْ} [سورة النساء/59]. وهذا الذي فهمه الصحابة من كان منهم بدريًا ومن كان منهم أحديًا وكل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لأنه لم يكن مع معاوية واحد من هؤلاء. والرسول صلى الله عليه وسلم زكَّى قتال علي في جميع الوقائع بدليل ما أوردناه من الآيات والاخبار، نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني [6] عن الإمام أبي القاسم الرافعي محرر مذهب الشافعي ما نصه: وثبت أن أهل الجمل وصفين والنهروان بغاةٌ اهـ. قال الحافظ عقب قول الرافعي: “هو كما قال، ويدل عليه: “أمر بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين” رواه النسائي في الخصائص والبزار والطبراني،… والقاسطين أهل الشام لأنهم جاروا عن الحق في عدم مبايعته” اهـ.
وقال الحافظ في الفتح [7] ما نصه: “وقد ثبت أن من قاتل عليًا كانوا بغاة”. ويؤيد هذا ما رواه الحاكم في المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير: “إنك لتقاتلنَّه وأنت ظالم له”. فإذا كان الرسول اعتبر الزبير ظالمًا مع ما له من الفضل لأنه كان مع مقاتليه جزءًا من النهار، فكيف يقال عن هذا القتال الذي وصف الرسول مقاتلي علي فيه بالظلم والبغي: إنه ليس بواجب ولا مستحب، أليس هذا يدل على أن أحمد بن تيمية في قلبه ضغينة على سيدنا علي، ألا يعرف في نفسه أن قوله تعالى: {فقاتلوا التي تبغي} [سورة الحجرات/9] يعود إلى الخليفة في قتال من بغى عليه، وكيف يقال لمن أطاع الله تعالى في أمره إنّ فعله ليس بواجب ولا مستحب ومن المعلوم بالضرورة عند المسلمين أن قتال الخليفة لمن بغى عليه أمر مشروع بل فرض إذا لم تنكف الفئة الباغية، فانظروا كيف جعل الامتثال لأمر الله لغوًا.
وكيف أيضًا لإثبات ذلك الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: “ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار” أخرجه البخاري في كتاب الصلاة بهذا اللفظ، ورواه في موضع ءاخر في الجهاد والسير بلفظ: “يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار” ورواه ابن حبان أيضًا باللفظ الذي رواه البخاري في كتاب الصلاة، فالحديث بروايتيه من أصح الصحيح، فعمار الذي كان في جيش علي داع إلى الجنة بقتاله مع علي، فعلي داع إلى الجنة بطريق الأولى. ورواية الطبراني فيها زيادة وهي: “ويح عمار تقتله الفئة الباغية الناكثة عن الحق”. وعمار ما نال هذا الفضل إلا بكونه مع علي، فهو وجيشه دعاة إلى الجنة ومقاتلوهم دعاة إلى النار. فلو لك يكن إلا حديث البخاري هذا لكفى في تكذيب ابن تيمية. فكيف يقول إن القتال ليس واجبًا ولا مستحبًا فهذا إنكار لما علم من الدين بالضرورة وردّ للنص، والرسول زكّى قتال علي في جميع الوقائع.
وكيف يقول إنه لم يحصل بقتلهم مصلحة للمسلمين ولا في دينهم ولا في دنياهم وعلي كان داعيًا إلى الجنة ومن قاتل معه فله أجر ومن خالفه فهو باغ ظالم، يقول ابن تيمية هذا فيمن سمّاه الرسول داعيًا إلى الجنة.
فتسفيه ابن تيمية قتال علي رضي الله عنه دليل على أن يضمر ضغينة لسيدنا علي ويؤيد هذا قول الحافظ ابن حجر في لسان الميزان [8] عند ترجمة والد الحلي الذي ألّف ابن تيمية كتابه منهاج السنة النبوية في الرد عليه ونصه: “وكم من مبالغة له لتوهين كلام الحلي أدّت به أحيانًا إلى تنقيص علي رضي الله عنه” اهـ. أقول: ولقد صدق ابن حجر في قوله هذا.
