الأربعاء أبريل 24, 2024

3) بيان شذوذ الألباني في مسألة التأويل

   تهجم الألباني على علماء الخلف وجَمعٍ من علماء السلف لتأولهم ما تشابه من ءايات القرءان والحديث، فقال ما نصه:{ ونحن نعتقد أن كثيرا من المؤولة ليسوا زنادقة لكن في الحقيقة أنهم يقولون قولة الزنادقة}اهـ، وقال:{ التأويل هو عين التعطيل}اهـ. ذكر ذلك في فتاوى الألباني.

فنقول: علماء السلف والخلف أوّلوا فأنت يا ألباني لست مع السلف ولا مع الخلف، فهذا كأنه اعتراف منك بالخروج عن الملة، أليس أوّلت أنت وجماعتك المشبهة قوله تعالى:{ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمّ وجه الله} فهذه الآية ظاهرها أن الله محيط بالأرض بحيث يكون المصلي متوجها إلى ذات الله، أليس أنت وجماعتك أولتم قوله تعالى حكاية عن إبراهيم:{ إني ذاهب إلى ربي} أليس إبراهيم كان في العراق وذهب إلى فلسطين، أليس أولتم هذه الآية ولم تأخذوا بظاهرها الذي يوهم أن الله متحيز في أرض فلسطين، وأين أنت يا ألباني وجماعتك من حديث مسلم:{ ما تصدّق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن}، أليس ظاهر هذا الحديث أن المتصدق إذا تصدق وقعت صدقته في يد الله، أليس أولتم هذا؟؟؟! أم حملتموه على الظاهر فتكونون جعلتم يد الله تحت المتصدق.

   فإنن قلتم: هذا الحديث والآيات التي ظواهرها أن الله في غير جهة نؤولها وأما الآيات التي ظواهرها أنه متحيز في جهة فوق نعتقدها ولا نؤولها، قلنا: هذا تحكّم أي دعوى بلا دليل، بل الدليل العقلي والنقلي يدلان على وجوب ترك حمل هذه الآيات على ظواهرها وإلا لتناقضت هذه الآيات مع قوله تعالى:{ ليس كمثله شيء} والقرءان منزه عن التناقض، والذي أوقعكم في هذا هو أنكم لا تؤمنون بوجود موجود ليس في جهة ومكان وليس حجما مخصوصا فمن أين يصح لكم معرفة الله وأنتم على هذه الحال.

 

   أما نحن أهل السنة والجماعة فقد أوّلنا هذه وهذه، فنحن نوفّق بين الآية:{ ليس كمثله شيء} وبين تلك الآيات، فإن الآيات والأحاديث منها ما هو محكم ومنها ما هو متشابه ونحن رددنا المتشابه بقسميه القسم الذي يدل ظاهره أن الله متحيز في جهة فوق والقسم الذي يدل على أنه متحيز في جهة تحت إلى الآيات المحكمة كقوله تعالى:{ ليس كمثله شيء}.

   وأما حديث:{ كان الله ولم يكن شيء غيره} فهو دال دلالة صريحة على أن الله موجود بلا مكان لأن المكان غير الله. فتبين أن مذهبكم التحكّم، ومذهب أهل السنة الاعتدال، وليس مذهبنا التعطيل بل أنتم عطلتم قسما من الآيات والأحاديث جعلتموها وراء ظهوركم كأنكم لم تسمعوها أو تروها.

   فالحاصل أن المتشابه من الكتاب والسنة قسمان قسم يوهم ظاهره أن الله في جهة فوق متحيز وأن له أعضاء وحركة وسكون، وقسم ظاهره أن الله متحيز في جهة تحت، فعَمَد أهل السنة إلى تأويل القسمين وردّهما إلى الآيات المحكمة كقوله تعالى:{ ليس كمثله شيء} وقوله:{ ولم يكن له كفوا أحد} عملا بقول الله تعالى:{ هو الذي أنزل عليكم الكتاب منه ءايات محكمات هن أم الكتاب وأُخَر متشابهات}. لما وصف سبحانه المحكمات بأنها أم الكتاب رددنا القسمين من المتشابه إلى المحكمات وهن أم الكتاب أي أصل الكتاب.

