معجزة المعراج
بعد إسراء النبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى نُصِبَ الْمِعْرَاجُ وَالْمِعْرَاجُ مِرْقَاةٌ شِبْهُ السُلَّم فَعَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ إِلَى السَّمَاءِ وَهَذِهِ الْمِرْقَاةُ دَرَجَةٌ مِنْهَا مِنْ فِضَّةٍ وَالأُخْرَى مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ بَابَ السَّمَاءِ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ أي للعروج، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَرَأَى صلّى الله عليه وسلّم فِي السَّمَاءِ الأُولَى ءَادَمَ، وَفِي الثَّانِيَةِ رَأَى عِيسَى وَيَحْيَى، وَفِي الثَّالِثَةِ رَأَى يُوسُفَ، وَفِي الرَّابِعَةِ رَأَى إِدْرِيسَ، وَفِي الْخَامِسَةِ رَأَى هَارُونَ، وَفِي السَّادِسَةِ رَأَى مُوسَى، وَفِي السَّابِعَةِ رَأَى إِبْرَاهِيمَ. ثُمَّ رَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَهِيَ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَبِهَا مِنَ الْحُسْنِ مَا لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَنْ يَصِفَهُ، مِنْ حُسْنِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَجَدَهَا يَغْشَاهَا فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْرَاقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَثِمَارُهَا كبيرة، أَصْلُهَا فِي السماء السَّادِسَةِ وَتَمْتَدُّ إِلَى السَّابِعَةِ وَإِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ (ورءاها الرسولُ في السماءِ السابعةِ)، ثُمَّ سَارَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ وَحْدَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَكَانٍ يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلامِ الَّتِي تَنْسَخُ بِهَا الْمَلائِكَةُ فِي صُحُفِهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، ثُمَّ هُنَاكَ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُ الْحِجَابَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ كَلامِ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا فَأَسْمَعَهُ كَلامَهُ الذي لا يشبه كلام المخلوقات وفهمَ رسُول الله مِنْ كلامِ اللهِ الذاتيّ فَرْضِيَةَ الصلواتِ الخمسِ. وفهم أيضًا أنه يُغْفَرُ لأمتِهِ كبَائرُ الذنوبِ لمنْ شاءَ اللهُ لَهُ ذلكَ. أما الكافرُ فلا يُغْفَرُ له مهما كانتْ معاملتُهُ للناسِ حسنةً، ولا يرحمُه اللهُ بعدَ الموتِ ولا يدخِلُهُ الجنةَ أبدًا إن ماتَ على كفرِهِ. وفهِمَ أيضًا من كلامِ اللهِ الأزليّ الأبديّ أنّ مَنْ عَمِلَ حَسنةً واحدةً كُتِبَتْ له بعشرةِ أمثالِها، ومن هَمَّ بحسنةٍ ولم يَعْمَلْها كُتِبَتْ لهُ حَسنةً، ومن هَمّ بسيئةٍ وعَمِلَها كُتِبَتْ عليهِ سيئةً واحدةً).
واعلم رحمك الله أن المقصودَ من المعراجِ تشريفُ الرسولِ بإطلاعِهِ على عجائِبِ العالمِ العلويّ، وتعظيمُ مَكانتِهِ. و يجدر بنا أن نذكر بأنّ الله تعالى هو خالق السماوات السبع وخالق الأماكن كلّها وأنّ الله كان موجودا قبل خلق الأماكن بلا هذه الأماكن كلّها فهو موجود بلا مكان سبحانه، ولا يجوز أن يُعتقد أنّ الله تعالى يسكن في مكان أو في كل الأمكنة أو أنه يسكن في السماء أو يجلس على العرش أو حالٌّ في الفضاء أو أنه قريب منا أو بعيد عنا بالمسافة، ومن نسب المكان أو الجهة لله لا يكون مسلِمًا، ويكون الدخول في الإسلام بالنطق بالشهادتين أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أنّ محمّدًا رسول الله مع اعتقاد الصواب، أنّ الله موجود بلا مكان ولا يشبه شيئًا من مخلوقاته سبحانه.
