تفسير الآية: ﴿واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله﴾
هذا ما ما أملاه شيخ الإسلام والمسلمين الإمام عبد الله الهرري غفر الله له ولوالديه
الأحد 9-4-1978م
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد أشرف المرسلين وخاتم النبيين ﷺ وعلى ءاله أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى قال: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ) . هذه الآية ءاخر ءاية نزلت، وفيها الأمر بتقوى الله وفيها الأمر بالاستعداد للآخرة بتقوى الله تعالى.
(وَاتَّقُواْ يَوْمًا) أي خافوا ذلك اليوم العظيم يوم ترجعون فيه إلى الله يوم القيامة، يوم لا يوجد فيه رئيس ومرءوس على العادة التي عرفها العباد في الدنيا، بل الله تبارك وتعالى هو يحاسب العباد، يكلم هذا ويكلم هذا بلا ترجمان أي يسمعهم كلامه الذي لا يشبه كلام العالمين، فمنهم من يكلمهم الله تعالى كلام من رضي عنه أي يكلمهم أي يسمعهم كلامه الذي لا يشبه كلام الخلق فيحصل لهم سرور ورضا واطمئنان نفس، ومنهم من يكلمهم الله ليعرفوا أنهم مهانون عند الله ليس لهم أمانة وليسوا من أهل الدرجات العلى.
فالذين يسمعون كلام الله وهم مرضيون عند الله مقبولون لديه يحصل لهم من الفرح والسرور ما لا يوصف، وأما المغضوب عليهم من الكفار وغيرهم فإنهم لا يشعرون بأمن بل يشعرون بخوف عظيم وقلق متين لا يوصف. هناك فريق ثالث وهم بعض عصاة المسلمين يكونون بحالة بين حالة هؤلاء وبين حالة هؤلاءـ ففي هذا المعنى ورد في الصحيح الحديث المشهور: “ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان” وهذا الموقف الذي سيقفه العبد ويسمع فيه كلام الله ليس كوقوف إنسان أمام ملك يكون بينه وبين ذلك الملك مسافة ومقابلة بجهة بل وقوف العبد بين يدي الله تعالى في الآخرة ليس بكيفية ولا هيئة يتصورها العقل إنما يؤمن المؤمن بأنه سيكون بلا جهة ولا كيفية ولا مسافة ثم قال تبارك وتعالى: (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) أي أن الله تعالى يجازي كل نفس بعمله إن كان خيرًا فخير وإن كان شر فشر، فلما كان حالة الفجار من الكافرين وغيرهم أنهم لا يحصل لهم سرور من كلام الله تعالى بل يحصل لهم خزي وقلق وخوف لسوء مصيرهم عبر عن ذلك بما جاء في حديث من ذكر ثلاثة أن الله تعالى لا يكلمهم يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ومعنى لا ينظر إليهم أنه لا يكرمهم بل يهينهم، ومعنى قوله ﷺ من ذلك الحديث: “ولا يكلمهم” أنهم لا يفرحون حين يسمعون كلام الله كما يفرح الأتقياء، أما سماعهم كلامه فهو حاصل لهم ولغيرهم، وأما رؤيته تعالى لعباده فهي رؤية شاملة عامة يراهم برؤيته الأزلية الأبدية، ورؤيته أزلية والعباد محدثون، وكذلك كلامه أزلي وإن كان سماعهم لكلامه الأزلي حادثًا، وهؤلاء الثلاثة الذين قال فيهم رسول الله: “لا ينظر الله إليهم ولا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم” المنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والفقير المتكبر.
أما المنان فهو الرجل الذي يمن بما أحسن إلى شخص ليظهر أنه أعلى منه، يقول له: ألم أعطك كذا، ألم أفعل من المعروف إليك كذا وكذا، ليكسر قلبه، وهذا المن محرم من الكبائر يحبط الثواب، فإذا من إنسان على شخص قدم له معروفًا وكان له في ذلك ثواب فقد بطل ذلك الثواب، قال الله تعالى: (لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ) شبه الله تعالى المن بالرياء لأن كليهما يحبطان الثواب، وأما المنفق سلعته بالحلف الكاذب فهو الذي يحلف كذبًا لينفق بضاعته وذلك أيضًا من كبائر الذنوب، أما إذا حلف لينفق سلعته وهو صادق فليس عليه ذنب، لكن ترك ذلك أفضل. فلا خير في الحلف إلا إذا كان يراد به إحقاق حق أو إبطال باطل فالحلف الذي فيه ثواب مثل الحلف الذي كان الرسول يحلفه حين يحدث أصحابه بشىء من الأمور الدينية ليؤكد ذلك في نفوسهم كان أحيانًا يقول: “والذي نفس محمد بيده” وكان كثيرًا ما يقول: “لا ومقلب القلوب” ليعلم السامعين أنه صادق فيما قال لا ريب فيه وليعلمهم أن ما كان كذلك من الحلف فيه ثواب، وليعلمهم أن الله تبارك وتعالى هو خالق كل شىء، لا يخلق العباد شيئًا.
فإنه إذا كان عمل القلب مخلوقًا لله تعالى فعمل الجوارح معلوم أنه مخلوق لله تعالى بالأولى، وكذلك كل حلف يشبه ذلك فهو حق وفيه ثواب لمن أخلص نيته. روى مسلم في الصحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: “والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي ﷺ إلي أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق”.كان كثيرًا ما يحلف، هذا الحلف لكون ما يردده من كلام عقبه من الحق المثبت من الذي لا ريب فيه ولا شك.
وقد ذكر في الحديث الفقير المتكبر، هو الكبر من كبائر المحرمات، ومعناه هو أن يرد الحق على قائله بعد العلم بأن معه الحق يرد الحق ترفعًا وإباءً لقبول الحق من غيره، وهذا كثير في الناس. يتبين لهم أن الحق مع الناس ثم يكابرون ويعاندون فهذا من كبائر الذنوب، لو كان الذي ظهر معه الحق صغيرًا أو فقيرًا فإنه لا يجوز أن يكابر ويعاند فيرد الحق، ومن فعل ذلك فهو من أهل الكبائر، ومن الكبر المحرم الذي هو من الكبائر أن يحتقر المسلم لفقره أو لكونه ذا عاهة أو لكونه صغير السن، فمن فعل ذلك فقد وقع في سخط الله، وإنما ذم رسول الله ﷺ الفقير المتكبر لأن الكبر قبيح للغني والفقير لكنه مع الفقر أقبح. الفقير المتكبر أشد إثمًا من الغني المتكبر. فيعلم من هذا الحديث أن هؤلاء الثلاثة من شر الناس يوم القيامة. والتكبر صفة مذمومة مع المتواضع وغير المتواضع ليس كما يقول بعض الناس: “التكبر على المتكبر صدقة”، الله تبارك وتعالى يحب المؤمن المتواضع ويكره المتكبر، وكل من له عند الله منزلة عالية صفته التواضع وترك العجب، فمن ترك العجب وابتعد عنه فقد نجا وسلم، ومن تأمل في أحوال الصالحين والصحابة ومن بعدهم علم أنهم كانوا متواضعين وأنهم لم يكونوا مترفعين على الناس. كان الإمام الشافعي رضي الله عنه مع جلالة قدره وعلو شأنه لا يجادل إنسانًا وهو مترفع عليه إنما كان يبغي عند جداله لإنسان الوصول لإظهار الحق.