الخميس مارس 28, 2024

يونس عليه السلام
لم يغضب من ربه ولم يشك بقدرة الله

وهنا ينبغي أن نتوقّف هنيهة لبيان أمر مهم، وهو أن بعض الناس ظنّوا من قصور أفهامهم أن يونس عليه السلام غضب من ربه وهذا غير صحيح ألبتة؛ بل من يعتقد هذا فقد وقع في الكفر والعياذ بالله تعالى، إذ لا يجوز هذا في حقّ أنبياء الله الذين عصمهم الله وجعلهم هداةً مهتدين عارفين بربهم، فمن نسب إلى يونس عليه السلام أنه ذهب غاضبًا من الله فقد افترى على نبيّ الله ونسب إليه الجهل بالله والكفر به، وهذا يستحيل على الأنبياء لأنهم معصومون من الكفر والكبائر وصغائر الخسة قبل النبوّة وبعدها. والصحيح أنّ سيدنا يونس عليه السلام أقام في قومه ثلاثًا وثلاثين سنة يدعوهم إلى الإسلام ولم يؤمن به خلال هذه المدّة غير رجلين اثنين، فترك قومه وخرج من بينهم آيسًا منهم لكفرهم وكان ذاك قبل أن يأمره الله تعالى بالخروج، وكان هذا منه ذنبًا صغيرًا لا خسّة فيه. وظنّ سيّدنا يونس أن الله لن يضيّق عليه ولن يؤاخذه على هذا الفعل المحرّم الذي ليس فيه خسّة ولا دناءة، وما كان ليغضب من ربّه فأرسل الله عليه الحوت فابتلعه، وذلك لأنّ سيدنا يونس ما كان ينبغي له أن يترك قومه من غير أن يأذن الله له بذلك، فسلّط عليه الحوت فابتلعه ومكث في بطنه ثلاثة أيّام، ولذلك سمّاه الله في القرآن الكريم ذا النوّن، أي: صاحب الحوت.

وأما قول الله سبحانه في حقّ سيّدنا يونس: {فَظَنَّ أَنْ لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87]، فمعنى ذلك أنه ظنَّ أن الله تعالى لن يضيّق عليه بتركه لقومه قبل أن يؤمر بذلك، وكان خروجه ذاك معصية صغيرة ليس فيها خسّة ولا دناءة، ولا يجوز أن يُعْتَقَدَ أن نبيّ الله يونس عليه السلام ظنَّ أن الله تبارك وتعالى لا يقدر عليه، لأن هذا مما لا يُعْذَرُ فيه أحد العوامّ فضلًا عن نبيّ كريم. وهذا كلام من لم يفقهْ كلامَ العرب ولم يدرِ موارد استعمالاتهم، ومن ثمَّ نَبَّه اللغويّ محمد مرتضى الزبيدي على ذلك فقال: «القَدْر: التضييق، كالتقدير. يُقال: قَدَرَ عليه الشيءَ يَقْدِرُه ويَقْدُرُه قَدْرًا وقَدَرًا، وقَدَّرَه: ضَيَّقَه، عن اللّحيانيّ. وقولُه تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}، أَي: لن نُضَيّق عليه، قاله الفَرّاء وأَبو الهَيْثَم. وقال الزَّجّاج: أَي لَنْ نُقدّر عليه ما قَدَّرنا من كونه في بَطْن الحُوتِ. قال: ونَقْدِرُ: بمعنَى نُقدّر. قال: وقد جَاءَ هذا في التَّفسِير قال الأَزْهريّ: وهذا الذي قاله صحيح، والمعنى ما قَدّرَهُ اللهُ عليه من التضييق في بطن الحوت وكُلُّ ذلك سائغ في اللغة، والله أَعلم بما أَراد. وأما أن يكون من القُدرة فلا يجوز لأَنّ من ظنّ هذا كَفَر، والظنّ شكٌّ، والشكّ في قدرة الله تعالى كُفْرٌ. وقد عَصَمَ الله أَنْبِيَاءَه عن ذلك، ولا يَتَأَوَّل مِثْلَه إِلا جاهلٌ بكلامِ العَرَب ولُغَاتهَا([1])».اهـ.