وقد نص الإمام أبو الحسن الأشعري على أن مقاتلي علي ءاثمون، وأن ثلاثة منهم مغفور لهم: طلحة والزبير وعائشة، سواهم خطؤهم مجوّز الغفران. نقل عنه ذلك الإمام أبو بكر بن فورك أحد رءوس الاشاعرة القدماء فيما جمعه من كلام أبي الحسن، وفي إنكار ابن تيمية حقية قتال علي لهؤلاء الذين أوغروا صدره واستمروا على ذلك ثلاثة أشهر، وسفكوا دماء أكثر من عشرين ألف نفس فيهم أحد السبعة الذين أسلموا أولًا وهو عمار كما أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه وغيره وفيهم من شهد له الرسول بأنه خير التابعين أويس القرني دليل على أن ابن تيمية كان في نفسه شيء على علي رضي الله عنه. فإذا كان لا يجوز الخروج على أي خليفة عدل بالإجماع فماذا يقال في الخارجين على علي وهو خير أهل الأرض في عهده بلا خلاف. ثم زعم ابن تيمية أن معاوية ارتكب ما فعله عن اجتهاد فهو مردود، إنما قاتل للدنيا والمُلك روى مسدَّد في مسنده بالإسناد أن عليًا رضي الله عنه قال: إن بني أمية يزعمون أني قتلت عثمان وكذبوا إنما يريدون الملك فلو علمت أنه يردهم أن أحلف لهم عند الركن أني ما قتلت عثمان فعلت ولكنهم يريدون الملك، وروى ابن جرير عن عمار بن ياسر معنى هذا الكلام أي إن معاوية إنما أراد المُلك، فبعد ثبوت تزكية الرسول صلى الله عليه وسلم لقتال علي فليس ذلك إلا ردًا للنصوص، وردُّ النصوص كفر كما قاله النسفي في عقيدته وغيره، ألا يكفي معاوية هذا ذنبًا كبيرًا، فكيف وقد ثبت أنه كان يأمر بسبّ علي فقد روى مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدًا فقال: ما منعك أن تسبَّ أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثًا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبّه، لأن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له، خلّفه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون منموسى إلا أنه لا نبوة بعدي”، وسمعته يقول يوم خيبر: “لأعطينّ الراية رجلًا يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله”، قال فتطاولنا لها فقال: “ادعوا لي عليًا” فأُتي به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه. ولما نزلت هذه الآية: {فقُلْ تعالَوا نَدْعُ أبناءَنا وأبناءَكُم} [سورة ءال عمران/61] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا فقال: “اللهم هؤلاء أهلي” اهـ.
وأما قول كثير من الناس من أن معاوية اجتهد فأخطأ فليس بآثم فهو مصادم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الوارد في شأن عمّار أي قوله: “ويدعونه إلى النار”، كيف يقال فيمن سماهم الرسول دعاة إلى النار إنهم مجتهدون لا إثم عليهم. ثم إن معاوية ومن تابعه في هذا القتال لم يكن مجتهدًا الاجتهاد الشرعي الذي يحصل من المجتهد في مسئلة لم ينعقد فيها الاجماع، لأن عليًا أدرى بحال معاوية وقد قال: “إن بني أمية يزعمون أتي قتلت عثمان وكذبوا إنما يريدون الملك”، قال: “ولو علمت أنه يردهم عن ذلك أن أحلف عند المقام أني ما فعلت ذلك لم يرجعوا، وإنما يريدون الملك” اهـ.
فقول علي مقدّم على قول فلان وفلان من الذين أرادوا أن يعتذروا لمعاوية، بل ليس قول هؤلاء أمام قول علي رضي الله عنه إلا هباءً منثورًا، فمثله كمثل الناموسة تنفخ على جبل لتنزيله.
ثم أيضًا قول عمار رضي الله عنه مثل قول علي بدحض قول ألئك إنهم مجتهدون ليس عليهم إثم ولا ملامة. فقتال علي لمخالفيه الذي تسبب منه إراقة دماء ءالاف مؤلفة كان في طاعة الله تعالى لأنه امتثل قول الله تعالى: {فقاتلوا التي تبغي} [سورة الحجرات/9] وهي يلوم عليًا على ذلك إلا منافق؟!.
ومما يؤيد ما قلناه ما ذكره الإمام أبو منصور البغدادي في كتابه الفرق بين الفِرق [9] ونصه: وقالوا بإمامة علي في وقته، وقالوا بتصويب علي على حروبه بالبصرة وبصفين وبنهروان، وقالوا بأن طلحة والزبير تابا ورجعا عن قتال علي لكن الزبير قتله عمرو بن جرموز بوادي سباع بعد منصرفه من الحرب، وطلحة لما همّ بالانصراف رماه مروان بن الحكم –وكان من أصحاب الجمل- بسهم فقتله” اهـ. فطلحة قُتل لأنه رجع من المعسكر المضاد لعلي، وهذا لأنهما أي طلحة والزبير من الذين سبقت لهما الحسنى فلم يموتا إلا تائبين من مخالفة أمير المؤمنين بانضمامهما للمعسكر المضاد له.
ثم قال أبو منصور البغدادي: “وقالوا إن عائشة رضي الله عنها قصدت الإصلاح بين الفريقين فغلبها بنو ضبة والأزد على رأيها وقاتلوا عليًا دون إذنها حتى كان من الامر ما كان” اهـ. فعائشة رضي الله عنها كان ذنبها أنها وقفت في المعسكر المضاد لعلي، وما كان لها أن تقف، لكنها لن تمت حتى تابت من ذلك، فإنها كانت حين تذكر تلك الوقعة تبكي حتى تبل خمارها من دموعها.
وقال الإمام عبد القاهر التميمي في كتاب الإمامة [10]: أجمع علماء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة والاوزاعي والجمهور الاعظم من المتكلمين والمسلمين أن عليًا كرم الله وجهه مصيب في قتاله لأهل صفين كما هو مصيب في أهل الجمل. وأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له لكن لا يكفرون ببغيهم اهـ.
