السبت ديسمبر 21, 2024

مَعَاصِي الْبَطْنِ

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ: اللَّهُ (فَصْلٌ) وَمِنْ مَعَاصِي الْبَطْنِ أَكْلُ الرِّبَا وَالْمَكْسِ وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَكُلِّ مَأْخُوذٍ بِمُعَامَلَةٍ حَرَّمَهَا الشَّرْعُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَحَدُّ شَارِبِهَا أَرْبَعُونَ جَلْدَةً لِلْحُرِّ وَنِصْفُهَا لِلرَّقِيقِ وَلِلإِمَامِ الزِّيَادَةُ تَعْزِيرًا.

   الشَّرْحُ أَنَّ هَذَا الْفَصْلَ عُقِدَ لِبَيَانِ إِحْدَى مَعَاصِي الْجَوَارِحِ السَّبْعَةِ الْيَدِ وَالْبَطْنِ وَاللِّسَانِ وَالرِّجْلِ وَالْفَرْجِ وَالأُذُنِ وَالْعَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/36] أَفْهَمَنَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِذِكْرِ الْفُؤَادِ مَعَاصِيَ الْقَلْبِ وَبِذِكْرِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مَعَاصِيَ الْجَوَارِحِ لِنَحْفَظَهَا.

   وَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَشْيَاءُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا الرِّبَا، فَكُلُّ مَالٍ يَدْخُلُ عَلَى الشَّخْصِ بِطَرِيقِ الرِّبَا أَكْلُهُ حَرَامٌ، وَالْمُرَادُ بِالأَكْلِ هُنَا الِانْتِفَاعُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَكْلًا وَاصِلًا لِلْبَطْنِ أَوِ انْتِفَاعًا بِاللُّبْسِ أَوِ انْتِفَاعًا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ بِأَنْوَاعِ الِانْتِفَاعَاتِ. وَمَا كَانَ وَاصِلًا إِلَى يَدِ الشَّخْصِ مِنْ طَرِيقِ الرِّبَا مِنَ الْمَالِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الآخِذُ وَالدَّافِعُ وَالْعَامِلُ فِي ذَلِكَ بِنَحْوِ الْكِتَابَةِ لِعُقُودِ الرِّبَا بَيْنَ الْمُتَرَابِيَيْنِ لِحَدِيثِ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ءَاكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ» [أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ] وَفِي رِوَايَةٍ «وَشَاهِدَيهِ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ]، فَاللَّعْنُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ شَمَلَ الْكَاتِبَ إِنْ كَانَ يَكْتُبُ بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، وَالشَّاهِدَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ أَنْوَاعِهِ.

   وَمِنْ ذَلِكَ الْمَكْسُ، أَيْ أَكْلُ الْمَكْسِ وَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ الظَّلَمَةُ مِنَ السَّلاطِينِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ عَلَى الْبَضَائِعِ وَالْمَزَارِعِ وَالْبَسَاتِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمَكْسُ مِنَ الْكَبَائِرِ بِلا خِلافٍ فَالَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ بِالْكِتَابَةِ عَاصٍ ءَاثِمٌ إِلَّا أَنْ كَانَ يَقْصِدُ بِالْكِتَابَةِ حِفْظَ حُقُوقِ النَّاسِ إِلَى أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ إِنْ تَيَسَّرَ وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ وَإِلَّا فَالَّذِي يَحْصُلُ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ فِي ذَلِكَ بَعِيدٌ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ الْبَغَوِيُّ «الْمَاكِسُ مَنْ يَأْخُذُ مِنَ التُّجَّارِ إِذَا مَرُّوا عَلَيْهِ شَيْئًا مِثْلَ الزَّكَاةِ» اهـ، قَالَ الْمُنْذِرِيُّ «الآنَ يَأْخُذُونَ مَكْسًا ءَاخَرَ لَيْسَ بِاسْمِهِ وَلَكِنَّهُ حَرَامٌ سُحْتٌ» اهـ.

   وَلا يُجْزِىءُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ لا يَأْخُذُونَهَا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا زَكَاةٌ لِتُوَزَّعَ فِي مَصَارِفِهَا الشَّرْعِيَّةِ، وَالَّذِي يَدْفَعُ إِلَيْهِمْ وَهُوَ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَقَدْ أَضَاعَ الزَّكَاةَ وَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ] «إِنَّهَا» أَيِ الْمَرْأَةَ الزَّانِيَةَ الَّتِي طَهَّرَتْ نَفْسَهَا بِالرَّجْمِ الَّذِي رُجِمَتْهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ «تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ» إِشْعَارٌ بِعُظْمِ مَعْصِيَةِ الْمَكْسِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَكْسَ أَشَدُّ ذَنْبًا مِنَ الزِّنَى.

تَحْذِيرٌ

   إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ لا يَرَوْنَ الْمَكْسَ مَعْصِيَةً وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْجَهَلَةِ إِنَّهُ حَقُّ السُّلْطَانِ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي بَعْضِ تَآلِيفِهِ إِنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ رِدَّةٌ. وَيَنْبَغِي حَمْلُ كَلامِ النَّوَوِيِّ عَلَى غَيْرِ قَرِيبِ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ وَنَاشِئٍ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِ مُتَأَوِّلٍ بِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِخِدْمَةِ الْبِلادِ الضَّرُورِيَّةِ فَإِنَّ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةَ لا يُكَفَّرُونَ إِنْ سَمَّوْهَا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْحَاكِمَ إِذَا لَمْ يَجِدْ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ الشَّرْعِيِّ مَا يُنْفِقُهُ لِخِدْمَةِ الْبِلادِ وَحِفْظِهَا يَفْرِضُ عَلَى الأَغْنِيَاءِ لِسَدِّ الضَّرُورَاتِ بِقَدْرِ مَا يَكْفِي لَهَا، فَيَأْخُذُ مِنْهُمْ لِذَلِكَ بِرِضَاهُمْ وَبِغَيْرِ رِضَاهُمْ.

   فِي الدَّوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ بَيْتُ مَالٍ فِيهِ مَا يَسُدُّ حَاجَاتِ النَّاسِ يُقْتَصَرُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ ذَلِكَ يَفْرِضُ الْمَلِكُ عَلَى الأَغْنِيَاءِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْقَدْرَ الَّذِي تُسَدُّ بِهِ الْحَاجَاتُ هَذَا الَّذِي يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ. فِي الْمَاضِي أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْخُلَفَاءِ كَانَ بَيْتُ الْمَالِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَمِنْ مَالِ مَنْ يَمُوتُ وَلا وَارِثَ لَهُ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ هُنَا كَانَ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ يَقُومُ أَمَّا الآنَ فَلا يُوجَدُ جِهَادٌ لِلْكُفَّارِ يُحَصِّلُ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنَائِمِ فَيَجُوزُ لِلْمَلِكِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الأَغْنِيَاءِ أَيْ مِمَّنْ لَهُ شَىْءٌ زَائِدٌ عَلَى كِفَايَتِهِ قَدْرًا تُسَدُّ بِهِ حَاجَاتُ الْجَيْشِ [أَيِ الْجَيْشِ الإِسْلامِيِّ] وَغَيْرُ ذَلِكَ.