رَأَى نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدَنَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَدَنَا جِبْرِيلُ مِنْ نَبِيّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشِدَّةِ شَوْقِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ مَا بَيْنَهُمَا قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ بل أَقَلَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ أي أنَّ جبريلَ دَنَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ حِينَ رَءَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عَلَى صُورَتِهِ الأَصْلِيَّةِ وله سِتُّمائةِ جناحٍ، وكلُّ جناحٍ يَسُدُّ ما بين الأرضِ والسماءِ. و مِنْ جُمْلَةِ مَا رَءَاهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْمِعْرَاجِ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَلَمْ يَضْحَكْ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَسَأَلَ جِبْرِيلَ لِمَاذَا لَمْ يَرَهُ ضَاحِكًا إِلَيْهِ كَغَيْرِهِ. فَقَالَ: إِنَّ مَالِكًا لَمْ يَضْحَكْ مُنْذُ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ ضَحِكَ لِأَحَدٍ لَضَحِكَ إِلَيْكَ.وَرَأَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَهُوَ بَيْتٌ مُشَرَّفٌ، وَهُوَ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَالْكَعْبَةِ لِأَهْلِ الأَرْضِ، كُلَّ يَوْمٍ يَدْخُلُهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ فِيهِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ وَلا يَعُودُونَ أَبَدًا. وَالْمَلائِكَةُ أَجْسَامٌ نُورَانِيَّةٌ ذَوُو أَجْنِحَةٍ لَيْسُوا ذُكُورًا وَلا إِنَاثًا، لا يَأْكُلُونَ وَلا يَشْرَبُونَ، وَلا يَتَنَاكَحُونَ، وَلا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَعَدَدُهُمْ لا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ.
و مِنْ جُمْلَةِ مَا رَءَاهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْمِعْرَاجِ الجنةُ وَهِيَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا فِيهَا من النعيم مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ الْحُورَ الْعِينِ فَطَلَبَ مِنْهُ سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِنَّ بِالْقَوْلِ فَقُلْنَ لَهُ: نَحْنُ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ، أَزْوَاجُ قَوْمٍ كِرَامٍ. وَرَأَى فِيهَا الْوِلْدَانَ الْمُخَلَّدِينَ وَهُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَيْسُوا مِنَ الْبَشَرِ وَلا مِنَ الْمَلائِكَةِ وَلا مِنَ الْجِنِّ، اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمْ مِنْ غَيْرِ أُمٍّ وَأَبٍ كَاللُّؤْلُؤِ الْمَنْثُورِ لِيَخْدِمُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَالْوَاحِدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَقَلُّ مَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ هَؤُلاءِ الْوِلْدَانِ عَشَرَةُ ءَالافٍ بِإِحْدَى يَدَيْ كُلٍّ مِنْهُمْ صَحِيفَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَبِالأُخْرَى صَحِيفَةٌ مِنْ فِضَّةٍ.
ثُمَّ رَأَى الْعَرْشَ وَهُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَحَوْلَهُ مَلائِكَةٌ لا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ. وَلَهُ قَوَائِمُ كَقَوَائِمِ السَّرِيرِ يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلائِكَةِ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكونُونَ ثَمَانِيَةً. وَقَدْ وَصَفَ الرَّسُولُ أَحَدَهُمْ بِأَنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مسافة سَبْعِمَائَةِ عَامٍ بِخَفَقَانِ الطَّيْرِ الْمُسْرِعِ، وَالْكُرْسِيُّ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ فِي أَرْضٍ فَلاةٍ.
واعلم رحمك الله أن اللهَ خَلَقَ الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتهِ وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ فَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ، وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ.
وَمِمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ فِي الْمِعْرَاجِ أَنْ أَزَالَ عَنْ قَلْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجَابَ الْمَعْنَوِيَّ، فَرَأَى اللَّهَ بِفُؤَادِهِ، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ قُوَّةَ الرُّؤْيَةِ فِي قَلْبِهِ لا بِعَيْنِهِ لِأَنَّ اللَّهَ لا يُرَى بِالْعَيْنِ الْفَانِيَةِ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُرَى اللَّهُ فِي الآخِرَةِ بِالْعَيْنِ الْبَاقِيَةِ، يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنَ الأَشْيَاءِ سبحانه وتعالى.
وفي الختام نسأل الله أن يعيد علينا هذه الذكرى بالخير واليمن والبركات