وروى البيهقي في سننه [11] وابن أبي شيبة في مصنفه [12] بالإسناد المتصل إلى عمار بن ياسر قال: “لا تقولوا كفر أهل الشام ولكن قولوا فسقوا وظلموا”، وزاد ابن أبي شيبة في إحدى رواياته: “ولكنهم قوم مفتونون جاروا عن الحق فحقّ علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا إليه” اهـ.
فبعد هذا كيف يصح أن يقال: إن معاوية اجتهد فأخطأ فنثبت له أجر الاجتهاد، كيف يكون مجتهدًا مأجورًا وفي حديث البخاري المتقدم: “ويدعونه إلى النار”، أليس كلامهم مخالفًا لقول عمار المتقدم: “ولكن قولوا فسقوا وظلموا” كيف يجتمع الظلم في مرتبة واحدة مع الأجر والثواب ويكون الظالم مأجورًا مثابًا، وأشد بعدًا عن الحقيقة قول من قال لا ملامة عليهم، وما هذا عند النظر إلى الحقيقة إلا تعاميًا عن الشمس في رابعة النهار ليس دونها سحاب.
تنبيه: ليس من سب الصحابة القول إن مقاتلي علي منهم بغاة، لأن هذا مما صرح به الحديث بالنسبة لبعضهم وهم أهل صفين، وقد روى البيهقي في كتابه الاعتقاد [13] بإسناده المتصل إلى محمد بن إسحاق وهو ابن خزيمة قال: “… وكل من نازع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في إمارته فهو باغ، وعلى هذا عهدت مشايخنا، وبه قال ابن إدريس يعني الشافعي رحمه الله. اهـ. فلا يعد ذكر ما جاء في حديث البخاري سبًا لصحابة إلا ممن بعُدَ عن التحقيق العلمي فليُتَفَطَّن لذلك. ثم هل نترك كلام عمار الذي صح في فضله أن الجنة تشتاق إليه وأنه ملئ إيمانًا إلى مشاشه ونتبع كلام زائغ ضال.
وأما من يُعارض حديث عمار المتواتر بمثل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: “إذا ذكر أصحابي فأمسكوا” فهو بعيد من التحقيق بعدًا كبيرًا لأن هذا لم يثبت، فكيف يحتج به في معارضة حديث ثابت متواتر فقد روى حديث “ويح عمار” أربعة وعشرون صحابيًا.
ومرادنا من هذا الكلام تبيين أن عليًا هو الخليفة الراشد الواجب الطاعة، وأن مخالفيه بغاة، فكيف يقول هذا الضال ابن تيمية إنه ما كان القتال مأمورًا به لا واجبًا ولا مستحبًا، وإنه لم يحصل للمسلمين فيه مصلحة لا في دينهم ولا في دنياهم.
ومن شدة مكابرة ابن تيمية للحق والصواب يقول في المنهاج [14] معلقًا على حديث عمار: “… فههنا للناس أقوال: منهم من قدح في حديث عمار، ومنهم من تأوّله على أن الباغي الطالب وهو تأويل ضعيف، وأما السلف والأئمة فيقول أكثرهم كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم: لم يوجد شرط قتال الطائفة الباغية” اهـ.
فهذا الكلام فاسد وباطل وكذب، فهل سمّى لنا القادحين في حديث عمار؟ أو ذكر لنا مستندًا له في إضعاف الحديث؟ فأي حديث يصح على زعمه إن لم يصح حديث عمار الذي رواه أكثر من عشرين صحابيًا. فما هو الحديث الذي يصح عند ابن تيمية؟ هل هو ذلك الحديث المفترى: “إن الله على عرشه لا يفضل منه مقدار أربع أصابع”، فهل يليق الالتفات إلى كلام هذا الرجل في التصحيح والتضعيف فيما يخالف فيه غيره من أهل الحديث، بل إنه لم يطعن في حديث عمار إلا لما يضمره في نفسه من حقده على علي، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في لسان الميزان عند ترجمة والد الحلي أنه ردّ أحاديث –أي ابن تيمية- جيادًا كثيرة اهـ.
وهذا دأب ابن تيمية لمن عرفه يطعن في الأحاديث الصحيحة التي على خلاف هواه، حتى إنه ردّ مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين علي وقد ثبت ذلك، فلا يلتفت إلى كلام ابن تيمية هذا وأمثاله إلا من ابتلي بمثل بليته من فساد الاعتقاد والانحراف عن علي رضي الله عنه. فهو في الحقيقة ناصبي وإن كان في الظاهر يذم الناصبة [15].
