الجمعة مارس 29, 2024
  • تفسير الآية: ﴿حرمت عليكم الميتة﴾

     

    هذا ما ما أملاه شيخ الإسلام والمسلمين الإمام عبد الله الهرري غفر الله له ولوالديه

    الأحد 6-3-1978م

     

    الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم، أما بعد،

    فإن أحسن الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أما بعد فقد قال الله تبارك وتعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ).

    الله تبارك وتعالى ذكر في هذه الآية تحريم أحد عشر شيئًا:

    الأول منها: الميتة، وهي ما زالت حياتها بغير ذكاة شرعية كأن تموت بمرض أو بذبح من لا تحل ذبيحته كالمجوسي والمرتد والدرزي والبوذي ولو ذبحوا كما يذبح المسلمون بقطع الحلقوم أي مجرى النفس وبقطع المريء أي مجرى الطعام والشراب ولو سموا ولو كبروا فلا تحل ذبيحة هؤلاء. أما اليهودي والنصراني فتحل ذبيحتهما لأن هذين مع كفرهما أحل الله لنا أن نأكل ذبائحهما إن ذبحا بالطريقة الإسلامية.

    والمرأة المسلمة واليهودية والنصرانية إذا ذبحت فذبيحتها حلال، وكذلك الولد الذي هو دون سن البلوغ إذا كان يحسن الذبح، واليهودي والنصراني لو لم يسميا الله فذبيحتهما حلال، أما المسلم إن سمى الله تعالى فذبيحته حلال باتفاق العلماء، وإن ترك تسمية الله عمدًا فقد قال أبو حنيفة وأحمد ومالك: لا تحل ذبيحته، وإن تركها سهوًا تحل ذبيحته، وأما الإمام الشافعي رضي الله عنه فقال: ذبيحة المسلم، سمى الله أو لم يسم الله، فهي حلال ولو ترك التسمية عمدًا.

    والمسلم أو اليهودي أو النصراني إذا ضغط على الآلة التي تقطع رقبة الذبيحة فنزلت فقطعتها تحل وتكون كالتي ذبحت بالسكين، وإن كانت الماكينة بمجرد ما تدخل البقرة أو غيرها إليها تقطع رقبتها فهذه ميتة.

    وأما المسلم الذي ارتد إلى اليهودية أو النصرانية فذبيحته حرام. ولا يجوز للمسلم أن يأكل اللحم حيثما وجده من غير أن يعلم أنه ذبح شرعي ولا ضرورة لأكلها مع وجود السمك والخضار الحلال. وليعلم أن أول ما ينتن من الإنسان في القبر بطنه، فليكتف الإنسان بالخضار وذبح يدشه في حالة كهذه. أما السمك فكيفما وصل إلينا فحلال، سواء عن طريق مجوسي أو كتابي، فميتة السمك حلال.

    الأمر الثاني: الدم، فهو حرام حرمه الله تعالى، سواء كان دم ذبيحة من الحيوانات المأكولة أو دم غيرها، وسواء كان مائعًا أو جامدًا بعد انفصاله من مخرجه، وكذلك الدم الذي يخرج من الذبيحة ثم يجمد بطريقة فنية فحرام أكله، وقد تعودوا ذلك في أوروبا، وهو من الكبائر وحرام بيعه وشراؤه.

    والدم الذي حرمه الله تعالى هو الدم المسفوح أي السائل، قال الله تعالى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا)، أما الدم غير السائل فليس حرامًا، فالكبد والطحال حلال لأنهما ليسا دمًا مسفوحًا، فمن أكل الكبد نيئًا أو مطبوخًا أو مشويًا فهو حلال، وكذلك الطحال لأن الله قال: (أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا) ولم يقل أو غير مسفوح. أما الدم الذي ينز من اللحم الطازج ويسيل منه فهذا غير حرام([1])، كذلك لو احمر المرق من اللحم المقطع الطازج لا يحرم، إنما الحرام هو الدم المسفوح.

    الأمر الثالث: لحم الخنزير، أي يحرم أكله سواء كان بريًا أو أهليًا. والميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به حرام في جميع الشرائع ومنها شرع المسيح عليه السلام.

    الأمر الرابع: ما أهل لغير الله به، أي ما ذبح لعبادة غير الله كتعظيم الأصنام، فالشىء الذي ذكر عليه اسم غير الله عند ذبحه حرام، كما يفعل بعض الوثنيين عندما يذبحون لأوثانهم ويذكرون عليه اسم ذلك الوثن تعظيمًا له وتقربًا إليه. كان لقبائل العرب طواغيت، والطاغوت هو شيطان ينزل على الإنسان ويتكلم على فمه، فكانوا في الجاهلية يعظمون هذا الإنسان من أجل الشيطان الذي ينزل فيه ويتكلم على لسانه، كانوا يعبدون ذلك الشيطان لأنه عندما ينزل على هذا الإنسان كان يحدثهم ببعض ما يحدث في المستقبل، كان يقول لهم: هذا العام يحصل كذا، يحصل وباء وحرق وقحط، وأحيانًا يقول: فلان يولد له ولد، فلان يموت ونحو ذلك من الأمور المستقبلية، وهذا الشيطان لا يعلم الغيب إنما يأخذ الخبر من الملائكة، إذ الملائكة أولياء الله وأحبابه يطلعهم الله تعالى على كثير من المستقبل، فهذا الشيطان يسمع مستخفيًا حديث الملائكة فيما بينهم، ثم ينزل فيتحدث به لكنه لا يقتصر على الذي سمعه من الملائكة يل يضيف إليه كذبًا كثيرًا، فيتحقق الذي سمعه من الملائكة، والأكاذيب التي ضمها لا تتحقق لكن الناس الذين يعظمونه متى ما صدق له خبرية أو خبريتان أو ثلاث فهذا يغطي عندهم الأكاذيب التي تحصل منه. فالذبح لهذا الشيطان هو ما ذكره الله تعالى بقوله: (وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ). أما الأنبياء والأولياء والملائكة فيطلعهم الله على بعض الغيب لأن نفوسهم مستنيرة بتقوى الله، فهؤلاء إن تحدثوا عن بعض ما يحصل في المستقبل ليس عليهم ذنب. فهذا الذي يذبح للشيطان هو ما ذكره الله تعالى: (وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ)  وأكله حرام.