   وَمِنْ مَعَاصِي الْبَطْنِ أَكْلُ مالِ الْغَصْبِ، وَالْغَصْبُ هُوَ الِاسْتِيلاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ ظُلْمًا اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ، فَخَرَجَ مَا يُؤْخَذُ مِنَ النَّاسِ بِحَقٍّ كَالَّذِي يَأْخُذُهُ الْحَاكِمُ لِسَدِّ الضَّرُورَاتِ مِنْ أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِي لِذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ غَصْبًا بَلْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَاكِمُ مِنْ أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ مَا تَقْتَضِيهِ الضَّرُورَاتُ وَلَوْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَنْ لا يَتْرُكَ لَهُمْ إِلَّا نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ النِّظَامِ الإِسْلامِيِّ، وَأَيُّ نِظَامٍ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا.

   وَمِنْ ذَلِكَ أَكْلُ مَالِ السَّرِقَةِ، وَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ خُفْيَةً لَيْسَ اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ أَكْلُ كُلِّ مَالٍ مَأْخُوذٍ بِمُعَامَلَةٍ حَرَّمَهَا الشَّرْعُ مِمَّا مَرَّ بَيَانُهُ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ أُنَاسًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ] مِنْ حَدِيثِ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَا أَبْشَعَ قَوْلَ بَعْضِ الْمَاجِنِينَ السُّفَهَاءِ: السَّارِقُ مِنَ السَّارِقِ كَالْوَارِثِ مِنْ أَبِيهِ، فَهَذَا الْكَلامُ وَأَمْثَالُهُ تَكْذِيبٌ لِلشَّرْعِ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ حُرْمَةَ أَكْلِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ وَلَوِ انْتَقَلَ إِلَى أَيْدٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَلَى تِلْكَ الأَيْدِي كُلِّهَا وَأَنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ إِلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ الأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: لا يَتَجَاوَزُ الْحَرَامُ ذِمَّتَيْنِ، وَهُمْ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ الْحَرَامَ إِذَا أَخَذَهُ شَخْصٌ ثُمَّ أَعْطَاهُ لِشَخْصٍ ءَاخَرَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّخْصُ الثَّانِي أَعْطَى الْمَالَ شَخْصًا ثَالِثًا لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الثَّالِثِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِ هَذَا الْمَالِ، وَهَذَا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ كُفْرٌ، إِنَّمَا الَّذِي هُوَ مَذْكُورٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مُقَرَّرٌ أَنَّ الْمَالَ الْحَرَامَ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ أَصْحَابُهُ إِلَى أَنْ أُيِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ أَصْحَابِهِ يَكُونُ كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مُرْصَدٌ مُهَيَّأٌ لِلْمُحْتَاجِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَلا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الشَّخْصُ الْمُكْتَفِي لِنَفْسِهِ فَلْيُعْلَمْ هَذَا، وَلا يُلْتَفَتُ إِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ يُدْخِلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ.

   فَيْصَل مَوْلَوِي أَفْتَى لِرَجُلٍ سَأَلَهُ قَائِلًا أَنَا طَالِبُ عِلْمٍ فِي يُوغُوسْلافْيَا أَخِي يُنْفِقُ عَلَيَّ وَأَخِي يَعْمَلُ فِي الرِّبَا فَهَلْ يَجُوزُ لِي هَذَا الْمَالُ قَالَ فَيْصَل نَعَمْ لِلْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ لا يَتَجَاوَزُ الْحَرَامُ ذِمَّتَيْنِ اهـ وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ رِدَّةٌ إِنْ حَصَلَتْ مِنْ مُسْلِمٍ وَمَعَ هَذَا يُسَمِّيهِ أَتْبَاعُهُ فَقِيهَ الْجَمَاعَةِ.

   فَائِدَةٌ قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ الْمُعِينِ «لَوْ أَخَذَ الشَّخْصُ مِنْ غَيْرِهِ بِطَرِيقٍ جَائِزٍ مَا ظَنَّ حِلَّهُ وَهُوَ حَرَامٌ بَاطِنًا فَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ الْخَيْرَ لَمْ يُطَالَبْ فِي الآخِرَةِ قَالَ صَاحِبُ فَتْحِ الْمُعِينِ وَلَوِ اشْتَرَى طَعَامًا بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ وَقَضَى مِنْ حَرَامٍ فَإِنْ أَقْبَضَهُ لَهُ الْبَائِعُ بِرِضَاهُ قَبْلَ تَوْفِيَةِ الثَّمَنِ حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ، أَوْ بَعْدَهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ حَرَامٌ حَلَّ أَيْضًا وَإِلَّا حَرُمَ إِلَى أَنْ يُبَرِّئَهُ أَوْ يُوَفِّيَهُ مِنْ حِلٍّ، قَالَهُ شَيْخُنَا» اهـ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ شَيْخُنَا ابْنَ حَجَرٍ أَيِ الْهَيْتَمِيَّ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ، مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ أَبْرَأَهُ فَقَالَ لَهُ لا أُرِيدُ مِنْكَ أَنْ تُوَفِّيَنِي الثَّمَنَ مِنْ حَلالٍ بَرِئَ وَإِلَّا لا بُدَّ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ مَالٍ حَلالٍ.

   وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ «اكْتَسَبَ حَرَامًا وَاشْتَرَى بِهِ أَوْ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ شَيْئًا قَالَ الْكَرْخِيُّ إِنْ نَقَدَ قَبْلَ الْبَيْعِ تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ وَإِلَّا لا، وَهَذَا قِيَاسٌ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كِلاهُمَا سَوَاءٌ وَلا يَطِيبُ لَهُ وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى وَلَمْ يَقُلْ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ وَأَعْطَى مِنَ الدَّرَاهِمِ، [وَلَوْ] دَفَعَ مَالَهُ مُضَارَبَةً لِرَجُلٍ جَاهِلٍ جَازَ أَخْذُ رِبْحِهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ اكْتَسَبَ الْحَرَامَ» اهـ.

   [وَفِي رَدِّ الْمُحْتَارِ مَا نَصُّهُ «تَوْضِيحُ الْمَسْأَلَةِ مَا فِي (التَّتَارِ خَانِيَّة) حَيْثُ قَالَ رَجُلٌ اكْتَسَبَ مَالًا مِنْ حَرَامٍ ثُمَّ اشْتَرَى فَهَذَا عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:

(1) إِمَّا أَنَّهُ دَفَعَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ إِلَى الْبَائِعَ أَوَّلًا ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ بِهَا.

(2) أَوِ اشْتَرَى قَبْلَ الدَّفْعِ بِهَا وَدَفَعَهَا.

(3) أَوِ اشْتَرَى قَبْلَ الدَّفْعِ بِهَا وَدَفَعَ غَيْرَهَا.

(4) أَوِ اشْتَرَى مُطْلَقًا وَدَفَعَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ.

(5) أَوِ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ أُخَرَ وَدَفَعَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ.

   قَالَ أَبُو نَصْرٍ يَطِيبُ لَهُ وَلا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ إِلَّا فِي الْوَجْهِ الأَوَّلِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ، لَكِنْ هَذَا خِلافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهُ نَصَّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إِذَا غَصَبَ أَلْفًا فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً وَبَاعَهَا بِأَلْفَيْنِ تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ فِي الْوَجْهِ الأَوَّلِ وَالثَّانِي لا يَطِيبُ، وَفِي الثَّلاثِ الأَخِيرَةِ يَطِيبُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لا يَطِيبُ فِي الْكُلِّ لَكِنَّ الْفَتْوَى الآنَ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنِ النَّاسِ. انْتَهَى. وَفِي الْوَلْوَاجِيَّةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لا يَطِيبُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ، لَكِنَّ الْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ دَفْعًا لِلْحَرَجِ لِكَثْرَةِ الْحَرَامِ. انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا مَشَى الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ تَبَعًا لِلدُّرَرِ وَغَيْرِهَا» اهـ.

   وَاعْلَمْ بِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إِذَا دَفَعَ الشَّخْصُ الْمَالَ إِلَى الْبَائِعِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ وَبَيْنَ مَا إِذَا اشْتَرَى الشَّىْءَ بِثَمَنٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ بَلْ قَالَ اشْتَرَيْتُ مِنْكَ هَذَا الشَّىْءَ بِكَذَا ثُمَّ أَقْبَضَهُ الْبَائِعُ إِيَّاهُ ثُمَّ دَفَعَ لَهُ الثَّمَن الَّذِي كَانَ فِي ذِمَّتِهِ لَهَا أَصْلٌ أَصِيلٌ وَاعْتِبَارٌ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِينَ وَذَكَرَهَا الإِمَامُ الْمُجْتَهَدُ أَبُو بَكْرِ بنُ الْمُنْذِرِ فَلا عِبْرَةَ بِتَوَهُّمِ مُتَوَهِّمٍ جَاهِلٍ بِالْفِقْهِ يَظُنُّ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْفِقْهِ فَيُنْكِرُ هَذَا الْفَرْقَ وَيَعْتَبِرُ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا بَعِيدٌ مِنَ الْفِقْهِ وَلَوْلا بُعْدُهُ الْبَعِيدُ لَمْ يَتَوَهَّمْ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا فُسْحَةٌ كَبِيرَةٌ وَلا سِيَّمَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ الْمَالُ الْحَرَامُ، لِأَنَّ خَلْقًا كَثِيرًا يَجْمَعُونَ مَالًا حَرَامًا ثُمَّ يَشْتَرُونَ أَرَاضِيَ أَوْ أَبْنِيَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَيَكُونُ الْمَالُ الَّذِي يَجْعَلُونَهُ ثَمَنًا مِنْ هَذَا الْحَرَامِ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ هَذِهِ الأَرْضُ وَهَذَا الْبِنَاءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَرَيْتُمُوهُ رُدُّوهُ إِلَى أَصْحَابِهِ وَاسْتَرِدُّوا الْمَالَ الَّذِي دَفَعْتُمُوهُ مِنْهُمْ ثُمَّ رُدُّوهُ إِلَى مَنْ أَخَذْتُمْ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَالَ الْحَرَامَ لِعَدَمِ صِحَّةِ شِرَائِكُمْ يَسْتَصْعِبُونَ ذَلِكَ غَايَةَ الِاسْتِصْعَابِ، وَلَكِنَّهُمْ إِذَا دُلُّوا عَلَى هَذَا الْفَرْقِ يَهُونُ عَلَيْهِمُ الأَمْرُ، لِأَنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ يَشْتَرُونَ الأَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الثَّمَنِ ثُمَّ يُوَفُّونَ مِمَّا بِأَيْدِيهِمْ، وَجَزَى اللَّهُ الْفُقَهَاءَ الَّذِينَ وَضَعُوا لِلنَّاسِ أَمْثَالَ هَذَا الْمَخْرَجِ خَيْرًا.

   ثُمَّ السَّبِيلُ إِلَى النَّجَاةِ فِي الآخِرَةِ مِنْ مُطَالَبَةِ أَصْحَابِ الأَمْوَالِ بِحُقُوقِهِمْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَمْ يَقْبِضُوا الأَثْمَانَ مِنْ مَالٍ حَلالٍ أَنْ يُوَفِّيَ هَؤُلاءِ الْمُشْتَرُونَ الأَثْمَانَ مِنْ مَالٍ حَلالٍ يَسْتَفِيدُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَيْعِ هَذِهِ الأَغْرَاضِ الَّتِي اشْتَرَوْهَا أَوْ مَا يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمْ مِنْ غِلَّاتِهَا بِالإِيْجَارِ وَنَحْوِهِ، أَوْ يَسْتَسْمِحُونَ فَيَقُولُونَ لِمَنِ اشْتَرَوْا مِنْهُمُ الْمَالُ الَّذِي دَفَعْنَاهُ إِلَيْكُمْ كَانَ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ فَسَامِحُونَا فَإِذَا سَامَحُوهُمْ نَفَعَهُمْ ذَلِكَ فِي الآخِرَةِ.]

   وَمِنْ مَعَاصِي الْبَطْنِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَهِيَ كَمَا قَالَ عُمَرُ «مَا خَامَرَ الْعَقْلَ» أَيْ غَيَّرَهُ رَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ فِي كِتَابِ الأَشْرِبَةِ. وَقَدِ اعْتِيدَ فِي بَعْضِ الْبِلادِ تَسْمِيَةُ بَعْضِ الأَشْرِبَةِ الَّتِي هِيَ مُسْكِرَةٌ بِاسْمٍ خَاصٍّ فَاسْتَحَلُّوا شُرْبَهَا كَمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ بِلادِ الْحَبَشَةِ، عِنْدَهُمْ شَرَابٌ يَتَّخِذُونَهُ مِنْ بَعْضِ الْحُبُوبِ يُسَمُّونَهُ فِي بَعْضِ النَّوَاحِي قُرَارِي وَفِي بَعْضِ النَّوَاحِي شَلَلِي وَلا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْنَ هَذَا وَالْخَمْرِ الآخَرِ الَّذِي يَعْتَبِرُونَهُ حَرَامًا وَيَتَجَنَّبُونَهُ إِلَّا أَنَّ هَذَا أَخَفُّ مِنْ ذَاكَ، فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِمُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِغَلَبَةِ الْهَوَى فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَمَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ [فِي سُنَنِهِ]. وَالْفَرَقُ مِكْيَالٌ يُقَالُ إِنَّهُ يَسَعُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا.

   وَأَمَّا حَدُّ الْخَمْرِ فَهُوَ فِي الأَصْلِ بِالنِّسْبَةِ لِشَارِبِهَا الْحُرِّ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً وَلِلرَّقِيقِ عِشْرُونَ، ثُمَّ إِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ جَازَ إِلَى الثَّمَانِينَ لِفِعْلِ عُمَرَ. قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ (أَيْ فِي الْخَمْرِ) أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ» أَيِ الأَرْبَعُونَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

   أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ مِنَ الْقُرْءَانِ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة].

