#20 سيدنا محمد رسول الله ﷺ
وفي السنة الثامنة للهجرة، كانت غزوة مؤتة وجاء في خبرها أنه لما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة أقام بها شهري ربيع، ثم بعث في جمادى الأولى بعثة إلى مؤتة بالشام. وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارثَ بنَ عمير الأزديَ بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم وقيل إلى ملك بصرى فعرض له شُرَحبيلُ بنُ عمرو الغسانيُ فأوثقه رباطا ثم قدمه فضرب عنقه. فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه الخبر عنه، فجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش وبعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان، واستعمل عليهم زيدَ بنَ حارثة وقال: إن أصيب زيد فجعفرُ ابنُ أبي طالب على الناس فإن أصيب جعفرُ فعبدُ الله بنُ رواحة على الناس. فتجهز الناس ثم تهيأوا للخروج وهم ثلاثةُ ءالاف، فلما حان وقتُ خروجهم ودع الناس أمراءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم ثم مضى الجيش ونزلوا معان من أرض الشام، وبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم وانضمت إليه المستعربة من عدة نواح في مائة ألف أخرى. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في أمرهم وقالوا نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدَنا برجال وإما أن يأمرنا فنمضي له. بعد أن سمع المسلمون بجمع هرقل ومن معه قام عبدُ الله بن رواحة خطيبا فشجع الناس وقال لهم: إنما هي إحدى الحسنيين إما ظهورٌ أي نصرٌ وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق ابنُ رواحة، ومضَوا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموعُ هرقل من الروم والعرب بقرية يقال لها مشارف ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة. ثم التقى الناس فاقتتلوا، وحين بدأت المعركة قاتل المسلمون بشجاعة وحب للشهادة وقد حمل زيدُ بن حارثة الراية فلم يزل يقاتل ويخترق بفرسه صفوف جيش الروم حتى استُشهِدَ وقد أخذت الرماحُ منهُ كلَّ مأخذ، فحمل الراية جعفر بن أبي طالب ثم مضى يقاتل ، حتى أصابته ضربةٌ فقطعت يده اليمنى فحمل الراية بشماله فلما قُطعت احتضن الراية وضمها إلى صدره حتى سقط شهيدا وعمرُه ثلاثةٌ وثلاثون سنة، ووجد المسلمون ما بين صدره ومنكبيه وما أقبل منه تِسعينَ جِراحَةً، ما بين ضربةٍ بالسيف وطعنة بالرُمح، كلها في الأمام. ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى سقط شهيدا، ثم أخذ الراية ثابتُ بنُ أقرم فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ليكون قائدا لذلك الجيش وقد عُرف خالدُ بشجاعته وذكائه في المعارك. وفي الليلة التي أصبح فيها خالدُ قائدا لجيش المسلمين في مؤتة غيّر أوضاع جيشه وعبأه من جديد فجعل الميمنةَ ميسرةً وجعل الميسرةَ ميمنة وجعل مقدمةَ الجيش في وسطه والمؤخرةَ في المقدمة فلما أصبح الصباح ونظر الروم إلى جيش المسلمين ظنوا أن المسلمين قد جاءهم مدد من المدينة حتى إذا انسحب خالد بجيشه لم يلاحقه الرومان وقد ظنوا أن المسلمين قد نصبوا لهم كمينا في الصحراء وهم يستدرجونهم إليه. وهكذا استطاع خالد أن ينقذَ جيش المسلمين ويحفظَهُ من الإبادة ويعود به سالما إلى المدينة. لم يستطع المسلمون هزيمة جيش الروم في مؤتة لكنهم ظلوا يقاتلونه ثمانية أيام متتالية واستَشهد منهم اثنا عشر شهيدا وقد قتلوا من الروم المئات، رغم أن جيش