   أما أنت يا ألباني وطائفتك المشبهة حملتم قسما من المتشابه على الظاهر وألغيتم القسم الآخر فكأنكم جعلتم القسم الآخر ما لا يلتفت إليه والقرءان كله حق وصحيح، ثم إنكم جعلتم لله أعضاء وحَدا ومقدارا حملا للآيات التي ظواهرها ذلك على الظاهر فجعلتم لله أمثالا وخالفتم قوله تعالى:{ وكل شيء عنده بمقدار} والعالم لطيفه وكثيفه له مقدار فجعلتم الخالق مثل خلقه، فالعرش له مقدار أي حد يعلمه الله والشمس لها مقدار أي حد يعلمه الله والنور والظلام له مقدار يعلمه الله، وجعلتم أنتم لله مقدارا فقلتم الله بقدر العرش، فأهل النسة المباينون لكم هم الأمة هم مئات الملايين اليوم وهم الأشاعرة والماتُريدية، وأما أنتم مشعر المشبهة شرذمة قليلة لا تتجاوزن نحو مليون.

   والآيات المحكمة: هي ما لا يحتمل من التأويل بحسب وضع الله إلا وجها واحدا، أو ما عُرف بوضوح المعنى المراد منه كقوله تعالى:{ ليس كمثله شيء} وقوله:{ ولم يكن له كفوا أحد}، وقوله:{ هل تعلم له سميا}.

   وأما المتشابه: فهو ما لم تتضح دلالته، أو يحتمل أكثر من وجه واحتيج إلى النظر لحمله على الوجه المطابق، كقوله تعالى:{ الرحمن على العرش استوى}.

   وأما قوله تعالى:{ والراسخون في العلم} يحتمل أن يكون ابتداءً، ويحتمل أن يكون معطوفا على لفظ الجلالة، فعلى الأول المراد بالمتشابه ما استأثر الله بعلمه كوجبة القيامة وخروج الدجال ونحو ذلك، فأنه لا يعلم متى وقوع ذاك أحد إلا الله؛ وعلى الثاني: المراد بالمتشابه ما لم يتضح دلالته من الآيات أو يحتمل أوجها عديدة من حيث اللغه مع الحاجة إلى أعمال الفكر ليحمل على الوجه المطابق كآية:{ الرحمن على العرش استوى}، فعلى هذا القول يكون الراسخون في العلم داخلين في الاستثناء، ويؤيد هذا ما رواه مجاهد عن ابن عباس أنه قال:{ أنا ممن يعلم تأويله}.

   قال القشيري في التذكرة الشرقية:{ وأما قول الله عز وجل:{ وما يعلم تأويله إلا الله}. إنما يريد به وقت قيام الساعة، فإن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة أيان مرساها ومتى وقوعها، فالمتشابه إشارة إلى علم الغيب، فليس يعلم عواقب الأمور إلا الله عزّ وجل ولهذا قال:{ هل ينظرون إلا تأويله، يوم يأتي تأويله} أي هل ينظرون إلا قيام الساعة. وكيف يسوغ لقائل أن يقول في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لمخلوق إلى معرفته ولا يعلم تأويله إلا الله، أليس هذا من أعظم القدح بالنبوات وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف تأويل ما ورد في صفات الله تعالى ودعا الخلق إلى علم ما لا يعلم، أليس الله يقول:{ بلسان عربي مبين} فإذا على زعمهم يجب أن يقولوا كذب حيث قال:{ بلسان عربي مبين} إذ لم يكن معلوما عندهم، وإلا فأين هذا البيان؛ وإذا كان بلغة العرب فكيف يدعي أنه مما لا تعلمه الهرب لما كان ذلم الشيء عربيا، فما قول في مقال مآله إلى تكذيب الرب سبحانه.

   ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى، فلو كان في كلامه وفيما يلقيه إلى أمته شيء لا يعلم تأويله إلا الله تعالى، لكان للقوم أن يقولوا بيّن لنا أوّلا من تدعونا إليه وما الذي تقول، فإن الإيمان بما لا يعلم أصله غيرُ مُتَاَتٍّ، ونسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه دعا إلى رب موصوف بصفات لا تعقل أمر عظيم لا يتخيله مسلم، فإن الجهل بالصفات يؤدي إلى الجهل بالموصوف، والغرض أن يستبين من معه مُسْكَةٌ من العقل أن قول من يقول:{ استواؤه صفة ذاتية لا يعقل معناها، واليد صفة ذاتية لا يعقل معناها، والقدَم صفة ذاتية لا يعقل معناها} تمويه ضمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل؛ وقد وضح الحق لذي عينين، وليت شعري هذا الذي يتكر التأويل يَطَّرِدُ هذا الإنكار في كل شيء وفي كل ءاية لأم يقنع بترك التأويل في صفات الله تعالى، فإن امتنع من التأويل أصلا فقد أبطل الشريعة والعلوم، إذ ما من ءاية وخبر إلا ويحتاج إلى تأويل وتصرف في الكلام إلا ما كتن نحو قوله تعالى:{ وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} لأن ثَمَّ أشياء لا بدّ من تأويلها لا خلاف بين العقلاء فيه إلا الملاحدة الذين قصدهم التعطيل للشرائع، والاعتقاد لهذا يؤدي إلى إبطال ما هو عليه من التمسك بالشرع بزعمه. وإن قال: يجوز التأويل على الجملة إلا فيما يتعلق بالله وبصفاته فلا تأويل، فهذا مصير منه إلى أن ما يتعلق بغير الله تعالى يجب أن يعلم وما يتعلق بالصانع وصفاته يجب التقاصي عنه، وهذا لا يرضى ببه مسلم؛ وسرّ الأمر أن هؤلاء الذين يمتنعون عن التأويل معتقدون حقيقة التشبيه غير أنهم يُدلّسون ويقولون: له يد لا كالأيدي وقدم لا كالأقدام واستواء بالذات لا كما نعقل فيما بيننا. فليقل المحقق: هذا كلام لا بد من استبيان – كذا في الأصل ووجه الكلام لا بد من استبيانه – ، قولكم نجري الأمر على الظاهر ولا يعقل معناه تناقض، إن أجريت على الظاهر فظاهر السياق في قوله تعالى:{ يوم يُكشف عن ساق} هو العضو المشتمل على الجلد واللحم والعظم والعصب والمخ، فإن أخذت بهذا الظاهر والتزمت بالإقرار بهذه الأعضاء فهو كفر، وإن لك يمكنك الأخذ بها فأين الأخذ بالظاهر، ألست قد تركتَ الظاهر وعلمت تقدس الرب تعالى عما يوهم الظاهر، فكيف يكون أخذا بالظاهر؟ وإن قال الخصم: هذه الظواهر لا معنى لها أصلا، فهو حكم بأنها ملغاة، وما كان في إبلاغها إلينا فائدة وهي هدَر وهذا محال. وفي لغة العرب ما شئت من التجوز والتوسع في الخطاب، وكانوا يعرفون موارد الكلام ويفهمون المقاصد، فمن تجافى عن التأويل فذلك لقلة فهمه بالعربية، ومن أحاط بطرق من العربية هان عليه مدرك الحقائق، وقد قيل{ وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم}: فكأنه قال: والراسخون في العلم أيضا يعلمونه ويقولون ءامنا به. فإن الإيمان به غير متأت، ولهذا قال ابن عباس:{ أنا من الراسخين في العلم}.اهـ.

   فتبين أن قول من يقول إن التأويل غير جائز خبط وجهل، وهو محجوج بقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس:{ اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب}. رواه ابن ماجه.

   هذا وقد شدد الحافظ ابن الجوزي الفقيه الحنبلي – وهو حرب على حنابلة المجسمة وما أكثرهم – في كتابه المجالس النكيرَ والتشنيع على من يمنع التأويل ووسّع القول في ذلك، فمما ورد فيه:{ وكيف يمكن أن يقال إن السلف ما استعملوا التأويل وقد ورد في الصحيح عن سيد الكونين صلى الله عليه وسلم أنه قدّم له ابن عباس وَضوءه فقال:{ من فعل هذا}، فقال: قلت: أنا يا رسول الله، فقال:{ اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل}، فلا يخلو إما أن يكون الرسول أراد أن يدعو له أو عليه، ولو كان التأويل محظورا لكان هذا دعاء عليه لا له. ثم أقول: لا يخلو إما أن تقول: إن دعاء الرسول ليس مستجابا فليس بصحيح، وإن قلت: إنه مستجاب فقد نركت مذهبك وبَطَل قولك: إنهم ما كانوا يقولون بالتأويل، وكيف والله يقول:{ وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولن ءامنا به}، وقال:{ الۤمۤ} أنا الله أعلم، و{ كۤهيعۤصۤ} الكاف من كافي، والهاء من هادي، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق، إلى غير ذلك من المتشابه}. اهـ.

   ثبوت التأويل التفصيلي عن السلف:

   والتأويل التفصيلي وإن كان عادة الخلف فقد ثبت أيضا عن غير واحد من أئمة السلف وأكابرهم كابن عباس من الصحابة، ومجاهد تلميذ ابن عباس من التابعين، والإمام أحمد ممن جاء بعدهم، وكذلك البخاري وغيره.