﴿وَالْمَيْسِرُ﴾ الْقِمَارُ، ﴿وَالأَنْصَابُ﴾ نَوْعٌ مِنَ الأَوْثَانِ وَهِيَ حِجَارَةٌ يُهْرِيقُونَ الدَّمَ عِبَادَةً لَهَا لِأَنَّهَا تُنْصَبُ فَتُعْبَدُ، ﴿وَالأَزْلامُ﴾ هِيَ سِهَامٌ كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى أَحَدِهَا أَمَرَنِي رَبِّي وَعَلَى الآخَرِ مَكْتُوبٌ نَهَانِي رَبِّي وَالثَّالِثُ لَيْسَ عَلَيْهِ كِتَابَةٌ كَانُوا يَقْتَسِمُونَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَخْلِطُونَهَا وَيَأْخُذُونَ أَحَدَهَا فَإِذَا خَرَجَ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ كِتَابَةٌ يَرُدُّونَهُ وَيُعِيدُونَ الْخَلْطَ إِلَى أَنْ يَخْرُجَ أَحَدُ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِمَا. ﴿رِجْسٌ﴾ أَيْ نَجِسٌ أَوْ خَبِيثٌ مُسْتَقْذَرٌ، ﴿مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾، لِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ عَمَلُهُ وَالضَّمِيرُ فِي ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ يَرْجِعُ إِلَى الرِّجْسِ أَوْ إِلَى عَمَلِ الشَّيْطَانِ، ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أَكَّدَ تَحْرِيـمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مِنْ وُجُوهٍ حَيْثُ صَدَّرَ الْجُمْلَةَ بِإِنَّمَا وَقَرَنَهَا بِعِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَجَعَلَهُمَا رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَلا يَأْتِي مِنْهُ – أَيِ الشَّيْطَانُ – إِلَّا الشَّرُّ الْبَحْتُ وَأَمَرَ بِالِاجْتِنَابِ وَجَعَلَ الِاجْتِنَابَ مِنَ الْفَلاحِ، وَإِذَا كَانَ الِاجْتِنَابُ فَلاحًا كَانَ الِارْتِكَابُ خَسَارًا. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ﴾ بَيَانُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مِنَ الْوَبَالِ وَهُوَ وُقُوعُ التَّعَادِي وَالتَّبَاغُضِ بَيْنَ أَصْحَابِ الْخَمْرِ وَالْقِمَارِ وَمَا يُؤَدِّيَانِ إِلَيْهِ مِنَ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ مُرَاعَاةِ أَوْقَاتِ الصَّلاةِ وَخَصَّ الصَّلاةَ مِنْ بَيْنِ الذِّكْرِ لِزِيَادَةِ دَرَجَتِهَا كَأَنَّهُ قَالَ وَعَنِ الصَّلاةِ خُصُوصًا، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ مَعَ الأَنْصَابِ وَالأَزْلامِ أَوَّلًا ثُمَّ أَفْرَدَهُمَا ءَاخِرًا لِأَنَّ الْخِطَابَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَمَّا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاللَّعِبِ بِالْمَيْسِرِ وَذَكَرَ الأَنْصَابَ وَالأَزْلامَ لِتَأْكِيدِ تَحْرِيـمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَإِظْهَارِ أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعًا مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ ثُمَّ أَفْرَدَهُمَا بِالذِّكْرِ لِيُعْلَمَ أَنَّهُمَا الْمَقْصُودُ بِالذِّكْرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ مِنْ أَبْلَغِ مَا يُنْهَى بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ قَدْ تُلِيَ عَلَيْكُمْ مَا فِيهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الصَّوَارِفِ وَالزَّوَاجِرِ فَهَلْ أَنْتُمْ مَعَ هَذِهِ الصَّوَارِفِ مُنْتَهُونَ أَمْ أَنْتُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كَأَنْ لَمْ تُوعَظُوا وَلَمْ تُزْجَرُوا. وَيُفْهَمُ مِنَ الآيَةِ أَيْضًا أَنَّ الْقِمَارَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَلَهُ صُوَرٌ عَدِيدَةٌ.

   وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَشَارِبَهَا وَءَاكِلَ ثَمَنِهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَمُسْتَقِيَهَا». وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّاظِرَ إِلَيْهَا مَلْعُونٌ كَمَا شَاعَ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الْعَوَامِّ بَلْ قَوْلُ ذَلِكَ عَلَى الإِطْلاقِ ضَلالٌ وَكُفْرٌ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.

   وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَةَ فِي الدُّنْيَا يُحْرَمُهَا فِي الآخِرَةِ». أَيْ إِنْ لَمْ يَتُبْ يُحْرَمُ شُرْبَ خَمْرِ الْجَنَّةِ الَّذِي لا يُسْكِرُ وَلا يُصْدِعُ الرَّأْسَ وَلَيْسَ نَجِسًا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ مَعَ قَوْلِهِ ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَقَبْلَ نُزُولِ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ لَمْ تَكُنِ الْخَمْرَةُ مُحَرَّمَةً عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ أَيْ إِذَا كَانَتْ إِلَى الْقَدْرِ الَّذِي لا يَضُرُّ الْجِسْمَ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لا يَحُثُّونَ أُمَمَهُمْ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي حِكْمَةَ الْبِعْثَةِ الَّتِي هِيَ تَهْذِيبُ النُّفُوسِ، وَقَلِيلُ الْخَمْرِ يُؤَدِّي إِلَى كَثِيرِهِ. وَمَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ سَيِّدَنَا عِيسَى قَالَ قَلِيلٌ مِنَ الْخَمْرِ يُفَرِّحُ قَلْبَ الإِنْسَانِ فَهُوَ كَذِبٌ عَلَيْهِ.

   وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/43] فَهَذَا نَزَلَ قَبْلَ التَّحْرِيـمِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/219] فَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ تَحْرِيـمًا، لِأَنَّهُمْ ظَلُّوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ بَلْ لَمَّا نَزَلَتْ هَاتَانِ الآيَتَانِ قَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا» رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الأَرْبَعَةُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنِّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَلَمْ يَفْهَمُ سَيِّدُنَا عُمَرُ وَلا غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ التَّحْرِيـمَ مِنْ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ، وَانْقَطَعُوا عَنْ شُرْبِهَا لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهُ التَّحْرِيـمَ الْقَطْعِيَ. وَاللَّهُ تَعَالَى تَسْهِيلًا عَلَيْهِمْ حَتَّى لا يَكُونَ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ فِي الإِقْلاعِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ أَنْزَلَ التَّحْرِيـمَ شَيْئًا فَشَيْئًا. ثُمَّ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ قَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ «انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا» وَأَرَاقُوا الْخَمْرَ حَتَّى جَرَتْ فِي السِّكَكِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ [سُورَةَ النَّحْل/67] فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمُ السَّكَرُ هُوَ الْخَلُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الآيَةُ نُسِخَتْ لَمَّا نَزَلَتْ ءَايَةُ التَّحْرِيـمِ.