ولنستطلع بعض الأقوال التي وردت في هذا الشأن عن بعض المفسّرين، فقد قال القرطبيّ في تفسير هذه الآية : «قوله تعالى: {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا} قال الحسن والشعبيّ([2]) وسعيد بن جبير: «مغاضبًا لربه عزَّ وجلَّ». واختاره الطبريّ واستحسنه المهدويّ([3])، وروي عن ابن مسعود.

وقال النحاس([4]): «وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح». والمعنى: مغاضبًا من أجل ربه، كما تقول: غضبتُ لك، أي: من أجلك. والمؤمن يغضب لله عزَّ وجلَّ إذا عُصِيَ، ولم يغضب على الله ولكن غضب لله. وقال ابن مسعود: أبق من ربه، أي: من أمر ربه حتى أمره بالعودة إليهم بعد رفع العذاب عنهم. فإنه كان يتوعَّد قومه بنـزول العذاب في وقت معلوم، وخرج من عندهم في ذلك الوقت، فأظلَّهم العذاب فتضرَّعوا فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم؛ فلذلك ذهب مغاضبًا وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدد.

وأما ما يقوله بعض الجهال من أنَّ قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء: 87]، معناه: استزلَّهُ إبليس ووقع في ظنهّ إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته، فهذا قول مردود وهو كفر.

وذكر الثعلبيّ([5]) وقال عطاء([6]) وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه: فظن أن لن نضيّق عليه. قال الحسن: هو من قول الله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26]، أي: يضيّق. وقوله سبحانه: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّـهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّـهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]. قلتُ – أي: القرطبيّ ‑: وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن وقَدَرَ وقَدَّرَ وقَتَرَ وقَتَّرَ بمعنًى، أي: ضيَّق وهو قول ابن عباس في ما ذكره الماورديّ([7]) والمهدويّ. وقيل: هو من القدر الذي هو القضاء والحكم، أي: فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة.

وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرًا قط لأهله إذا مات فحرَّقوه: «فوالله لئن قدر الله عليّ»([8]) الحديث، فعلى التأويل الأول يكون تقديره: والله لئن ضيَّق الله عليَّ وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن ذلك، ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه. وعلى التأويل الثاني: أي لئن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جُرْمٍ على جُرْمِهِ ليعذّبني الله على إجرامي وذنوبي عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين غيري. وحديثه خرّجه الأئمة في الموطأ وغيره.

والرجل كان مؤمنًا مُوَحِدًا. وقد جاء في بعض طرقه: «لم يعمل خيرًا إلا التوحيد»([9]) وقد قال حين قال الله تعالى: «لم فعلت هذا؟» قال: من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. وقد قيل: إن معنى {فَظَنَّ أَنْ لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}: الاستفهام، وتقديره: أَفَظَنَّ؟ فحذف الف الاستفهام إيجازًا، وهو قول سليمان التيميّ أبي المعتمر([10]). وحكى القاضي منذر بن سعيد([11]): «أن بعضهم قرأ «أفظن» بالألف»([12]).اهـ.

 

 

[1])) تاج العروس، الزبيدي، مادة: (ق د ر)، (13/373).

[2])) عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار، الشعبيّ الحميريّ (ت103هـ)، أبو عمرو، راوية من التابعين، يضرب المثل بحفظه. سئل عما بلغ إليه حفظه فقال: «ما كتبت سوداء في بيضاء ولا حدّثني رجل بحديث إلا حفظته».اهـ. وهو من رجال الحديث الثقات، استقضاه عمر بن عبد العزيز. وكان فقيهًا. حلية الأولياء، أبو نُعيم، (4/310). تهذيب ابن عساكر، (7/138). الأعلام، الزركلي، (3/251).