الرومِ كان يفوقُهم سبعينَ ضِعفًا، إذ كان عدد المسلمين ثلاثة آلاف وعدد جيش الروم مئتا ألف. كما وكانت هذه هي المرة الأولى التي يختارُ فيها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من أصحابه قادةً على الجيش وكانت أوَ معركة يقاتل فيها خالد ينُ الوليد بعد إسلامه وأوَّل مرة يدخُلُ فيها جيشُ المسلمين أرضَ الروم. وأطلع اللهُ رسولَه الأمين صلى الله عليه وسلم على ذلك من يومه، فصعد المنبر وأمر فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس إلى رسول الله فقال: بابُ خير، بابُ خير، بابُ خير، أُخبركم عن جيشكم هذا الغازي: إنهم انطلقوا فلقَوا العدو فقُتل زيدٌ شهيدا – واستغفر له – ثم أخذ اللواء جعفرُ فشد على القوم حتى قُتل شهيدا – واستغفر له – ثم أخذ اللواء عبدُ الله بنُ رواحة فأثبت قدميه حتى قُتل شهيدا – فاستغفر له – ثم أخذ اللواء خالدُ بن الوليد، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إنه سيفٌ من سيوفك فأنت تنصُره، فسُمي خالد رضي الله عنه من ذلك اليوم: سيفُ الله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق جعفر: إن الله أبدله بيديه جناحين يطيرُ بهما في الجنة حيث شاء. ولذلك لُقِّبَ بجعفرٍ الطيّار وذي الجناحين. ولما دنا الجيش الإسلامي من دخول المدينة المنورة تلقاهم المسلمون ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة فقال: خذوا الصبيان فاحمِلوهم وأَعطوني ابنَ جعفر فأُتي بعبد الله بنِ جعفر فأخذه وحمله بين يديه صلى الله عليه وسلم. ننتقل الآن للكلام عن فتْحِ مكةَ العظيم.كان فتْحُ مكةَ في رمضانَ سنةَ ثَمَان، وسببُ ذلك نَقْضُ قريشٍ بإعانَتِهم بني بكرٍ الذين دخلوا في عقْدِهم وعهدهم على خُزاعة الذين دخلوا في عهد المصطفى وعقْدِه، فناصَرُوهم سرًّا حتى قتَلُوا منهم رجالًا فجاء عمرُو بنُ سالمٍ الخُزاعي وبُدَيْلُ بنُ ورْقاء إلى المدينة وأخبراه بمُظاهرة قريشٍ بني بكرٍ عليهم وإجابَتِهم إلى مُناصَرَتهم، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك نقضًا لصلح الحديبية. ثم قدِم أبو سفيان المدينة ليُشَدَ العقْد ويزيدَ في المُدة فدخل على بنته أمِ حبيبة زوجةِ النبي صلى الله عليه وسلم فذَهَب ليجلس على الفراش فطوَتْه فقال: يا بُنَيَة أرَغِبْتِ بي عن هذا الفراش أم رَغِبْتِ به عني؟ قالت: هو فراشُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجلٌ مُشركٌ نجِسٌ، فقال: لقد أصابك بعدي شر على زعمه، ثم خرج فلقيَ المصطفى فكلَمَهُ فلم يَرُدَ عليه، فكلم أبا بكر أن يُكَلِّم المصطفى فقال: ما أنا بِفَاعِل، فكلم عُمَرَ فقال: أنا أشْفَعُ لكم ؟! واللهِ لو لم أجد إلا الدِّرَة لجَاهَدْتكم بها، فدخل على عليٍّ وعنده فاطمة فما رضي أحدٌ منهما أن يشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجدد الصلح فركِبَ بعيرَه وانطلق راجعا إلى مكة. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتجهز لفتح مكة وأمرهم بكتمان الخبر حتى لا يصل إلى قريش فتستعدَّ لقتاله، ثم قال: “اللهم خُذ الأخبارَ والعُيون عن قريش حتى نَبغَتها أي نُفاجئَها” وكان صلى الله عليه وسلم يحبُ أن يدخل مكة دون قتال. ثم خرج في عشرةِ ءالاف من أصحابه في رمضان سنة ثمان للهجرة حتى نزَل مُرَّ الظَهران، وعَمِيَت أخبارُه على قريش فلا يأتيهم عنه خبر، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش فأوقدوا النيران وكان العباسُ لقيَ المصطفى بالطريق بأهله وعياله مسلما مهاجرًا من مكةَ إلى المدينة ولحِقَ بالعسكر. وخرج في تلك الليلة أبو سفيان يتحسسُ الأخبار فإذا بالعباس يسمع صوت أبي سفيان ويعرفُه فقال: هذا رسولُ الله واصباحَ قريش، قال: فما الحِيلة، فقال العباس: إن ظَفَرَ بِكَ ليَضْرِبَنَ عُنُقَك فارْكَب على عَجُزِ هذه البغلة لِآتيَ بك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأستأْمِنَهُ لك، فركِب فجاء به وكلما مرَّ بنارٍ قالوا: من هذا؟ فإذا رأوْا البغلة قالوا: عمُ رسول الله على بغلتِه، حتى مر بنارِ عمرَ بنِ الخطاب فلما رأى أبا سفيانَ قال: عدوَ الله الحمدُ لله الذي أمْكَنَ منك بغيرِ عقدٍ ولا عهدٍ، ثم خرج يشتدُ نحوَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وركَضَت بغلة العباس فسَبَقَتْهُ بما تَسْبِقُ الدوابُ الرجل، فدخلَا عليه ودخل عمر فقال: هذا أبو سفيان أضرِبُ عُنُقَه؟ فقال العباس: يا رسول الله إني أجَرْتُه، فقال صلى الله عليه وسلم: “اذهب به إلى رَحْلِك فإذا أصبحْتَ فائْتني به” فلما أصبح غدَا به فلما رءاه صلى الله عليه وسلم قال: “ويْحَكَ يا أبا سفيان ألم يَأْنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله”، قال: لقد ظَنَنْتُ أن لو كان مع الله إلهٌ غيرُه لقد أغْنى عني شيئًا بعد، قال: “ألم يأْنِ لك أن تعلم أني رسول الله” قال: بأبي أنت وأمي ما أحلَمَك وأكرمك وأوصلَك! أما هذه ففي نفسي منها شيءٌ حتى الآن فقال له العباس: أسلِم قبل أن يُضْرَب عُنُقُك فأسلَم، فقال العباس: يا رسولَ الله إنه رجلٌ يحب الفخْرَ فاجعل له شيئًا قال: “من دخل دارَ أبي سفيان فهو ءامِنٌ، ومن أغْلَق عليه بابه فهو ءامِن، ومن دخل المسجدَ فهو ءامن” فذهب لينصرِف فقال المصطفى: “يا عباس احبِسْه بمضيقِ الوادي حتى تمرَ به جنودُ اللهِ فيراها” ففعل فمَرَت به القبائل على راياتها كلما مرَت قبيلةٌ قال: يا عباس من هذه؟ فيقول: سُلَيْم، فيقول: ما لي ولِسُلَيْم، ثم تمر قبيلةٌ فيقول: من هذه؟ فيقول: مُزَيْنَة، فيقول: ما لي ولِمُزَيْنة، حتى نفذَت القبائل فمرَ المصطفى في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا يُرى منهم إلا الحِدَقُ من الحديد، قال: من هؤلاء؟ قال: رسولُ الله في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحدٍ بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقة ثم قال: يا أبا الفضْل قد أصبحَ مُلكُ ابنِ أخيك عظيمًا، قال العباس: إنها النُبوة، قال: فنَعَم إذن، فقال العباس: اِلْحَق إلى قومِك، فجاء فصَرَخ بأعلى صوته: هذا محمدٌ جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به فمن دخَلَ دار أبي سفيان فهو ءامِن، فقامت إليه هندُ بنتُ عُتْبة فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الحَمِيتَ الدَسِمَ الأَحْمَس قُبِّحَ من طَلِيعة قوم، قال: لا تغرنكم هذه من أنْفُسِكم، فتفرق الناس إلى دورِهِم وإلى المسجد، ولما انتهى المصطفى صلى الله عليه وسلّم إلى ذي طوى وقف على راحلتِهِ مُعْتَجِرًا بشقَةِ بردةٍ حُمراء وإنه ليَضَعُ رأسه تواضعًا لله حين رأى ما أكرمَه به من الفتْح، فلما دخل مكة دخل المسجد فأتاه أبو بكرٍ بأبيه يقودُه فقال: “هلا تركتَ الشيخ في بيته حتى ءاتِيَه” فقال: هو أحقُ أن يمشِيَ إليك، فمسح صدره وقال له: “أسْلِم” فأسلَم. وليعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أمر حين فرّق جيشه من ذي طوى الزُبيرَ أن يدخُلَ بمن معه من كُدَى، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بن الوليد وكان على الميْمَنَة فدخل من أسفَلِ مكة فلَقِيَهُ بنو بكرٍ فقاتلوه فقتل منهم نحوَ عشرين وانهزموا، وارتفعت طائفةٌ على الجبل وتبِعَهم المسلمون بالسيوف، ولما علا المصطفى بنفسه كُدَاء نظر إلى البارقَةِ على الجبل مع فَضَضِ المشركين فقال: “ألم أنهى عن القتال”؟ فقال المهاجرون: نظنُ أن خالدًا قوُتِل وبُدِئ بالقتال فلم يكن بُدٌّ من أن يُقاتل مَن قاتله وما كان ليعصِيَك، وكان المصطفى عهِدَ إلى أُمَرَائِه أن لا يُقاتِلوا إلا من قاتلَهم لكنه أمَرَ بقتْلِ نفر سماهم وإن وُجِدوا تحت أستار الكعبة منهم عبدُ الله بنُ أبي سرْح وكان أسلم وكتبَ الوحْيَ ثم ارتد، ففَرَ إلى عثمان وكان أخاه من الرَضاع فغيّبه حتى أتى به المصطفى فاستأْمَنَه له فسكت عنه طويلاً ثم قال: “نعم”، ومنهم عبدُ الله بنُ خَطَلٍ كان مسلمًا فارْتدَ فقال: “اقتلوه وإن تعلق بأستارِ الكعبة” فقتلوه، ومنهم الحُوَيْرِثُ بنُ نُفَيْل كان يؤذي المصطفى بمكة، ولما حمل العباسُ فاطمةَ وأم كلثوم ابنتيْ المصطفى من مكةَ يريدُ بهما المدينة نَخَسَ بهما الحُوَيْرث فرمى بهما إلى الأرض فقتله عليٌ يومَ الفتح، ولما أتاه خالد قال له صلى الله عليه وسلم: “قد نهيْتُكَ عن القتال” قال: هم بدَأونا ووضعوا فينا السِلاح وقد كفَفْتُ يدي ما استطعت قال: “قضاءُ الله خَيْر”، وفَرَّ صفوانُ بنُ أمية عامدًا للبحر وعِكرمةُ بنُ أبي جهل عامدًا لليمن فقال عُمَيْرُ بن وهْب: يا نبيَّ الله صفوانُ سيِّدُ قومِه وقد خرج ليقذِفَ نفسه في البحر فأمِّنْهُ فإنك أمّنْتَ الأحمر والأسود قال: “أدرِك ابنَ عمِك فهو ءامِن”، فأدرَكَهُ قال: هذا أمانٌ قد جئْتُك به قال: اغرُب عني لا تُكَلِمْني أخافُه على نفسي، قال: هو أحلمُ من ذلك، فرَجَع معه إليه فقال صفوان: هذا يزعمُ أنك أمَنْتَنِي قال: “صدَق”، وأقْبلَتْ زوجةُ عكرِمَةَ بن أبي جهلٍ وهي مسلمةٌ يومئذٍ واسمها أم حكيم بنتُ الحارث المخزومية، فاسْتأْمَنَتْه له فأمَّنَه فأَقْبَلَ معها فأسلم وحسن إسلامه، وفرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما اطْمأن الناسُ جاء عليه الصلاة والسلام البيتَ فطاف سبعًا على راحلته ، فلما قضى طوافَه دعا عثمانَ بنَ طَلْحة فأخَذَ منه مفتاحَ الكعبة ففتح فدخلها ثم وقَف على بابِها فقال: “لا إله إلا الله صدَقَ وعْدَه ونصر عبدَه وهزم الأحزاب وحدَه، ثم قال: “يا معشَر قريش ما تروْنَ أني فاعلٌ فيكم؟” قالوا: خيرًا أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم قال: “اذهبوا فأنتم الطُلَقاء” ثم جلس بالمسجد فقام عليُّ بن أبي طالب ومِفتاحُ الكعبةِ بيده فقال الرسول عليه السلام: “أين عثمانُ بنُ طَلْحة” فجاء فقال: “هذا مفتاحُك، اليومُ يومُ وفاءٍ وبِرّ” وكان حول البيتِ أصنامٌ مشدودةٌ بالرَصاص فلما طاف جعل يُشيرُ بقضيبٍ في يده إليها وهو يقول: “جاء الحقُ وزَهَق البَاطل” فما أشار لصنمٍ إلا وقَعَ، ولما دخل الكعبة أمَرَ بلالًا أن يؤذن، ثم قام على الصفا يدْعو وقد أحدَقَتْ به الأنصار فقالوا فيما بينهم: أتَرَوْن إذا فتح الله عليه بلدَه يُقيمُ بها، فلما فرَغ قال: “ما قلتُم؟” فلم يَزَل حتى أخبروه، فقال: “المَحْيا مَحْيَاكُم والمماتُ مَمَاتُكم”، ثم أقام بمكةَ بعد فتْحِها خمسَ عشرة ليلة. وكان لفتح مكة أثرٌ عميقٌ في نفوس العرب فشرح الله صدر كثير منهم للإسلام وصاروا يدخلون