وليذكر لنا أين ذُكر كلام السلف الذي افترى عليهم وقوّلهم ما لم يقولوا، وهذا من عادته ينسب إلى السلف ما لم يقولوا لتأييد هواه من دون تسمية كما ادعى اتفاق السلف على أن قصد القبور للدعاء عندها رجاء الإجابة بدعة قبيحة، مع أن هذا كان عمل السلف كما يعلم ذلك مَنْ تتبع تراجم السلف وسيرتهم. فهذا شأن ابن تيمية فإنه يحتجُّ بالحديث الموضوع الذي يوافق هواه ويحاول أن يصححه، ويضعّف الأحاديث والأخبار الثابتة المتواترة التي تخالف رأيه وعقيدته، حتى قال فيه تلميذه الذهبي في رسالة أرسلها له على شكل نصيحة بعد كلام طويل ما نصه: “… إلى كم تمدح كلامك بكيفية لا تمدح بها والله أحاديث الصحيحين، يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك، بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف والإهدار أو بالتأويل والإنكار، أما ءان لك أن ترعوي، أما حان لك أن تتوب وتنيب… [16] اهـ. وهذا لا يُستغرب صدوره من رجل بلع سموم الفلاسفة ومصنفاتهم كما نعته الذهبي في هذه الرسالة.
وبعض الناس إذا رأوا هذا البيان والإيضاح الذي هو الموافق للحق يقولون: هذا الكلام لا ينبغي إطلاع العامة عليه، هذا للخصوص فقط. يقال لهم: المحدثون فيما مضى ما كانوا حين يقرءون كتب الحديث بما فيها حديث: “ويح عمار” يخصصون الكبار والخواص بإسماع هذا الحديث، بل كان المحدث يقرأ جهرًا ويسمع الكبار والصغار، وقد كان من عادة أهل الحديث في الماضي إحضار الصغار مجالسهم مع الكبار، حتى إنهم كانوا يحضرون أبناء الخمس سنوات. فهذه الأحاديث ما دوّنت في كتب الحديث لتدفن بل لتعلّم للكبير والصغير، فأي عيب في معرفة الحق للصغير والكبير؟.
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضع كل من صحبه في مرتبة واحدة بل خصَّ بعضهم بمرتبة ليست لغيرهم، حتى قال لخالد بن الوليد حين حصل منه مسبّة لعبد الرحمن بن عوف الذي هو من السابقين الأولين من المهاجرين، وخالد ليس من الأولين: “لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه”، فما اعتراض بعض الناس إذا ذكر بعضهم –الصحابة- بما يستحقون مما ورد في الحديث لبيان الحقيقة ليوضع كل في مرتبته. وما سبب إنكار هؤلاء، هل لأنهم لم يطلعوا على هذا الحديث الذي فيه: “لا تسبوا أصحابي” إلخ… لخالد بن الوليد وخالد هو صاحب الفضل العظيم في الصحابة حتى سماه الرسول سيف الله فهذا الإنكار يعود إلى الجهل بمراتب الصحابة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يُرد بقوله “أصحابي” كل من لقيه مؤمنًا به إنما أراد به طبقة خاصة وهم الذين صفتهم كصفة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.
فلا يدخل تعليم مضمون حديث عمار وما أشبهه للناس وبيانُه تحت قول الرسول في الحديث الآخر الذي رواه الترمذي وابن حبان: “اللهَ اللهَ في أصحابي، فمن أحبّهم فبحبي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم” كما ظنّ ذلك بعض من لا تمييز له، فليس معنى النهي عن سبّهم –أي الصحابة- إلا ما يكون على وجه الجملة. فالسبّ الجملي هو المنهي عنه، أما بيان حال بعض منهم بما فيه من ذمّ له لغرض شرعي فليس داخلًا تحت النهي، ويشهد لذلك حديث مسلم وأبي داود أن رجلًا خطب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته: “من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى” فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بئس الخطيب أنت” –أخرجه مسلم وأبو داود- فتبين أن ذكر بعض منهم بما فيه مما يسوؤه لو سمع لغرض شرعي لا يدخل تحت النهي فليعلم ذلك من لا تمييز له. ولا يظن ظانّ أن قول بعض المحدثين في كتب الاصطلاح، “الصحابة كلهم عدول” معناه أن كلًا منهم سالم من الكبيرة، وهذا بعيد من الصواب لأن منهم من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: “لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض” ثم قاتل مع معاوية فكان قاتل عمّار بن ياسر، ثم كان يتبجح بذلك ويقول لمّا يأتي إلى أبواب بني أمية: “قاتل عمار بالباب”، فهل يحكم لهذا بأنه عدل بمعنى أنه سالم من الكبائر، إنما معنى قول أولئك المحدثين أنهم لا يُتهمون بالكذب على الرسول فيما يروونه من الأحاديث عنه، أليس هذا من أفسق الفسق فقد خالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سمعه منه فقتل عمارًا، وهذا الغادر أبو الغادية الجهني.
ولعل هذا الانحراف من ابن تيمية سرى إليه من أولئك الذين ءاذوا الإمام الحافظ النسائي قال: “لما دخلت دمشق وجدت أهلها منحرفين عن علي بن أبي طالب، ولما علموا أني عملت خصائص علي طلبوا مني أن أعمل خصائص معاوية فقلت: ماذا أخرج له أأخرج له “اللهم لا تشبع بطنه” فصاروا يضربونه في خصيتيه فحُمل من دمشق إلى الرملة فتوفي بها، ولا يبرئ ابن تيمية من سوء ظنه بسيدنا علي وبغضه له قوله عند ذكر علي في بعض المواضع رضي الله عنه فإنه يرى أنه لو ترك ذلك عند ذكره لعرف الناس انحرافه لأول وهلة فصار يفعل ذلك تسترًا. فمن عرف ما ذكرنا من أمر ابن تيمية من سوء رأيه في سيدنا علي عرف أنه ينطبق عليه حديث مسلم أن عليًا رضي الله عنه قال [17]: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الامي إليّ أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق، فليعلم ذلك أنصار ابن تيمية.