    في الجاهلية كانوا يذبحون تقربًا إلى هذه الشياطين، كذلك كانوا يذبحون لعبادة الأصنام، فقد كان عندهم وثن كبير يسمونه “هبل” ووَثَن اسمه “مناة” وءاخر اسمه “اللات”، وعندهم “العزى” وهي شيطانة أنثى، ذهب خالد بن الوليد إلى الشجرة التي كانت هي تظهر صوتها فيها فقطعها وصادف هناك الشيطانة “عزى” فقتلها، كانت متشكلةً بشكل أنثى من البشر، وقال لها [الرجز]:

     

    يا عز كفرانك لا سبحانك

    ¯¯¯

    إني رأيت الله قد أهانك

     

    ومع كل واحد منا قرين جني وظيفته أن يوسوس لابن ءادم، يرغبه في المعصية ويثبطه عن عمل الخير والصلاة. عندما يريد أن يقوم للصلاة يثقل عليه رأسه، وهناك غير هؤلاء من يتسلطن على النساء فتؤذيها في جسمها وتقتل أولادها بتقدير الله تعالى، ويسمونهن قرينة. قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)، فالله تعالى يفعل ما يريد، ومعنى (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) أي تغريهم بالمعاصي وتدفعهم إليها. وتقرأ سورة الزلزلة وغير ذلك بنية قلع وإخراج الجن من المصاب به.

    الأمر السابع: (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) ، وهي التي وقعت وتردت من علو، كأن وقعت من رأس جبل فماتت فهذه حرام لا يحل أكلها.

    الأمر الثامن: (وَالنَّطِيحَةُ)، أي يحرم أكل النطيحة وهي التي ماتت بالانتطاح مع بهيمة أخرى، كأن نطح كبش كبشًا ءاخر فقتل أحد الكبشين، فهذا الكبش المقتول ميتة لا يحل أكله. والتحريش بين الكباش حرام، وكذلك بين الديكة.

    الأمر التاسع: (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ)، فيحرم أكل ما أكل السبع إلا ما ذكيتم، فالبهيمة التي أكلها السبع كالأسد والنمر فماتت فهي حرام، أما إذا أخذ السبع من ألية الغنم مثلًا لكنه لم يقتلها ثم ذبحت والحياة بعد مستقرة فيها فهي حلال.

    الأمر العاشر: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ)، أي الأوثان وهي حجارة كانوا ينصبونها ويعبدونها من دون الله ويذبحون الذبيحة تعظيمًا لها ويهرقونها على هذا النصب([2]) وهذا عندهم تعظيم لهذا الوثن وعبادة له.

    الأمر الحادي عشر  (وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ)، وهذا حرام ومعناه طلب الحظ والنصيب بالسهام التي كانوا في الجاهلية يستعملونها، كانوا إذا أرادوا سفرًا أو غير ذلك يخلطون هذه السهام بعضها ببعض ثم يخرج لهم الشخص الموكل بهذا الشىء واحدًا من غير أن ينظر فيه، فإن طلع السهم المكتوب عليه “افعل” يمضي في تلك الحاجة، وإذا طلع السهم المكتوب عليه “لا تفعل” يقول: هذا الأمر لا ينجح وليس لي في هذه الحاجة حظ، فيترك ذلك الشىء إن كان زواجًا وإن كان سفرًا وإن كان غير ذلك. وفي الجاهلية كانوا في مكة يستعملون هذا الشىء ضمن الكعبة الشريفة، فيأتي صاحب الحاجة يقول لهم: أريد أن أستقسم أي أن أعرف حظي ونصيبي، وقد كانوا في مكة قد عملوا صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ثم وضعوا على أيديهم هذه السهام ليوهموا الناس أن إبراهيم وإسماعيل كانا يعملان هذا الشىء، وما كان إبراهيم ولا إسماعيل يعملانه لأنه مما حرم الله تعالى.

    قال الله تعالى: ذَلِكُمْ فِسْقٌ، أي هذه الأشياء التي ذكرت في هذه الآية كلها من المحرمات الكبيرة.

    ([1])  قال الإمام الهرري: “ما دام الدم على اللحم فهو غير نجس” اهـ.

    ([2])  بضم الصاد وسكونها، والجمع أنصاب.