فيه أفواجا، وصدق الله العظيم: إذا جاءَ نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توّابا. ثم بعد فتح مكة كانت غزوة حنين في شوال سنة ثمان للهجرة، وفيها نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين على المشركين أهل الشرك والباطل وقد كان من أمرها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أقام بمكة عام الفتح نصف شهر لم يزد على ذلك، جاءت هوازن وثقيف فنزلوا بحنين وهو واد بين مكة والطائف، وهم يؤمئذ عامدون يريدون قتال النبي صلى الله عليه وسلم وكانت الرياسة في جميع عسكر المشركين لمالك بن عوف النصري. فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يأتيه بخبرهم، فأتى وأخبر رسول الله بما شاهد فيهم. فعزم الرسول الله صلى الله عليه وسلم على قصدهم وخرج في اثني عشر ألفا من المسلمين حتى أتى وادي حنين. وكانت هوازن قد كمنت في جنبتي الوادي وذلك في غبش الصباح فحملت على المسلمين حملة رجل واحد وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس. وكان عليه الصلاة والسلام على بغلته الشهباء واسمها دلدل يقودها أبو سفيان بن الحارث والعباس عم النبي. وقد قال العلماء: إن ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في موطن الحرب وعند اشتداد الناس هو النهاية في الشجاعة والثبات ولأنه يكون معتمدا يرجع المسلمون إليه وتطمئن قلوبهم به وبمكانه وإنما فعل هذا عمدا وإلا فقد كانت له أفراس معروفة. فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله وأمر العباس وكان جهير الصوت أن ينادي: يا معشر الأنصار، يا معشر المهاجرين، يا معشر الخزرج، فلما سمعوا الصوت أجابوا: لبيك، لبيك فلما ذهبوا ليرجعوا كان الرجل منهم لا يستطيع أن ينفذ ببعيره فكان يأخذ سيفه ودرعه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله ويكر مسرعا على قدميه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا اجتمع حواليه مائة رجل أو نحوهم استقبلوا هوازن بالضرب. واشتدت الحرب، وكثر الطعن، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه فنظر إلى مكان عراكهم فقال: الآن حمي الوطيس. ونزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته وجعل يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب فما رئي من الناس أشد منه، وقد غشاه المشركون، وهذه نهاية الثبات والشجاعة والصبر جزاه الله عنا خيرا. وقد أخبرت الصحابة بشجاعته صلى الله عليه وسلم في جميع المواطن وأنهم كانوا يتقون به في الحرب. وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب تذكيرهم وتنبيههم بأنه لا بد من ظهوره على الأعداء وأن العاقبة له، لتقوى نفوسهم، وأعلمهم أيضا بأنه ثابت ملازم للحرب، وعرفهم موضعه ليرجع إليه الراجعون. وقذف الله عز وجل في قلوب هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن رسول الله إذا واجههم وواجهوه صاح بهم صيحة ورمى في وجوههم بالحصا وقال: شاهت الوجوه، شاهت الوجوه فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك فلم يملكوا أنفسهم وولوا مدبرين. وليعلم أن والد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله وإنما نسب الرسول نفسه إلى جده بقوله أنا بن عبد المطلب وهذا أمرٌ جائز لا كذب فيه، فإن العرب ينسبون أنفسهم لأجدادهم كما نقول عن الإمام أحمد إنه بنُ حنبل مع أنّ حنبل هذا يكون جدُهُ فهو أحمد بنُ محمد بنِ حنبل.