أقول:
يقول عبدُ الله هُوَّ [18] الهرري *** الأشعري الشافعي العبدري
الحمد لله الذي قد شرعا *** مذهب أهل الحق أن يُتَّبَعا
إنّ الذين قاتلوا عليا *** مِنَ الصّحاب أثموا جليّا
لما أتى في مسلم وغيره *** في شأن من عصى ولي أمره
لكنّ منهم ذنبهم مغفورُ *** عائشةٌ طلحةُ والزبيرُ
قال بهذا الأشعري أبو الحسن *** رحمه الله العليُ ذو المنن
هذا هو الموافق الصحيحا *** من الحديث فالزم النصوصا
كنحو ما ورد في الزبير *** ومثلِ ما ورد في عمّار [19]
ولزيادة النفع فقد زدت هذه الفائدة في تحرير مسئلة وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الأمر بالواجب واجب على *** من ظن تأثيرًا وإلا قل فلا
ومثله النهي عن الحرام *** قد نقلَ الإجماعَ في المقام
محمدُ بن الحسن البصري *** ومثله الجمالُ الاسنوي
البيهقي أشعريُّ العقدِ *** وابنِ عساكر الإمامِ الفرد
قد كان أفضلَ المحدثينا *** في عصره بالشامِ أجمعينا
كذلك الغازي صلاح الدين *** من كسرَ الكفارَ أهل اليمن
جمهور هذي الأمة الأشاعره *** حججهم قويةٌ وسافره
أئمةٌ أكبرٌ أخيارُ *** لم يُحصهم بعددٍ ديّارُ
قولوا لمن يذمُّ الاشعرية *** نِحَتُكم باطلة رديّة
والماتريديةُ معهُمْ في الأصولْ *** وإنما الخلاف في بعض الفصول
فهؤلاء الفرقة الناجية *** عمدتهم ألسُّنَّةُ الماضية
قد جمعوا الإثبات والتنزيها *** ونفُوا التعطيل والتشبيها
فالأشعري ماتريديٌ وقلْ *** الماتريدي أشعريٌ لا تُبَلْ
* ومن بدع هذه الفرقة الوهابية ذم التصوف وأهله من غير تفصيل، وقد خالفوا بذلك زعيهم أحمد بن تيمية فإنه قال: الجنيد سيد الصوفية إمام هدى، وذلك في كتابه شرح حديث النزول، فهم بذلك خالفوا زعيمهم ابن تيمية وخالفوا الإمام أحمد، فإن الإمام أحمد كان يقول لأبي حمزة الصوفي: ماذا تقول يا صوفي؟ فإنكارهم المطلق دليل جهلهم وتهورهم، فإن الصوفي عند من يعرفه هو العامل بالكتاب والسنة وأداء الواجبات وترك المحرمات وترك التنعم في المأكل والملبس ونحو ذلك، وهذه الصفة في الحقيقة صفة الخلفاء الأربعة، فلذلك صنف أبو نعيم كتابه حلية الأولياء، أراد به أن يميز الصوفية المتحققين من غيرهم لما كثر في زمانه الطعن من بعض الناس في الصوفية ودعوى التصوف من أناس هم خلاف الصوفية في المعنى، فبدأ بذكر الخلفاء الأربعة. فلتلعم هذه الفرقة الوهابية أنهم متهورون في حكمهم هذا على التصوف، وأي ضرر في هذا الاسم: [الصوفي]، وكثيرًا ما يذكر ابن حبان بعض الرواة المشهورين بالتصوف وغيرهم، ويدل على ذلك قول الإمام أحمد في مسنده: حدثنا موسى بن خلف وكان يعد من الأبدال، وكذلك البيهقي يكثر الرواية عن شيخه أبي علي الروذباري أحد مشاهير الصوفية وكان تلميذ الجنيد بن محمد رضي الله عنهما، فإن كان إنكارهم لأجل هذه التسمية: [الصوفية] فلينكروا قول الشيخ فلان لأنه لم يكن معروفًا في الصدر الأول تسمية العالم بلقب الشيخ، وكذلك حدث بعد الصدر الأول تسمية بعض العلماء شيخ الإسلام وذلك فيمن جاء بعد القرون الثلاثة، وإلا فأي فرق بين هذا وذاك، وأي مانع من استحداث اصطلاح لا يعارض الشرع وقد اصطلح النحاة على: لا يجوز كذا، يجب كذا في أمور الإعراب.
وأما اعتراضهم سيرة الصوفية المتحققين من التزامهم ترك التنعم فهم في ذلك كأنما يعترضون على الأنبياء لأن هذه هي سيرة الأنبياء، فهذا عيسى تواتر عنه أنه كان يأكل الشجر ويلبس الشعر، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يمضي الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار، أي كان يأكل ما لم تمسه النار ويتقوت بالماء والتمر، وهم الوهابية ينطبق عليهم قول القائل:
وإذا لم تر الهلال فسلّم *** لأناسٍ رأوْه بالأبصارِ
ورب غِرّ جاهل يقول: هذا مناف لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حرَّمَ زينةَ اللهِ التي أخرجَ لعبادهِ والطيباتِ مِنَ الرزقِ} [سورة الأعراف/32] يقال لهم: فرق بين ما تفهمون وبين حال الصوفية، فإن الصوفي لا يحرم التنعم بالحلال لكن يترك ذلك اقتداء بالأنبياء وذلك لحكم منها: أن ترك التنعم يساعد على الإيثار، وعلى الصبر على الفاقة إذا جاءت بعد بسطٍ من الرزق، وعلى الرضا بالقضاء وترك التسخط على قضاء الله، فمن لي بأن يفهمهم!؟
* ومن بدعهم الضالة ذم طرق أهل الله كالرفاعية [20] والقادرية وكل طريقة أنشئت على وفق القرءان والحديث، وكل طرق أهل الله مؤسسة على وفاق القرءان والحديث سوى التيجانية فإنها على حسب ما تشرحها كتبهم ومؤلفاتهم المطبوعة ظاهرة المخالفة للكتاب والسنة، والله أعلم بحال الشيخ الذي تنسب إليه وهو أبو العباس أحمد التيجاني فإنه يحتمل أنها مدسوسة عليه وهو بريء منها. وأما القادرية فكيف ينكرونها على من تمسّك بها على حسب أصولها التي كان يلتزمها مؤسسها وهو الشيخ محيي الدين عبد القادر الجيلاني الحنبلي وقد اشتهر بالعلم والفقه والصلاح، وأما الرفاعية التي خصها ابن تيمية بالطعن في مشايخها دون القادرية فإنها منسوبة إلى الشيخ أحمد بن علي بن حازم بن يحيى المتصل نسبه برفاعة، وكان فقيهًا شافعيًا محدثًا مفسرًا أثنى عليه الإمام أبو القاسم عبد الكريم الرافعي إمام الشافعية المعروف بوفور العلم والزهد والكرامة، قال رحمه الله في كتابه سواد العينين في مناقب الغوث أبي العلمين في الثناء على الشيخ أحمد الرفاعي ما نصه: حدثني الشيخ الإمام أبو شجاع الشافعي فيما رواه قائلًا: كان السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه علمًا شامخًا، وجبلًا راسخًا، وعالمًا جليلًا، محدثًا فقيهًا مفسرًا، ذا روايات عاليات وإجازات رفيعات، قارئًا مجودًا حافظًا مُجيدًا، حجة رحلة، متمكنًا في الدين، سهلا على المسلمين صعبًا على الضالين، هنيًا لينًا هشًا بشًا، لين العريكة حسن الخلق كريم الخُلق حلو المكالمة لطيف المعاشرة، لا يمله جليسه ولا ينصرف عن مجالسه إلا لعبادة حمولًا للأذى، وفيًا إذا عاهد، صبورًا على المكاره، جوادًا من غير إسراف، متواضعًا من غير ذلة، كاظمًا للغيظ من غير حقد، أعرف أهل عصره بكتاب الله وسنة رسوله وأعلمهم بها، بحرًا من بحار الشرع، سيفًا من سيوف الله، وارثًا أخلاق جده رسول الله صلى الله عليه وسلم اهـ.
وقد ألف الجلال السيوطي رسالة في الثناء عليه سماها الشرف المحتم فيما منَّ الله به على وليه السيد أحمد الرفاعي من تقبيل يد النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الرافعي المذكور فقد وصفه التاج السبكي في طبقات الشافعية بقوله: “كان الإمام الرافعي متضلعًا في علوم الشريعة، تفسيرًا وحديثًا وأصولًا مترفعًا على أبناء جنسه في زمانه نقلًا وبحثًا وإرشادًا وتحصيلًا، وأما الفقه فهو فيه عمدة المحققين وأستاذ المصنفين، كأنما كان الفقه ميتًا فأحياه وأنشره وأقام عماده بعدما أماته الجهل فأقبره، كان فيه بدرًا يتوارى عنه البدر إذا دارت به دائرته والشمس إذا ضمها أوجُها، وجوادًا لا يلحقه الجواد إذا سلك طُرُقًا ينقل فيها أقوالًا ويُخرّج أوجُهها، وكان رحمه الله ورعًا زاهدًا تقيًا نقيًا طاهر الذيل مراقبًا لله، له السيرة الرضية والطريقة الزكية، والكرامات الباهرة اهـ. وكذلك ترجمه –أي الرافعي- صاحب مختصر الأسدي في طبقات الشافعية وأثنى عليه ثناءً عظيمًا.
