الخميس مارس 28, 2024

#21 سيدنا محمد رسول الله ﷺ

كانت غزوة تبوك في شهر رجب سنة تسع من الهجرة وهي ءاخر غزوة غزاها بنفسه، وسببها أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هرقل والروم جمعوا له جموعا يريدون غزوه في بلاده بعد أن استطاع الروم هزيمة جيشِ الدولةِ الفارسية، وقد تجمع جيش الروم في بلاد الشام وانضم إليه نصارى العرب وخاصة الغساسنة حتى وصل تعداد ذلك الجيش إلى أربَعين ألفَ مقاتل. أمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يتجهزوا للمسير إلى بلاد الروم، وكان ذلك في أيام حرٍ شديد وكان المسلمون في ضيقٍ وشدة وقلة طعام، والمسافة إلى بلاد الروم بعيدة، والطريقُ صحراءُ قاسية، والعدوُ كثيرُ العدد. حث صلى الله عليه وسلم الموسرين على تجهيز المعسرين فأنفق عثمان بن عفان نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم منها، تصدق رضي الله عنه بثلاثمائة بعير وخمسين فرسا وآلافًا من الدنانير وجاء أبو بكر الصديق بكل ماله، وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله، وجاء العباس وطلحة بمال كثير، وأرسلت النساء بكل ما يقدرن عليه من حليهن، ولما اجتمع الرجال خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثون ألفا والخيل عشرة ءالاف فرس وهو أكبر جيش يقوده صلى الله عليه وسلم ولم يكن مع ذلك الجيش من الطعام ما يكفيه وكان الرجال الأربعة أو أكثر يتناوبون على البعير الواحد وقاسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُهُ من الحر الشديد والجوع والعطش حتى سمي ذلك الجيش: جيش العسرة. وقد روى العباس بن سهل بن سعد الساعدي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك قال: أصبح الناس ولا ماء معهم فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا الله، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء. وصل رسول الله والمسلمون إلى بلدة تبوك على حدود دولة الروم فلم يجدوا أحدًا منهم فقد آثر الروم الانسحاب إلى داخل بلاد الشام ليجتنبوا المواجهة مع المسلمين فأقام النبي في تبوك بضع عشرة ليلة وبعث ببعض السرايا إلى المناطق المجاورة ثم رجَع إلى المدينة ظافرا منصورا، فلما ظهرت له المدينة وجبل أحد من بعيد قال: هذه طيبة وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه. وخرج نساء المدينة وأطفالها  يستقبلون  الجيش المنتصر العائد من تبوك. ويستفاد من دروس هذه الغزوة أشياء منها: الصبر على مشاق الجهاد ابتغاء الأجر من الله. ومبادرة العدو قبل أن يدخل أرض المسلمين.  ننتقل الآن للكلام عن حجة الوداع. في شَهْرِ ذي القَعْدَة من السنةِ العاشرةِ للهجرةِ أَذَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في الناسِ بالحجِّ، فأخذ أصحابُه يتجهزونَ، وجاءه الناسُ إلى المدينة من كلِّ ناحيةٍ حتى اجْتَمع فيها تسْعونَ ألفًا، فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من المدينةِ، ومعه أزواجُه، والمُهاجرون والأنْصارُ، وكثيرٌ من قبائلِ العرب، ووافاه في الطريق الكثير فكانوا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله مدَّ البصر وخرج من المدينة نهارا بعد الظهر لخمس بَقَيْنَ من ذي القَعدة يومَ السبتِ بعد أن صلى الظهرَ وخطبهم قبل