   وَكَمَا يَحْرُمُ شُرْبُ الْخَمْرِ يَحْرُمُ بَيْعُهَا وَلَوْ لِغَيْرِ شُرْبِهَا لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ».

   وَالْخَمْرُ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْعِنَبِ أَوِ التَّمْرِ أَوِ الْعَسَلِ أَوِ الْحِنْطَةِ أَوِ الشَّعِيرِ أَوِ الذُّرَةِ أَوِ الْبَصَلِ أَوِ الْبَطَاطَا أَوِ التُّفَّاحِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَفِي لَفْظٍ «وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ».

   فَكُلُّ شَرَابٍ غَيَّرَ الْعَقْلَ مَعَ الطَّرَبِ أَيْ مَعَ النَّشْوَةِ وَالْفَرَحِ فَهُوَ خَمْرٌ إِنْ كَانَ مِنْ عِنَبٍ أَوْ عَسَلٍ أَوْ ذُرَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الأَشْيَاءُ إِنَّمَا تَصِيرُ خَمْرًا إِذَا حَصَلَ الْغَلَيَانُ، عِنْدَمَا تَغْلِي وَتَرْتَفِعُ ثُمَّ تَنْزِلُ عِنْدَئِذٍ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ يَعْتَبِرُونَهَا صَافِيَةً، أَمَّا قَبْلَ الْغَلَيَانِ فَهُوَ حَلالٌ يُقَالُ لَهُ نَبِيذٌ حَلالٌ فَمَا يُنْقَعُ بِالْمَاءِ إِنْ وَصَلَ إِلَى حَدِّ الإِسْكَارِ أَوْ لَمْ يَصِلْ يُقَالُ لَهُ نَبِيذٌ لَكِنْ إِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى حَدِّ الإِسْكَارِ فَهُوَ نَبِيذٌ حَلالٌ.

   أَمَّا عَصِيرُ الْعِنَبِ فَيَصِيرُ خَمْرًا بَعْدَ الْغَلَيَانِ مِنْ دُونِ أَنْ يُخْلَطَ بِهِ شَىْءٌ، أَمَّا الْعَسَلُ وَالشَّعِيرُ وَالذُّرَةُ وَالزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ إِنَّمَا يَصِيرُ خَمْرًا عِنْدَمَا يُوضَعُ فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ يَمْكُثُ مُدَّةً ثُمَّ يَغْلِي أَيْ يَرْتَفِعُ وَيَطْلَعُ مِنْهُ صَوْتٌ يُقَالُ لَهُ نَشِيشٌ عِنْدَئِذٍ يَصِيرُ خَمْرًا. وَفِي النَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «اجْتَنِبْ كُلَّ شَرَابٍ يَنِشُّ» يُقَالُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ نَشَّ الشَّرَابُ يَنِشُّ نَشِيشًا مَعْنَاهُ طَلَعَ لَهُ صَوْتٌ، هَذَا النَّشِيشُ أَوَّلُ الْخَمْرِ بَعْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ رَائِقًا يَنْزِلُ يَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ كَانَ، عِنْدَئِذٍ يُحِبُّهُ شَرَبَةُ الْخُمُورِ وَيَبْقَى هَذَا الشَّرَابُ خَمْرًا إِلَى أَيَّامٍ طَوِيلَةٍ إِلَّا أَنَّهُ بَعْدَ مُدَّةِ نَحْوِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي بَعْضِ الْبِلادِ يَتَغَيَّرُ طَعْمُهُ فَيَصِيرُ حَامِضًا فَلا يَصْلُحُ لِلإِسْكَارِ بَعْدَ ذَلِكَ مَهْمَا شُرِبَ مِنْهُ صَارَ خَلًّا لا يُسْكِرُ. وَالْخَلُّ يُعْرَفُ بِالْحُمُوضَةِ أَمَّا الْخَمْرُ طَعْمُهَا مُرٌّ لَكِنْ أُولَئِكَ يَسْتَلِذُّونَهَا مَعَ ذَلِكَ.

   ثُمَّ إِنَّ الْعَسَلَ إِذَا خُلِطَ بِالْمَاءِ وَسُدَّ فَمُ الإِنَاءِ يَصِيرُ خَمْرًا فِي الْبِلادِ الْحَارَّةِ فِي ظَرْفِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ، أَمَّا فِي الْبِلادِ الْبَارِدَةِ يَتَأَخَّرُ، وَإِنْ لَمْ يُخْلَطْ بِشَىْءٍ وَكَانَ الْعَسَلُ صَافِيًا وَوُضِعَ فِي إِنَاءِ الزُّجَاجِ وَنَحْوِهِ يَبْقَى سَنَوَاتٍ طَوِيلَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْسُدَ. ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُسْكِرُهُمْ قَلِيلُ الْخَمْرِ وَكَثِيرُهُ، وَبَعْضُ النَّاسِ لا يُسْكِرُهُمْ إِلَّا كَثِيرُهُ وَكُلٌّ حَرَامٌ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» وَقَالَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْبِتْعِ [الْبِتْعُ هُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ إِذَا صَارَ خَمْرًا] «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. لَكِنْ مَنِ اسْتَحَلَّ شُرْبَ الْقَدْرِ الَّذِي لا يُسْكِرُ مِنْ غَيْرِ خَمْرِ الْعِنَبِ لا يُكَفَّرُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيـمَهُ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ. ثُمَّ إِنَّهُ وَرَدَ فِي وَعِيدِ شَارِبِ الْخَمْرِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ «الْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ». رَوَاهُ الْبَزَّارُ [فِي مُسْنَدِهِ] مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرٍو، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَابْنُ حِبَّانَ [فِي صَحِيحِهِ] بِلَفْظٍ «مُدْمِنُ خَمْرٍ كَعَابِدِ وَثَنٍ» وَمَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي يُوَاظِبُ وَيُدَاوِمُ عَلَى شُرْبِهَا ذَنْبُهُ كَبِيرٌ كَأَنَّهُ يَعْبُدُ الْوَثَنَ فِي شِدَّةِ إِثْمِهِ وَقَدْ يُبْتَلَى بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَبَعْضُ النَّاسِ الشَّيْطَانُ يَتَخَبَّطُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَيَأْتِيهِمْ بِخَوَاطِرَ خَبِيثَةٍ فَيَكْفُرُونَ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ النَّاسِ لا يَعْرِفُونَ. وَقَدْ عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَقُولَ فِي دُعَائِنَا «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ يَتَخَبَّطَنِيَ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ» فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ عِنْدَ الْمَوْتِ تَرْتَبِطُ أَلْسِنَتُهُمْ وَيُصِيبُهُمْ عَطَشٌ شَدِيدٌ فَيَأْتِيهِ الشَّيْطَانُ وَبِيَدِهِ الْمَاءُ وَيَقُولُ لَهُ اكْفُرْ أَسْقِكَ فَمَنْ ثَبَّتَهُ اللَّهُ يَصْبِرُ وَلا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ.