ثم ما عُرف عن أتباع الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه من دخول الأفران الحامية ورقود بعضهم في بعض جوانب الفرن والخباز يخبز في الجانب الآخر، ودخولهم النار العظيمة ونحو ذلك فإنها ليست أحوالًا شيطانية كما يقول ابن تيمية بل هي أحوال سامية، فدعوى ابن تيمية أن هذا يحصل باستعمال الدواء المانع من حرق النار فهو بعيد من الصحة فلماذا لم يفعل هو أو بعض أتباعه حتى يبطل على الرفاعية التلبيس كما زعم. وقد ألّف ابن تيمية تأليفًا سمّاه كشف حال الأحمدية وأحوالهم الشيطانية، فعدم تأثير النار العظيمة معجزة لإبراهيم وكرامة للأولياء، وقد اشتهر أن أبا مسلم الخولاني رماه الأسود العنسي المتنبي في النار ثلاث مرات فلم تؤثر فيه، وقد حصل في عصرنا هذا في السودان منذ خمسين عامًا تقريبًا أنه اجتمع في قرية في السودان رجل تيجاني ورجل صوفي صادق قادري فبدأ التيجاني يتبجح ويفتخر بطريقته دعاية لطريقته فغضب القادري لله تعالى وقال لأهل القرية: يا جماعة امتحنونا، فجمع أهل القرية حطبًا كثيرًا فأجّجوه نارًا فدخلها القادري ووقف فيها فنادى التيجاني: تعال ادخل، فلم يتجاسر التيجاني على ذلك بل هرب، فعرف أهل تلك الناحية أن التيجانية ليسوا على شيء.
وذكر ابن الملقن في أواخر كتابه طبقات الأولياء قصيدة في مدح الإمام الرفاعي والرفاعية فقال:
إن الرفاعيين أصحاب الوفا *** والجود للعافي الملم المزملي
كم فيهم من عارف ذي همةٍ *** أو صادق عن عزمه لم يفشلِ
ومن مزايا هذه الطريقة على غيرها مكافحة عقيدة الوحدة وعقيدة الحلول أكثر من غيرهم من أهل الطرق وقد أخذ أهلها ذلك عن شيخ الطريقة الشيخ أحمد الرفاعي ثم اتبعه كل خلفاء طريقته إلى هذا العصر فلهم بذلك فضل على غيرهم لأن هاتين العقيدتين من أخبث العقائد الكفرية. ثم إن الإمام الرفاعي رضي الله عنه لم يقتصر على إنكار اعتقادهما بل ينكر اللفظ بهما ولو من غير اعتقاد معنى الحلول والوحدة، قال الإمام أبو القاسم الرافعي رحمه الله عن الإمام الرفاعي أنه قال في الحلاج: “ما أراه رجلًا عارفًا، ما أراه شرب، ما أراه سمع إلا رنة أو طنينًا فأخذه الوهم من حال إلى حال، من ازداد قربًا ولم يزدد خوفًا فهو ممكور، يذكرون عنه أنه قال أنا الحق أخطأ بوهمه لو كان على الحق ما قال أنا الحق”.
وقال الإمام الرفاعي رضي الله عنه: “لفظتان ثلمتان بالدين، القول بالوحدة والشطح المجاوز حد التحدث بالنعمة” اهـ. فقوله هذا صريح في أن القول بالوحدة المطلقة ألفاظها ممنوعة ولو بلا اعتقاد للمعنى، وقال أيضًا: “إياك والقول بالوحدة التي خاض بها بعض المتصوفة، إياك والشطح فإن الحجاب بالذنوب أولى من الحجاب بالكفر {إنَّ اللهَ لا يغفرُ أن يُشركَ بهِ ويغفرُ ما دونَ ذلك لمن يشاءُ} [سورة النساء/48].
وقال أيضًا فيما نقله الرافعي عنه: قد ءان أوان زوال هذه المجالس ألا فليخبر الحاضر الغائب: من ابتدع في الطريق، وأحدث في الدين، وقال بالوحدة، وكذب متعاليًا على الخلق، وشطح متكلفًا، وتفكه بما نقل عن القوم من الكلمات المجهولة لدينا، وطاب كاذبًا، أو خلا بامرأة أجنبية بلا حجة شرعية، وطمح نظره لأعراض المسلمين وأموالهم، وفرّق بين الأولياء، وأبغض مسلمًا بلا وجه شرعي، وأعان ظالمًا، وخذل مظلومًا، وكذّب صادقًا، وصدق كاذبًا، وعمل بأعمال السفهاء، وقال بأقوالهم فليس مني أنا بريء منه في الدنيا والآخرة” اهـ.
وقال أحد خلفائه ممن كان في القرن الثالث عشر للهجرة ما نصه: “وحيث إن القول بالوحدة المطلقة والحلول يؤدي إلى الكفر والعياذ بالله [21]، والشطحات والدعاوى العريضة تؤدي إلى الفتنة وتُزلق بقدم الرجل إلى النار، فاجتنابها واجب وتركها شربة لازب، وكل ذلك من طريق شيخنا الإمام السيد أحمد الرفاعي الحسيني رضي الله عنه وعنا به وبهذا أمر أتباعه وأشياعه وحثّ على ذلك أصحابه وأحزابه” اهـ.