ذلك خطبة علمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه. ثم لما أصبح قريبًا من مكةَ رفَعَ صوتَه بالتلْبِيَةِ: لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والمُلك لا شريك لك، وَلَبَّى المسلمونَ خلْفَه. ودخل مكة في رابع ذي الحِجة ودخل المسجد الحرام وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأقام بمكة أربعة أيام ثم توجه يومَ التروية أي الثامن من ذي الحِجّة بمن معه من المسلمين إلى منى ونزل بها وصلى بها الظهر والعصر وبات فيها. فلما طلعت شمس اليوم التاسع من ذي الحِجّة سارَ من منى إلى عرفة فنزل بها. وخطب بالناسِ خُطبةً سُمِيَت خُطبةُ الوداع، لأن النَبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال : أيُّها الناسُ: اسْمَعوا قوْلي، فإنّي لا أدْري لعلي لا ألْقاكُم بعد عامي هذا بهذا الموْقِف أبدًا. ومما أوصى به النبيُّ صلى الله عليه وسلّم المسلمينَ في خُطبةِ الوداع: أيُّها الناسُ: إنَّ دماءَكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلْقوْا ربَّكُم. وإنكم ستلقوْنَ ربَّكُم فيَسْأَلُكم عن أعمالِكم… ألا هلْ بلَّغْتُ؟ قالوا: نعم، قال: اللّهم فاشْهَد. ثم لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال الحج وطاف طواف الوداع توجه إلى المدينة فلما أتى ذا الحليفة باتَ بها، فلما رأى المدينة كبَّرَ ثلاثَ مرات وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق اللهُ وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم دخلها نهارا. ولم يحُجَّ النبيُّ في حياته كلِّها سوى هذه الحَجَةِ. و بعد رجوعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم من حجةِ الوداع، جَهَّزَ جيشًا بقيادةِ أُسَامةَ بنِ زيْد رضي الله عنهما، وكان في العشرينَ من عُمُرِه، وأَمَرَهُ بالمَسِيرِ إلى بلادِ الشام، حيثُ الأرضُ التي اسْتُشْهِدَ فيها والدُه زيدُ بنُ حارثةَ رضي الله عنه في غزوةِ مُؤْتَة، وقد عَسْكَرَ أسامة رضي الله عنه بجيشه خارجَ المدينة. والآن ننتقل للكلام عن وفاة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلم. هو الحبيبُ الذي تحدّثْنَا عن وِلادَتِهِ صلى الله عليه وسلم، هو الحبيبُ الذي تحدثنا عنْ بعضِ صفاتِه، هو الحبيبُ الذي تحدثنا عن صبرِه وأخلاقِه. ولا أدرِي اليومَ إخوةَ الإيمانِ كيفَ أُحدِّثُكُم عنْ وَفاتِه صلى الله عليه وسلم. إنَّ مِنْ أشَدِّ المصائبِ التي تَنْزِلُ بالإنسانِ في هذهِ الحياةِ هوَ فَقْدُ الأحِبّة. فأيُّ إنسانٍ ذاكَ الذي لا يَعْتَصِرُهُ الألمُ عندَ وفاةِ أبيهِ أوْ أمِّهِ أوْ أخِيهِ أوْ أحدِ أبْنائِهِ؟ ولعَلَّ أكْثَرَنا قدْ أحَسَّ بِمَرارةِ الفَقْدِ ولوْعةِ الفِراق. فكيف بوفاة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حَرِيٌّ بِنَا أنْ نتكَلَّمَ عنْ وفاةِ سَيِّدِ الأُمَةِ وإمامِ الأئمةِ، مَنْ أرسلَهُ اللهُ للنَّاسِ هُدًى وَرَحمةً، لأنَّ وفاتَه صلى الله عليه وسلم ليستْ كَوَفَاةِ سائِرِ النَّاس، إِذْ بِمَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم انْقَطَعَتِ النُّبُوَّات. فهذا يُذَكِّرُنَا بأنّ الدُّنيَا دارُ مَمَرٍّ والآخِرَةَ دَارُ مَقَرٍّ، وبأنَّ الموتَ حَقٌ قدْ كَتَبَهُ اللهُ على العباد، وأنَّ أفضلَ العبادِ قد ماتَ، ولا بُدَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أنْ يَمُوتَ، فقد قالَ اللهُ تعالى مُخاطِبًا نَبِيَّهُ المصطفى في الكتاب:” إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ” ، أي إِنَّكَ سَتَمُوتُ وَهُم سَيَمُوتُون. وقال سبحانه:” وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ أَفَـإِن مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَـٰلِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ” . وليعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر في الشهر المحرّم من السنة السابعة للهجرة، وبعدَ خَيْبَرَ سُمَّ رسولُ الله في الشَّاة. والتي وَضَعَتْ له السُّمَّ في الشَّاةِ، اليَهُودِيَّةُ زينبُ بنتُ الحارِث. وزينبُ هذه هي زَوْجُ سلامِ بنِ مِشْكَمٍ. قَدَّمَتْ له صلى الله عليه وسلم ولبعضِ أصحابهِ شاةً مسمومةً وَضَعَتْ فيها سُمَّ ساعة. فلمَّا أَكَلَ الرَّسُولُ منها لقمةً واحدةً أخبرَته ذراعُ الشَّاة. قالتْ له أنا مسمومة. فماتَ الصَّحابيُّ بِشْرُ بنُ البَراءِ بنِ مَعْرورٍ الأنصارِيُّ فورًا. وأمَّا هو، عليه الصَّلاةُ والسَّلام، فلم يمتْ منه فورًا. بل ظَلَّ يسرِي السُّمُّ في جوفهِ ببطء حتَّى وَصَلَ إلى الأبهرِ، أي عِرْقِ القلب. الله تعالى أظهرَ له في ذلكَ معجزةً حيثُ إنَّ هذا السُّمَّ لم يقتلْه لساعتهِ كما قَتَلَ صاحبَه لساعته. الله تعالى خَفَّفَ عنه تأثيرَه. ظَلَّ هذا السُّمُّ يسري في جسدِه ببطء مُدَّةَ ثلاثِ سنوات. ولم يزلْ رسولُ الله يجدُ أَلمَ هذا السُّمِّ من وقتٍ إلى وقتٍ حَتَّى شَعَرَ عند اقترابِ أجلهِ بأنه وَصَلَ إلى عِرْقِ القلبِ فأظهرَ الله له بهذا السُّمِّ معجزةً حيثُ إنه لم يقتلْه لساعتهِ وإنما بعدَ ثلاثِ سنوات. ثمَّ لمَّا كانَ ءاخرُ الأمرِ منهُ أنَّ عِرْقَ قلبهِ انقطعَ من أَثَرِ هذا السُّمِّ نالَ الشَّهادة. فلولا أنَّ الله أراد لنبيِّهِ الشَّهَادَةَ لكانتْ ذراعُ الشَّاةِ أخبرتهُ قبلَ أنْ يمضُغ هذه اللُّقْمَةَ. لكنْ بما أنَّ الله أراد له الشَّهَادَةَ ما أنطقَ ذراعَ الشَّاةِ إلَّا بعدَ أن بلعَ لقمةً واحدة. ومُدَّةُ مَرَضهِ الذي ماتَ فيهِ إثنا عَشَرَ يومًا. كانَ قال لعائشةَ في مَرَضِ وفاتهِ “يا عائشةُ لا أزالُ أجدُ أَلَمَ الطَّعامِ الذي أكلتُ بخيبرَ ، فهذا أوانُ وجدتُ انقطاعَ أَبْهَرِي من ذلكَ السُّمِّ” رَوَاهُ البخاريُّ في (صحيحه). قال صاحبُ العُجَالةِ السَّنِيَّةِ على ألفيَّة السِّيرة النبويَّة للحافظِ العراقيِّ ما نصُّه : وتُوُفِّيَ رسولُ الله شَهيدًا يومَ الإثنينِ من ربيعٍ الأَوَّل ا.هـ. وتُوُفِّيَ رسولُ الله ضُحَى الإثنينِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ من شهرِ ربيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ إحدَى عَشْرَةَ من الهجرةِ وغَسَلَهُ عَمُّهُ العَبَّاسُ وابناهُ قُثَمُ والفَضْلُ وابنُ عَمِّهِ عليُّ بنُ أبي طالب وشُقْرانُ مولى رسولِ الله وأسامةُ بنُ زيدِ بنِ حارثةَ وكُفِّنَ في ثلاثةِ أثواب بيضٍ ليسَ فيها قميصٌ ولا عِمامة. وصلَّى عليه المسلمونَ أَفْذَاذًا لا يَؤُمُّهُمْ أحدٌ. ودخلَ قبرَه عمُّه العَبَّاسُ وابناهُ قُثَمُ والفَضْلُ وابنُ عَمِّهِ عليُّ بنُ أبي طالب وشُقْرانُ مولى رسولِ الله. ودُفِنَ ليلةَ الأَربعاء .. وقيل دُفِنَ يومَ الثلاثاء .. وما عَجَّلُوا بدفنهِ علمًا بأنَّ الأَوْلى تعجيلُ دَفْنِ الميتِ المسلم . وإنما أَخَّرَ الصَّحابةُ دفنَه من ضُحَى يومِ الإثنينِ إلى ليلةِ الأَربعاء من أجلِ تنظيم شؤونِ الأُمَّةِ لأنهم خافوا أنْ يَتَصَدَّعَ أمرُ الأُمَّةِ فتداركوا الأمرَ واشتغلوا بنصبِ خليفةٍ لرسولِ الله. فنصَبوا أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ، رضيَ الله عنه، خليفةً. ثمَّ بعد ذلكَ وفي مساء اليومِ الذي تَمَّتْ فيهِ البَيْعَةُ لأبي بكرٍ دفنوا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم. لا يُكْرَهُ تأخيرُ دَفْنِ المَيْتِ المسلمِ إذا كانَ هذا التأخيرُ لسببٍ شرعيٍّ أي لمصلحةٍ دينيَّة. ودُفِنَ رسولُ الله في الموضعِ الذي تُوُفِّيَ فيه. وهو حُجْرَةُ عائشة. رَوَى مالكٌ في المُوَطَّإ أنَّ رسولَ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، تُوُفِّيَ يومَ الإثنينِ ودُفِنَ يومَ الثلاثاء وصلّى النَّاسُ عليه أفذاذًا لا يَؤُمُّهُمْ أحدٌ فقال ناسٌ يُدْفَنُ عندَ المنبرِ وقال ءاخَرُونَ يُدْفَنُ بالبقيع. فجاء أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ فقال سمعتُ رسولَ الله يقول “ما دُفِنَ نبيٌّ قَطُّ إلَّا في مكانهِ الذي تُوُفِّيَ فيه”. فَحُفِرَ له فيه. فلمَّا كانَ عندَ غُسْلهِ أرادوا نَزْعَ قميصهِ فسمعوا صوتًا يقول “لا تَنْزِعُوا القميص” .. فغُسِّلَ وهو عليه .. ثمَّ حفروا له تحتَ فراشهِ الذي توفي عليه ودفنوه .. كانتْ عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ زوجةُ رسولِ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، رأتْ في منامِها قبلَ وفاةِ الرَّسُولِ ثلاثةَ أقمارٍ وَقَعْنَ في بيتِها. فلمَّا ماتَ الرَّسُولُ قال لها أبو بكر “هذا أحدُ أقمارِك الثَّلاثة”. ثمَّ ماتَ أبو بكر ودُفِنَ إلى جانب الرَّسول. ثمَّ بعدَ أنْ طُعِنَ عُمَرُ بنُ الخَطَّاب قال له بعضُ الأطبَّاء ” أَوْصِ” .. فقال “إستأذِنوا عائشةَ في أنْ أُدْفَنَ في بيتها”. فسألوها فأَذِنَتْ من طيبِ نفسِها فدُفِنَ إلى جانبِ أبي بكر. وقد رُوِيَ أَنَّ السَّيِّدَةَ الجليلةَ عائشةَ زَوْجَ النبيِّ، عليه الصَّلاةُ والسَّلام، كانتْ قد رأتْ في المنام ثلاثةَ أقمارٍ سَقَطْنَ في بيتِها. فَقَصَّتْ رؤيتَها على أبيها أبي بكرٍ فقال لها “إنْ صَدَقَتْ رُؤْياكِ يُدْفَنُ في بيتكِ ثلاثةٌ هم خيرُ أهلِ الأرض” .. فلمَّا دُفِنَ النبيُّ المصطفى، صلَّى الله عليه وسلم، قال لها  “هذا خيرُ أقماركِ الثلاثةِ الذينَ نَزَلُوا حُجْرَتَكِ قد حَلَّ الدَّار” .. ثمَّ دُفِنَ بعدَ ذلكَ في حُجْرَةِ عائشةَ، أيْ بيتِها، صاحبا رسولِ الله أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ ثمَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّاب .. فهُمَا رضيَ الله عنهما، الضَّجيعانِ للنبيِّ من الأقمارِ الثَّلاثة .. وهو، صلَّى الله عليه وسلم، خيرُ جارٍ في المماتِ وخيرُ جارٍ في الحياة .. قال بعضُ العلماء “إنَّ التُّرابَ الذي ضَمَّ النبيَّ في قبرِه أفضلُ عندَ الله تعالى من العرشِ الذي هو سقفُ الجنَّة” .. رَوَى الدَّارِميُّ في (سننه) أنَّ كَعْبًا لمَّا دَخَلَ على أُمِّ المؤمنينَ عائشةَ، رضيَ الله عنها، أتى الحاضرونَ على ذكرِ رسولِ الله، صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال كَعْبٌ “ما مِنْ يومٍ يَطْلُعُ إلَّا نزَل سبعونَ ألفًا من الملائكةِ حتَّى يحُفُّوا بقبرِ النبيِّ ، صلَّى الله عليه وسلَّم، يضرِبون بأجنحتهم ويُصَلُّونَ على رسولِ الله حتَّى إذا أمسَوا عرجوا وهبط مثلُهم فصنعوا مثلَ ذلكَ حتَّى إذا انشقَّت عنه الأرضُ،  يومَ القيامةِ، خَرَجَ في سبعينَ ألفًا من الملائكةِ يَزِفُّونهُ”. ورَوَى مثلَه ابنُ النَّجَّارِ عن كَعْبِ الأحبارِ أيضًا والبيهقيُّ في شُعَبِ الإيمان .. هؤلاء الألوفُ من الملائكةِ يَنْزِلُونَ كُلَّ يومٍ إلى قبرِ رسولِ الله ليحُفُّوا بقبرِه الشَّريفِ ويضرِبوا بأجنحتهم أيْ ليتمسَّحوا بقبره تَبَرُّكًا .. فمن أينَ لهؤلاء الوهابية الجُهَّالِ أنْ يُنْكِرُوا التَّمَسُّحَ بقبرِ رسولِ الله تَبَرُّكًا. وهذا الحديثُ ثابتٌ صحيحٌ عندَ أهلِ السُّنَّةِ وثابتٌ أيضًا عندَ ابنِ القَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ الذي تأتمُّ به الوَهَّابيَّة . فقد أَوْرَدَهُ ابنُ القَيِّمِ في كتابهِ المُسَمَّى (جَلاءُ الأفهام) مستحسنًا له من غيرِ أَنْ يُنْكِرَهُ. ورَوَى أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالأَوْسَطِ عَنْ دَاوُدَ بنِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: أَقْبَلَ مَرْوَانُ يَعْنِي مَرْوَانَ بنَ الْحَكَمِ يَوْمًا وَكَانَ حَاكِمًا عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ، فَوَجَدَ رَجُلًا وَاضِعًا وَجْهَهُ عَلَى الْقَبْرِ فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا تَصْنَعُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ أَبُو أَيُّوبٍ وَاسْمُهُ خَالِدُ بنُ زَيْدٍ فَقَالَ: نَعَم جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَلَمْ ءَاتِ الْحَجَرَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: لا تَبْكُوا عَلَى الدِّينِ إِذَا وَلِيَهُ أَهْلُهُ وَلَكِنِ ابْكُوا عَلَيْهِ إِذَا وَلِيَهُ غَيْرُ أَهْلِهِ مَعْنَاهُ أَنْتَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ يَا مَرْوَانُ، لَسْتَ أَهْلًا لِتَوَلِّي الأَمْرِ. وليعلم أن وَضْعَ الْوَجْهِ عَلَى الْقَبْرِ مِنْ أَبِي أَيُّوبٍ لَمْ يَسْتَنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَاذَا يَقُولُ أَتْبَاعُ ابْنِ تَيْمِيَةَ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ قَصْدَ الْقَبْرِ لِلتَّبَرُّكِ شِرْكًا؟ هَلْ يُكَفِّرُونَ الصحابيَ الجليل أَبَا أَيُّوبٍ أَمْ مَاذا يَفْعَلُونَ؟ وزد على ذلك ما قَالَ عبدُ الله بنُ الإمامِ أحمد بنِ حنبل فِي كِتَابِهِ الْعِلَلِ وَمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ : سَأَلْتُهُ – يَعْنِي سَأَلَ أَبَاهُ الإِمَامَ أَحْمَدَ – عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ مِنْبَرَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَيَتَبَرَّكُ بِمَسِّهِ وَيُقَبِّلُهُ وَيَفْعَلُ بِالْقَبْرِ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْ نَحْوَ هَذَا، يُرِيدُ بِذَلِكَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ فَقَالَ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ اهـ. وقال السمهودي في وفاء الوفا و نصه: لما قدم بلال رضي الله عنه من الشام لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم أتى القبر فجعل يبكي عنده ويمرغُ وجهَه عليه. و اعلموا رحمكم الله تعالى بتوفيقه أنّه ليس مجردُ استقبالِ قبرِ النبي  والدعاءِ هناك عبادةٌ لغير الله تعالى لأنه لا ينطبق عليه تعريفُ العبادة عند اللغويين. لأن العبادة عندهم الطاعة مع الخضوع وقال بعض نهاية التذلل أي بلوغ الغاية في التعظيم وهذا الذي يستقيم لغة وعرفا فهؤلاء الوهابية الذين يكفرون المسلم لأنه استقبل قبر الرسول ودعا الله تعالى جهلوا معنى العبادة وخالفوا ما عليه المسلمون لأن المسلمين سلفا وخلفا لم يزالوا يستقبلون قبر النبي  ويدعون الله تعالى وليس معنى هذا أنّ الرسول  يخلق لهم شيئا بل المعنى أنهم يرجون أن يخلق الله لهم مطالبهم بسبب زيارتهم لقبره ودعائهم هناك لا سيّما وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم :  وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيما. وإليكم ما يقول العالم العلامة المحقق القاضي أبو الفضل عياض اليحصبي المالكي المتوفى سنة 544 هـ في كتابه الذي سماه الشفا بتعريف حقوق المصطفى. في الجزء الثاني يُخبر عن الخليفة المنصور انه لما حج وزار قبر النبي سأل الإمام مالك قائلا:” يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله  فقال مالك : ولمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعَه الله تعالى، قال الله تعالى : وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا. هذا ما ذكره القاضي عياض رحمه الله في الشفا وساقه بإسناد صحيح عن سيدنا مالك رضي الله عنه. وعلى هذا علماء المذاهب الأربعة عند أهل السنة والجماعة نصرهم الله فلا عبرة بتزوير وتحريف الوهابية للنصوص وتدليسهم على ضعفاء العقول وتشويشهم على زوار النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا يظهر لكم واحدٌ من أسباب محاربةِ الوهابية لمذهب الإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وقولِهم نأخذ بالقرآن والسنة فقط ولا نأخذ بالمذاهب الأربعة وما ذلك إلا لأن عقيدةَ ونهجَ وطريقةَ علماء المذاهب الأربعة تُظهِرُ للناس حقيقتهم وهي أنهم شاذون عن عقيدةِ أهل السنة وطريقتِهم وما هم إلا اليد الخبيثة التي يحركها أعداء الإسلام لضرب المسلمين من الداخل وباسم انهم سلفية والحقيقةُ أن السلفَ والخلفَ والأمةَ جمعاء بريئةٌ منهم ومما جاؤوا به من الباطل. ونصيحتي لكل مسلم أن لا يأخذ العلم منهم وأن يحذرهم وإلا قد ينقلب ما أخذه منهم كما هو مشاهد إلى سكين على رقاب الأبرياء أو حزام ناسف يفجره فيهم. ومن سخريّة الوهابية واستخفافهم بعقول الناس يقولون مع كل هذا نحن نأخذ بالقرآن والسنة بفهم السلف ! وهم في ذلك كاذبون. أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد من أفضل السلف والوهابية يكذبونهم بل ويكفرونهم أيضا والعياذ بالله. نسأل الله تعالى أن يحفظنا من شر الأشرار وأن يحشرنا مع الأبرار وصلى الله وسلم على صاحب الأنوار سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين والحمد لله رب العالمين.