تنكر الوهابية تأويل المتشابه في الكتاب والسُّنَّة مطلقًا، وتؤوِّل ما يخالف معتقدها على ما يناسب هواها، فما هذا التحكم الذي يدل على تذبذبها وتخبطها وشرودها عن سبيل الحق وطريق الهدى؟!
ففي كتاب «التنبيهات» يقول مؤلفاه ابن باز وصالح بن فوزان([1]): «تأويل الصفات عن معناها الحقيقي لا يجوز في أي عصر من العصور… والتأويل باطل مهما صلحت نية فاعله وحسن مقصده».
فأين الوهابية حين قالت ما قالت من حديث رسول الله ﷺ لسيدنا عبد الله بن عباس([2]) ترجمان القرآن: «اللَّهُمَّ علِّمْهُ الحكمةَ وتأويلَ الكتاب» رواه ابن ماجه([3]) في سننه([4]).
وليت شعري هل وقفت الوهابية عند قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. أم يعتبرون هذا من جملة التشبيه؟! تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.
وهاكَ الأدلة الصريحة على أن السلف أوّلوا التأويل التفصيليّ ولم يتهمهم أحد أنهم معطلة إلا المشبهة الوهابية ومن تبعهم، لأنهم مولعون بتشبيه الله بخلقه، زاعمين أن هذا هو الإيمان بالصفات والعياذ بالله.
قال الإمام البخاري([5]) في صحيحه في تفسير سورة القصص: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] «إلا ملكه»([6]). هذا تأويل تفصيلي، وهو عند المشبهة الوهابية ومن تبعهم تعطيل.
وروى الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح فقال: «وأما الساق فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42] قال: عن شدة من الأمر»([7]). وهذا تأويل تفصيلي بتعيين محدَّد لها([8]).
قال البيهقيّ في كتابه الأسماء والصفات([9]): «باب ما جاء في إثبات العين صفةً لا من حيث الحدقةُ». وقال كذلك([10]): «باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين لا من حيث الجارحة».
وغير ذلك الكثير الكثير من تأويل السلف وإثباتهم للتأويل التفصيلي.
[1])) ابن باز وصالح بن فوزان، الكتاب المسمّى تنبيهات في الرد على من تأوَّل الصفات، ص71.
[2])) عبد الله بن عبّاس، البحر، حبر الأمّة وفقيه العصر وإمام التفسير، أبو العبّاس ابن عمّ رسول الله محمَّد r العبّاس بن عبد المطلّب شيبة بني هاشم، ولد بِشِعب بني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين، صحب النبيّ عليه الصلاة والسلام نحوًا من ثلاثين شهرًا، دعا له النبيّ r بالحكمة والتأويل، وكان سيدنا عمر t إذا ذكره قال: «ذلك فتي الكهول، وله لسان سَؤول وقلب عقول». وكان يسمّى البحر لكثرة علمه، مسنده فيه 1660 حديثًا في الصحيحين وغيرهما، توفي سنة 67هـ. الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، ج4، ص169 – 181، رقم الترجمة: 409.
[3])) محمّد بن يزيد الربعيّ القزوينيّ، أبو عبد الله، ابن ماجه، أحد الأئمة في علم الحديث، من أهل قزوين، رحل إلى البصرة وبغداد والشام ومصر والحجاز والري في طلب الحديث، وصنَّف كتابه «سنن ابن ماجه»، وهو أحد الكتب الستة المعتمدة، وله «تفسير القرآن»، و«تاريخ قزوين». ولد سنة 209هـ، وتوفّي سنة 273هـ، الزركلي. الأعلام، ج7، ص144.
[4])) ابن ماجه، سنن ابن ماجه، المقدمة، باب: في فضائل أصحاب رسول الله r، فضل ابن عباس، ص166.
[5])) أبو عبد الله البخاريّ، محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه، وهي لفظة بخارية، معناها الزرَّاع، الإمام، العالم، الحافظ، صاحب «الجامع الصحيح». تنقّل في البلدان وسمع أكابر المحدّثين. ومن مؤلفاته: «التاريخ». ولد سنة 194هـ، وتوفّي سنة 256هـ. الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج8، ص536 – 570، رقم الترجمة: 2274. الزركلي، الأعلام، ج6، ص34.
[6])) البخاري، صحيح البخاري بحاشية السندي، كتاب التفسير، باب سورة القصص، ج3، ص171.
[7])) ابن حجر، فتح الباري، ج13، ص437.
[8])) أما التأويل الإجمالي فهو الإيمان بها من غير تفصيل، ومن غير تحديد معنًى معيَّن، لكن من غير كيف وتشبيه لله.
[9])) البيهقيّ، الأسماء والصفات، ص405
[10])) البيهقيّ، الأسماء والصفات، ص407.