   ثُمَّ إِنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ لَكِنْ هِيَ أَخَفُّ مِنَ الزِّنَى. بَعْدَ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أَشَدُّ الذُّنُوبِ الزِّنَى وَبَعْدَهُ تَرْكُ الصَّلاةِ وَأَكْلُ الرِّبَا وَشُرْبُ الْخَمْرِ.

   وَأَمَّا الْقَوْلُ بِنَجَاسَةِ الْخَمْرِ فَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الأَئِمَّةِ مِنْهُمُ الأَرْبَعَةُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَإِذَا أَصَابَتْ ثَوْبًا أَوْ بَدَنًا يَجِبُ تَطْهِيرُهُ عِنْدَ الْقِيَامِ لِلصَّلاةِ، وَقَالَ بَعْضُ الأَئِمَّةِ بِطَهَارَتِهَا وَهُوَ إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِلْمِ يُقَالُ لَهُ رَبِيعَةُ بنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمٰنِ شَيْخُ الإِمَامِ مَالِكٍ وَمَعَ ذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ شُرْبُهَا وَبَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْءَانِ وَلا فِي الْحَدِيثِ نَصٌّ عَلَى نَجَاسَةِ الْخَمْرِ، إِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ الصَّرِيحُ بِتَحْرِيـمِ شُرْبِهَا وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَمَنْ أَنْكَرَ حُرْمَةَ شُرْبِهَا وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا لِمَنْ يُرِيدُهَا لِلشُّرْبِ كَفَرَ.

   وَأَمَّا مَا رَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّ طَارِقَ بنَ سُوَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْخَمْرِ يَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهَا دَاءٌ» فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شِفَاءٌ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ إِنَّمَا الْمَعْنَى لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ طَيِّبٍ بَلْ هِيَ دَوَاءٌ خَبِيثٌ فَهِيَ لِكَثْرَةِ مَضَارِّهَا كَأَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا شَىْءٌ مِنَ الشِّفَاءِ. وَلَيْسَ مُرَادُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةِ وَالسَّلامُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شِفَاءٌ بِالْمَرَّةِ، لِأَنَّ وُجُودَ الشِّفَاءِ بِهَا مِنْ بَعْضِ الأَمْرَاضِ شَىْءٌ مَحْسُوسٌ، فَتَفْسِيرُ الْحَدِيثِ عَلَى الظَّاهِرِ غَلَطٌ كَبِيرٌ بَلِ الأَطِبَّاءُ الْقُدَمَاءُ وَالْمُحْدَثُونَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا تَشْفِي مِنْ بَعْضِ الأَمْرَاضِ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِي نَوْعٍ مِنَ الْمَجَازِ وَهُوَ مَجَازُ الْحَذْفِ، فَالتَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ أَيْ لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ طَيِّبٍ.

   وَيَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/219] لَكِنَّ الَّذِينَ نَفَوْا وُجُودَ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا قَالُوا كَانَ فِيهَا مَنَافِعُ ثُمَّ سُلِبَتْ مَنَافِعُهَا.

   ثُمَّ إِنَّ الْمُسْكِرَاتِ لَمْ يَنْزِلْ تَحْرِيـمُهَا إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ النَّاسُ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهَا، كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ لِلتَّدَفُئِ، وَيَشْرَبُونَهَا فَيَصِيرُ عِنْدَهُمْ نَشَاطٌ بِلا مَعْصِيَةٍ ثُمَّ لَمَّا حُرِّمَتْ حُرِمُوا تِلْكَ الْمَنَافِعَ الَّتِي فِيهَا.

   وَأَمَّا التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الْقَوْلِ بِحُرْمَتِهِ وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ وَبِهِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.

   وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّدَاوِي بِهَا بِثَلاثَةِ شُرُوطٍ الشَّرْطُ الأَوَّلُ أَنْ تَتَعَيَّنَ عِلاجًا دُونَ غَيْرِهَا وَإِلَّا فَفِي غَيْرِهَا مَنْدُوحَةٌ أَيْ سَعَةٌ عَنْهَا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ تَكُونَ بِمِقْدَارٍ قَلِيلٍ بِحَيْثُ لا يُسْكِرُ وَلا يُذْهِبُ الْعَقْلَ لِئَلَّا يَتَدَاوَى مِنْ شَىْءٍ فَيَقَعَ فِي أَشَدَّ مِنْهُ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَصِفَهَا طَبِيبٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ لا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالطِّبِّ.

   وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ «لا يَشْرَبُ الْخَمْرَ الشَّارِبُ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلامِ بِمُجَرَّدِ الشُّرْبِ بَلْ مَعْنَاهُ لا يَكُونُ إِيـمَانُهُ كَامِلًا.

   وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ [فِي شُعَبِ الإِيـمَانِ] أَنَّهُ قِيلَ لِبَعْضِ الْعَرَبِ: لِمَ لا تَشْرَبِ النَّبِيذَ (أَيِ النَّبِيذَ الْمُحَرَّمَ) فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرْضَى عَقْلِي صَحِيحًا فَكَيْفَ أُدْخِلُ إِلَيْهِ مَا يُفْسِدُهُ.

   وَقَالَ الْحُسَيْنُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ: [الطَّوِيل]

أَرَى كُلَّ قَوْمٍ يَحْفَظُونَ حَرِيمَهُمْ   وَلَيْسَ لِأَصْحَابِ النَّبِيذِ حَرِيمُ

إِذَا جِئْتَهُمْ حَيَّوْكَ أَلْفًا وَرَحَّبُوا          وَإِنْ غِبْتَ عَنْهُمْ سَاعَةً فَذَمِيمُ

   الْمَعْنَى أَنَّهُمْ فِي وَجْهَكِ يُعَظِّمُونَكَ وَيُكْرِمُونَكَ ثُمَّ فِي خَلْفِكَ يَذُمُّونَكَ.

أَخَاهُمْ إِذَا مَا دَارَتِ الْكَأْسُ بَيْنَهُمْ        وَكُلُّهُمْ رَثُّ الْوِصَالِ سَئُومُ

فَهَذَا ثَنَائِي لَمْ أَقُلْ بِجَهَالَةٍ       وَلَكِنْ بِحَالِ الْفَاسِقِينَ عَلِيمُ

   مَعْنَاهُ خَبِيرٌ بِأَحْوَالِ شَرَبَةِ الْخُمُورِ.

   قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ مُبَكِّتًا لِبَعْضِ النَّاسِ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَ الْخَمْرَ الَّتِي مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ حَلالًا إِلَّا الْقَدْرَ الْمُسْكِرَ بِالْفِعْلِ: [الْوَافِر]

فَيَشْرَبُهَا وَيَزْعُمُهَا حَلالًا                   وَتِلْكَ عَلَى الْمُسِيءِ خَطِيئَتَانِ

وَأَشْرَبُهَا وَأَزْعُمُهَا حَرَامًا                 وَأَرْجُو عَفْوَ رَبِّي ذِي امْتِنَانِ

   هَؤُلاءِ الْمُتَأَوِّلُونَ تَأَوَّلُوا فَأَخْطَأُوا فِي التَّأْوِيلِ وَلَوْلا تَأْوِيلُهُمْ لَكَفَرُوا بِهَذَا الِاعْتِقَادِ، هُمْ تَأَوَّلُوا النُّصُوصَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الشَّرْعِ أَنَّهَا لا تُحَرِّمُ إِلَّا الْقَدْرَ يُسْكِرُ أَمَّا مَا دُونَ الْقَدْرِ الَّذِي يُسْكِرُ فَحَلالٌ. الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ هَؤُلاءِ إِذَا شَرِبُوا النَّبِيذَ الْمُسْكِرَ نُقِيمُ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ لَكِنْ لا نُكَفِّرُهُمْ لِأَنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ.

   وَأَمَّا بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا فَهُوَ حَرَامٌ بِالإِجْمَاعِ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَبَسَ الْعِنَبَ أَيَّامَ الْقِطَافِ حَتَّى يَبِيعَهُ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا فَقَدْ تَقَحَّمَ النَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ». وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ قَالَ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَعْتَصِرُهُ خَمْرًا فَمَعْنَاهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَ الْمَعْصِيَةِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ لا مَعْصِيَةَ فِيهِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ صَاحِبُ كِتَابِ إِعْلاءِ السُّنَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْهَا أَكْلُ كُلِّ مُسْكِرٍ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَطْنِ أَكْلَ كُلِّ مُسْكِرٍ. وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الإِسْكَارَ هُوَ تَغَيُّرُ الْعَقْلِ مَعَ الإِطْرَابِ أَيْ مَعَ النَّشْوَةِ وَالْفَرَحِ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ تغْيِيرِ الْعَقْلِ بِلا إِطْرَابٍ وَكَذَلِكَ تَخْدِيرُ الْحَوَاسِّ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ الْعَقْلِ فَلا يُسَمَّى ذَلِكَ الشَّىْءُ خَمْرًا وَلَكِنَّهُ حَرَامٌ حَتَّى قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي جَوْزَةِ الطِّيبِ إِنَّهَا مُسْكِرَةٌ وَوَافَقَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ. وَأَمَّا الْمُخَدِّرَاتُ فَلَيْسَتْ  مُسْكِرَةً وَلَكِنَّ تَحْريِـمَهَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/29] فأَفْهَمَتْنَا الآيَةُ أَنَّ كُلَّ مَا يُؤَدِّي بِالإِنْسَانِ إِلَى الْهَلاكِ فَهُوَ حَرَامٌ أَنْ يَتَعَاطَاهُ، وَكَذَلِكَ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ» فَالْمُخَدِّرَاتُ تَدْخُلُ تَحْتَ كَلِمَةِ مُفْتِرٍ (وَالْمُفْتِرُ هُوَ مَا يُحْدِثُ فِي الْجِسْمِ وَالْعَيْنِ أَثَرًا ضَارًّا)، قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْمُفْتِرُ كُلُّ شَرَابٍ يُورِثُ الْفُتُورَ وَالْخَدَرَ فِي الأَعْضَاءِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكُلِّ نَجِسٍ وَمُسْتَقْذَرٍ.

   الشَّرْحُ أَنَّ أَكْلَ النَّجَاسَاتِ مِنْ جُمْلَةِ مَعَاصِي الْبَطْنِ كَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ أَيِ السَّائِلِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالزَّيْتِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَمَاتَتْ وَلَوْ كَانَ هَذَا الزَّيْتُ كَثِيرًا وَذَلِكَ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ فِيهِ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ «أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ». وَزَادَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ «فِي سَمْنٍ جَامِدٍ». وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلا تَقْرَبُوهُ».

   وَكَذَلِكَ الْمُسْتَقْذَرُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَذَلِكَ كَالْمُخَاطِ وَالْمَنِيِّ. وَأَمَّا الْبُصَاقُ فَيَكُونُ مُسْتَقْذَرًا إِذَا تَجَمَّعَ عَلَى شَىْءٍ مَثَلًا بِحَيْثُ تَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ أَيْ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْفَمِ أَمَّا مَا دَامَ فِي الْفَمِ فَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْمُسْتَقْذَرِ، وَأَمَّا الْبَلَلُ الْخَفِيفُ الَّذِي يَعْلَقُ بِالْخَيْطِ مَثَلًا أَوْ مِلْعَقَةِ الطَّعَامِ وَالسِّوَاكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْمُسْتَقْذَرِ فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ. وَالْمُسْتَقْذَرُ هُوَ الشَّىْءُ الَّذِي تَعَافُهُ النَّفْسُ أَيْ تَنْفِرُ مِنْهُ طَبِيعَةُ الإِنْسَانِ.

   وَمِنَ الْمُسْتَقْذَرِ الطَّعَامُ الَّذِي أَنْتَنَ وَطَلَعَتْ رَائِحَتُهُ كَرِيهَةً وَصَارَ مَنْظَرُهُ بَشِعًا لِأَنَّ الطَّبِيعَةَ تَنْفِرُ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ طَاهِرًا. وَفِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ حَيْثُ الْحُرْمَةُ أَكْلُ طَاهِرٍ مُضِرٍّ بِالْبَدَنِ كَالسُّمِّ وَالأَفْيُونِ إِلَّا الْقَلِيلَ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ بِلا ضَرَرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلتَّدَاوِي فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ إِنْ غَلَبَتِ السَّلامَةُ، وَكَذَا مَا هُوَ ضَارٌّ بِالْعَقْلِ كَبَعْضِ النَّبَاتَاتِ الَّتِي تَضُرُّ بِإِفْسَادِ الْعَقْلِ بِلا طَرَبٍ، لَكِنْ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ إِنْ تَعَيَّنَ ذَلِكَ كَأَنْ قَالَ طَبِيبُ عَدْلٍ لا يَنْفَعُ عِلَّتَكَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَوْ وَقَعَ ذُبَابٌ فِي طَبِيخٍ أَوْ تَهَرَّأَ فِيهِ حَلَّ أَكْلُهُ، أَوْ نَحْوُ طَائِرٍ أَوْ جُزْءٍ مِنْ ءَادَمِيٍّ لَمْ يَحِلَّ وَإِنْ تَهَرَّأَ.

 

تِتِمَّةُ مَسْئَلَةِ الْمَيْتَةِ

   مِنْ مَعَاصِي الْبَطْنِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْكَلامُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

   أَوَّلُهَا: الأَصْلُ فِي حُرْمَةِ ذَلِكَ:

   اعْلَمْ أَنَّ الأَصْلَ فِي تَحْرِيـمِ مَا تَقَدَّمَ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/3]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/145].