   أما ابن عباس فقد قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري:{ وأما الساق فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى:{ يوم يُكشف عن ساق} قال: عن شدة الأمر، والعرب تقول قامت الحرب على ساق إذا اشتدت، ومنه:

قد سَنّ أصحابك ضرب الأعناقْ—-وقامت الحرب بنا على ساقْ

   وجاء عن أبي موسى الأشعري في تفسيرها: عن نور عظيم، قال ابن فورك: معناه ما يتجدد للمؤمنين من الفوائد والألطاف، وقال المُهَلَّب: كشف ساق للمؤمنين رحمة ولغيرهم نقمة، وقال الخطابي: تهيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس أن الله يكشف قدرته التي تظهر بها الشدة، وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن وزاد: إذا خفي عليكم شيء من القرءان فابتغوه من الشعر، وذكر الرجز المشار إليه، وأنشد الخطابي في إطلاق الساق على الأمر الشديد:

—-في سنة قد كَشَفَت عن ساقِها}اهـ.

   وأما مجاهد فقد قال الحافظ البيهقي:{ وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر القاضي قالا: ثنا أبو العباس محمد ابن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان، ثنا أبو أسامة، عن النضر، عن مجاهد في قوله عز وجل:{ فأينما تولوا فثم وجه الله} قال: قِبلة الله، فأينما كنت في شرق أو غرب فلا توجهن إلا إليها}. اهـ.

   وأما الإمام أحمد فقد روى البيهقي في مناقب أحمد عن الحاكم، عن أبي عمرو بن السماك، عن حنبل أن أحمد ابن حنبل تأوّل قول الله تعالى:{ وجاء ربك} أنه جاء ثوابه، ثم قال البيهقي:{ وهذا إسناد لا غبار عليه}، نقل ذلك ابم كثير في تاريخه.

   وقال البيهقي في مناقب أحمد:{ أنبأنا الحاكم، قال حدثنا أبو عمرو بن السماك، قال: حدثنا حنبل بن إسحاق، قال: سمعت عمي أبا عبد الله – يعني أحمد – يقول: احتجوا عليّ يومئذ – يعني يوم نوظر في دار أمير المؤمنين – فقالوا تجيء سورة البقرة يوم القيامة وتجيء سورة تبارك فقلت لهم: إنما هو الثواب، قال الله تعالى:{ وجاء ربك} إنما يأتي قدرته وإنما القرءان أمثال ومواعظ.

   قال البيهقي: وفيه دليل على أنه لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السنة انتقالا من مكان إلى مكان كمجيء ذوات الأجسام ونزولها، وإنما هو عبارة عن ظهور ءايات قدرته، فإنهم لما زعموا أن القرءان لو كان كلام الله وصفة من صفات ذاته لم يجز عليه المجيء والإتيان، فأجابهم أبو عبد الله بأنه إنما يجيء ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ فعبر عن إظهاره إياها بمجيئه}.اهـ.

   وهذا دليل على أن الإمام أحمد رضي الله عنه ما كان يحمل ءايات الصفات وأحاديث الصفات التي توهم أن الله متحيّز في مكان أو أن له حركة وسكونا وانتقالا من علو إلى سفل على ظواهرها، كما يحملها ابن تيمية وأتباعه فيثبتون اعتقادا التحيز لله في المكان والجسمية ويقولون لفظا ما يوهمون به على الناس ليظن بهم أنهم منزهون لله عن مشابهة المخلوق، فتارة يقولون على ما يليق بالله. نقول: لو كان الإمام أحمد يعتقد في الله الحركة والسكون والانتقال لترك الآية على ظاهرها وحملها على المجيء بمعنى التنقل من علو إلى سفل كمجيء الملائكو زما فاه بهذا التأويل.

   وقد روى البيهقي في الأسماء والصفات عن أبي الحسن المقرئ، قال:{ أنا أبو عمرو الصفار، ثنا أبو عوانة، ثنا أبو الحسن الميموني قال: خرج إليّ يوما أبو عبد الله أحمد بن حنبل فقال: ادخل، فدخلت منزله فقلت: أخبرني عما كنت فيه مع القوم وبأيّ شيء كانوا يحتجون عليك؟ قال: بأشياء من القرءان يتأولونها ويفسرونها، هم احتجوا بقوله:{ ما يأتيهم من ذِكر من ربهم محدث} قال: قلت: قد يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المُحدث لا الذكر نفسه هو المُحدَث. قلت – أي قال البيهقي-: والذي يدل على صحة تأويل أحمد بن حنبل رحمه الله ما حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن فورك، أنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس ابن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا شعبة، عن عاصم، عن أبي وائل عن عبد الله – هو ابن مسعود – رضي الله عنه قال:{ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسملت عليه فلم يردّ عليّ فأخذني ما قََدُمَ وما حَدَث، فقلت: يا رسول الله أحدث فيّ شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ إن الله عز وجلّ يحدث لنبيه من أمره ما شاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة}. اهـ.