ثم يقول في الصحيفة التالية ما نصه: “وليعلم أن مشرب السادة الرفاعية لما كان رد القول بالوحدة المطلقة والحلول بل ورد الشطحات الزائدة والدعاوى العريضة فمشربهم أيضًا تبرئه من نسب إليهم مثل هذه الاقوال من الكبار ويجزمون بانها مدسوسة عليهم ومنسوبة زورًا إليهم، والأولياء الكمّل والصالحون من أهل الحق مبرءون من مثل هذه الكلمات والقول بها، وقد نص العارف الشعراني رحمه الله تعالى ونفعنا به على أن يهوديًا دسّ أشياء كثيرة في كتب الشيخ العارف محيي الدين بن عربي قُدّس سره، وكذلك نص الحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر العسقلاني، والحافظ ابن رجب الحنبلي أن الشنطوفي مؤلف بهجة الأسرار في مناقب الغوث الجليل ذي الباع الطويل القطب الكبير الرباني أبي محمد السيد الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه قد كتب في البهجة المذكورة ما لا يصح إسناده لحضرة الغوث المشار إليه رضوان الله عليه” اهـ.
وقال صاحب كتاب الطريقة الرفاعية ص/87 ما نصه: “توفي رضي الله عنه في أم عبيدة بواسط العراق سنة ثمان وسبعين وخمسمائة راضيًا مرضيًا نائبًا نبويًا، وقد جدد الله به أمر الدين وأيد بمنهاجه مذهب أهل الشرع المبين وصان ببركة عزمه وعزيمته في الله عقائد المسلمين، وأبرد لأتباعه النيران وأزال لهم فاعلية السموم وألان لهم الحديد وأذلّ لهم السباع والحيات والأفاعي وأخضع لهم طغاة الجن” اهـ.
هؤلاء هم الرفاعية فمن عرفهم عرفهم، ومن جهلهم فليعلم من الآن أنهم ليسوا كما وصفهم ابن تيمية بأنهم أصحاب الأحوال الشيطانية في تأليفه الذي سماه “كشف حال مشايخ الأحمدية وأحوالهم الشيطانية” لم يخش من الله حيث سماها أحوالًا شيطانية وهي كرامات ومواهب من الله، وقد أثنى عليهم بهذه العجائب التي عرفوا بها كثير من العلماء من أهل الإنصاف. أما ابن تيمية فقد كان كما وصفه الذهبي متكبرًا ومعجبًا بنفسه حتى إنه قال في سيبويه لما قال له أبو حيان كذا قال سيبويه فقال: يكذب سيبويه. فمن استراب في حاله فلينظر في قول الذهبي في رسالته بيان زغل العلم والطلب ففيها ما ذكرناه. وهذا الذي ذكرناه وصف حال المتحققين من الرفاعية، أما المنتسب إليهم وهو كاذب وليس على حالهم إنما له غرض نفساني وتظاهر بالانتساب إليهم فذاك عمله مقصور عليه لا يوصف بصفة أولئك الأخيار الذين ظهرت كراماتهم في الدنيا في الشرق والغرب بجيث لا ينكرها من بلغه أحوالهم إلا المكابر كابن تيمية، والمكابر لا يُناط به حكم.
الهوامش:
[1] انظر الكتاب [1/114].
[2] انظر منهاج السنة النبوية [2/203].
[3] انظر المنهاج [2/214].
[4] انظر المنهاج [3/156].
[5] انظر المنهاج [2/204].
[6] انظر التلخيص الحبير [4/44].
[7] فتح الباري [13/57].
[8] لسان الميزان [6/319].
[9] الفرق بين الفِرَق ص/350-351.
[10] نقل ذلك القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، ص/644.
[11] سنن البيهقي 8/174.
[12] مصنف ابن أبي شيبة [15/290].
[13] الاعتقاد ص/196.
[14] كتاب المنهاج لسنة [2/204].
[15] الناصبة كما في تاج العروس هم المتدينون ببغضة سيدنا أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين أبي الحسن علي بن ابي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه، لأنهم نصبوا له أي عادوه وأظهروا له الخلاف، وهم طائفة من الخوارج.
[16] انظر النصيحة الذهبية طبعة دمشق سنة 1347هـ.
[17] انظر صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق.
[18] بتشديد الواو لغة قال الشاعر:
فإن لساني شُهدَة يُشتفى بها *** وهوَّ على مَنْ صبَّهُ الله علقمُ
[19] وأما عمار فقد روى البخاري وابن حبان أنه عليه السلام قال: “ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار”. رواه البخاري في كتاب الصلاة في باب التعاون على بناء المسجد بهذا اللفظ، ورواه في كتاب المناقب مقتصرًا على “ويح عمار تقتله الفئة الباغية”.
[20] الرفاعية يقال لهم الأحمدية والبطائحية.
[21] قال أحد الرفاعية ممن كان في أوائل القرن الرابع عشر الهجري وهو الشيخ العالم أبو الهدى الصيادي رحمه الله في رسالة ما نصه: “تنبيه من قال أنا الله أو لا موجود إلا الله أو ما في الوجود إلا الله أو هو الكل إنْ كان في عقله حكم بردته”.