[3])) أحمد بن عمار بن أبي العباس المهدويّ التميميّ (ت440هـ)، أبو العباس، مقرئ أندلسيّ أصله من المهدية بالقيروان. رحل إلى الأندلس في حدود سنة 407هـ وصنّف كتبًا، منها: (التفصيل الجامع لعلوم التنزيل)، وهو تفسير كبير للآيات يذكر القراءات والإعراب، واختصره وسماه (التحصيل في مختصر التفصيل)، و(أبيات في أجناس الظاءات)، و(التيسير في القراءات). الأعلام، الزركلي، (1/184، 185).

[4])) أحمد بن محمد بن إسماعيل المراديّ المصريّ (ت338هـ)، أبو جعفر النحاس مفسّر أديب. مولده ووفاته بمصر. كان من نظراء نفطويه وابن الأنباريّ. زار العراق واجتمع بعلمائه وصنّف: (تفسير القرآن)، و(إعراب القرآن)، و(ناسخ القرآن ومنسوخه)، و(معان القرآن). الأعلام، الزركلي، (1/208).

[5])) أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبيّ (ت427هـ)، أبو إسحاق، مفسر من أهل نيسابور له اشتغال بالتاريخ. من كتبه: (الكشف والبيان في تفسير القرآن)، يعرف بتفسير الثعلبيّ. الأعلام، الزركلي، (1/212).

[6])) عطاء بن أبي رباح «أسلم»، مفتي الحرم، أبو محمد القرشيّ، من كبار التابعين حدّث عن عائشة وأم سلمة وأم هانئ وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم، وحدث عنه مجاهد والزهريّ وقتادة. سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، (5/78، 87).

[7])) عليّ بن محمد بن حبيب البصريّ الماورديّ الشافعيّ (ت450هـ)، قال القاضي شمس الدين في «وفيات الأعيان»: «من طالع كتاب «الحاوي الكبير» له يشهد له بالتبحُّر ومعرفة المذهب».اهـ. ولي قضاء بلاد كثيرة، وله: تفسير القرآن سماه (النكت والعيون)، و(أدب الدنيا والدين)، و(الأحكام السلطانية). سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، (18/64 – 67).

[8])) ولفظ الحديث في موطأ مالك: «حدَّثني عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات فحرّقوه، ثم اذْرُوا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابًا لا يعذّبه أحدًا من العالمين، فلمَّا مات الرجل فعلوا ما أمرهم به، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب، وأنت أعلم. قال: فغفر له».اهـ. كتاب الجنائز، باب: جامع الجنائز (1/240)، رقم الحديث 570.

[9])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، (11/332).

[10])) سليمان بن طرخان الإمام (ت143هـ)، أبو المعتمر التيميّ البصريّ. محدّث، قال يحيى بن معين والنسائيّ وغيرهما: «ثقة».اهـ. روى عن أنس بن مالك وعن أبي عثمان النهديّ، حدّث عنه أبو إسحاق السبيعيّ أحد شيوخه وابنه معتمر وشعبة وسفيان وحماد ابن سلمة، قال عليّ بن المدينيّ: «له نحو مائتي حديث».اهـ. سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، (6/195 – 202).

[11])) منذر بن سعيد البلوطيّ أبو الحكم الأندلسيّ (ت355هـ)، قاضي الجماعة بقرطبة، من تصانيفه: (الإنباه عن الأحكام من كتاب الله)، و(الإبانة عن حقائق أصول الديانة). قال ابن بشكوال في بعض كتبه: «منذر بن سعيد خطيب بليغ مِصْقَعٌ لم يكن بالأندلس أخطب منه مع العلم البارع والمعرفة الكاملة واليقين في العلوم والدين والورع وكثرة الصيام والتهجد والصدع بالحق».اهـ. سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، (16/173 – 178).

[12])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (11/329 – 332).