   وورد أيضا التأويل عن الإمام مالك فقد نقل الزرقاني عن أبي بكر بن العربي أنه قال في حديث:{ ينزل ربنا}:{ النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته، بل ذلك عبارة عن مَلَكِهِ الذي ينزل بأمره ونهيه. فالنزول حسيّ صفة الملك المبعوث بذلك، أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل، فسمى ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة، فهي عربية صحيحة}. اهـ.

   قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري:{ وقال ابن العربي: حكي عن المبتدعة ردّ هذه الأحاديث، وعن السلف إمرارها، وعن قوم تأويلها وبه أقول. فأما قوله:{ ينزل} فهو راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته، بل ذلك عبارة عن مَلَكِهِ الذي ينزل بأمره ونهيه، والنزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني، فغن حملته في الحديث على الحسي فتلك صفة المَلَك المبعوث بذلك، وإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل فيسمى ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة، فهي عربية صحيحة انتهى. والحاصل أنه تأوّله بوجهين: إما بأن المعنى ينزل أمره أو المَلَك بأمره، وإما بأنه استعارة بمعنى التلطّف بالداعين والإجابة لهم ونحوه} انتهى كلام الحافظ، وكذا حكي عن مالك أنه أوّله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال فعل المَلِك كذا أي أتباعه بأمره.

   وورد التأويل أيضا عن سفيان الثوري فقد روى الحافظ البيهقي أيضا في الأسماء والصفات – ص430 – عن أبي عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، قال:{ أنا أبو الحسن محمد بن محمود المروزي الفقيه، ثنا أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ، ثنا أبو موسى محمد بن المثنى، حدثني سعيد بن نوح، ثنا علي ابن الحسن شقيق، ثنا عبد الله بن موسى الضبي، ثنا معدان العابد قال: سألت سفيان الثوري عن قول الله عزّ وجل:{ وهو معكم} قال: علمه}.اهـ.

   وروى أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه:{ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ من يضم}، أو:{ يضيف هذا؟} فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك وأصبحي سارجك ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يُريانِه أنهما طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:{ ضحك الله الليلة}، أو:{ عجب من فعالكما}. فأنزل الله:{ ويُؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يُوقَ شُحّ نفسه فأولئك هم المفلحون}.}اهـ.  – رواه البخاري -.

   قال الحافظ ابن حجر:{ ونسبة الضحك إلى والتعجّب إلى الله مجازية والمراد بهما الرضا بصنعيهما}.اهـ.

   وأوّل البخاري الضحك الوارد في الحديث بالرحمة نقل ذلك عنه الخطابي فقال:{ وقد تأوّل البخاري الضحك في موضع ءاخر على معنى الرحمة وهو قريب، وتأويله على معنى الرضا أقرب}. اهـ.  – روى ذلك البيهقي في الأسماء والصفات ص470، وابن حجر في الفتح(6/40) -.

   خلاصة ما يتعلق بمسئلة التأويل يقال: هنا مسلكان كل منهما صحيح: الأول مسلك السلف وهم أهل القرون الثلاثة الأولى أي الغالب عليهم، فإنهم يؤولونها تأويلا إجماليا بالإيمان بها واعتقاد أن لها معنى يليق بجلال الله وعظمته بلا تعيين، بل ردوا تلك الآيات إلى الآيات المحكمات كقوله تعالى:{ ليس كمثله شيء}.

 

   الثاني: مسلك الخلف: وهم يؤولونها تفصيلا بتعيين معان لها مما تقتضيه لغة العرب ولا يحملونها على ظواهرها أيضا كالسلف، ولا بأس بسلوكه ولا سيما عند الخوف من تزلزل العقيدة حفظا من التشبيه.

   قال الحافظ ابن دقيق العيد:{ نقول في الصفات المشكلة أنها حق وصدق على المعنى الذي أراده الله، ومن تأوّلها نظرنا فإن كان تأويله قريبا على مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه، وإن كان بعيدا توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه}.اهـ.