فَالْمَيْتَةُ هِيَ كُلُّ مَا زَالَتْ حَيَاتُهُ مِنَ الْبَهَائِمِ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ شَرْعِيَّةٍ فَلا يَحِلُّ أَكْلُهَا إِلَّا حَيَوَانَاتِ الْبَحْرِ أَحَلَّ اللَّهُ مَيْتَتَهَا حَتَّى كَلْبَ الْبَحْرِ وَخِنْزِيرَ الْبَحْرِ، وَ(الدَّمُ) أَيِ الْمَسْفُوحُ وَهُوَ السَّائِلُ فَلا يَحْرُمُ الدَّمُ الَّذِي فِي اللَّحْمِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ. وَ(لَحْمُ الْخِنْزِيرِ) حَرَامٌ، بَلِ الْخِنْزِيرُ كُلُّهُ وَهُوَ نَجِسٌ وَإِنَّمَا خُصَّ اللَّحْمُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ، ﴿وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ أَيْ رُفِعَ الصَّوْتُ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أَيْ سُمِّيَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ ذَبْحِهِ كَقَوْلِهِمْ بِاسْمِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى عِنْدَ ذَبْحِهِ فَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَالدَّمُ وَالْمَيْتَةُ حَرَامٌ فِي كُلِّ الشَّرَائِعِ، وَ(الْمُنْخَنِقَةُ) هِيَ الَّتِي خَنَقُوهَا حَتَّى مَاتَتْ أَوِ انْخَنَقَتْ بِالشَّبَكَةِ أَوْ غَيْرِهَا. وَ(الْمَوْقُوذَةُ) هِيَ الَّتِي أَثْخَنُوهَا ضَرْبًا بِعَصًا أَوْ حَجَرٍ حَتَّى مَاتَتْ، وَ(الْمُتَرَدِّيَةُ) هِيَ الَّتِي تَرَدَّتْ مِنْ جَبَلٍ أَوْ فِي بِئْرٍ فَمَاتَتْ، وَكَذَلِكَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْبَحْرِ فَغَرِقَتْ، وَ(النَّطِيحَةُ) هِيَ الْمَنْطُوحَةُ وَهِيَ الَّتِي نَطَحَتْهَا أُخْرَى فَمَاتَتْ بِالنَّطْحِ، (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ) بَعْضَهُ وَمَاتَ بِجُرْحِهِ حَرَامٌ، (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) أَيْ إِلَّا مَا أَدْرَكْتُمْ ذَكَاتَهُ قَبْلَ أَنْ يَضْطَرِبَ اضْطِرَابَ الْمَذْبُوحِ، فَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُنْخَنِقَةِ وَمَا بَعْدَهَا فَإِنَّهُ إِذَا أَدْرَكَهَا وَبِهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَذَبَحَهَا مَنْ يَحِلُّ ذَبْحُهُ حَلَّتْ.

(وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) النُّصُبُ بِضَمَّتَيْنِ حَجَرٌ نُصِبَ وَعُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَجَمْعُهُ أَنْصَابٌ، وَقِيلَ النُّصُبُ جَمْعٌ وَاحِدُهَا نِصَابٌ الْحِجَارَةُ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُشْرِكِينَ مَنْصُوبَةٌ حَوْلَ الْبَيْتِ يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا يُعَظِّمُونَهَا بِذَلِكَ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا فَمَا كَانَ مِنَ الذَّبَائِحَ كَذَلِكَ لا يَجُوزُ أَكْلُهُ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ».

   وَثَانِيهَا: حُكْمُ أَكْلِ اللَّحْمِ الْمَشْكُوكِ فِي ذَكَاتِهِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ:

   فَاللَّحْمُ أَمْرُهُ مُشَدَّدٌ فِي شَرْعِ اللَّهِ فَلا يَجُوزُ أَكْلُهُ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مُسْلِمٍ أَوْ كِتَابِيٍّ أَمَّا إِنْ شُكَّ فِيهِ فَهُوَ حَرَامٌ لا يَجُوزُ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ كَالْمَيْتَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ فَكُلْ إِنْ شِئْتَ وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلا تَأْكُلْ». فَمِنْ أَجْلِ الشَّكِّ فِي سَبَبِ الْحِلِّ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ أَكْلَهُ، وَمِنْ هُنَا حَرَّمَ الْعُلَمَاءُ أَكْلَ اللَّحْمِ الْمَشْكُوكِ فِي حِلِّهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُنَاسًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ يَأْتُونَنَا بِلُحْمَانٍ لا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لا فَقَالَ «سَمُّوا اللَّهَ أَنْتُمْ وَكُلُوا». فَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي ذَبِيحَةِ أُنَاسٍ مُسْلِمِينَ قَرِيبِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ وَذَلِكَ لِقَوْلِ عَائِشَةَ «حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ». وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ اللُّحُومَ حَلالٌ لِأَنَّهَا مُذَكَّاةٌ بِأَيْدِي مُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَيْ قَرِيبِي عَهْدٍ بِإِسْلامٍ، وَلا يَضُرُّكُمْ أَنَّكُمْ لَمْ تَعْلَمُوا هَلْ سَمَّى أُولَئِكَ عِنْدَ ذَبْحِهَا أَمْ لا فَسَمُّوا أَنْتُمْ عِنْدَ أَكْلِهَا أَيْ نَدْبًا لا وُجُوبًا لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةٌ عِنْدَ الذَّبْحِ فَإِنْ تَرَكَهَا الذَّابِحُ حَلَّ الأَكْلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ.

   فَاللَّحْمُ لا يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي أَكْلِهِ مَعَ الشَّكِّ فِي ذَكَاتِهِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ كَأَبِي حَامِدٍ الأَسْفَرَايِينِي وَالسُّيُوطِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَرَافِيِّ وَالأَبِّي مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ تَحْرِيـمُ اللَّحْمِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ طَرِيقُ حِلِّهِ بِأَنْ شُكَّ فِي ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. فَلَوْ ذَبَحَ شَخْصٌ مِائَةَ دَجَاجَةٍ وَكَانَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا لَمْ تُذْبَحْ ذَبْحًا شَرْعِيًّا وَاخْتَلَطَتْ هَذِهِ الْوَاحِدَةُ بِالْبَقِيَّةِ وَلَمْ تُعْرَفْ أَيَّ وَاحِدَةٍ هِيَ حَرُمَ أَكْلُهَا كُلُّهَا.

   أَمَّا غَيْرُ اللَّحْمِ فَلا يَحْرُمُ بِالشَّكِّ، فَالْجُبْنُ يَجُوزُ أَنْ نُقْدِمَ عَلَى شِرَائِهِ وَأَكْلِهِ مَعَ الشَّكِّ هَلْ دَخَلَ فِيهِ إِنْفَحَةُ الْمَيْتَةِ أَمْ لا لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ الْكُفَّارِ أَنْ يُدْخِلُوا فِيهِ إِنْفَحَةَ الْخِنْزِيرِ أَوْ مَيْتَةٍ أُخْرَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الإِنْفَحَةَ لَيْسَتْ لَحْمًا وَلا تَتْبَعُ اللَّحْمَ وَإِنَّمَا هِيَ شَىْءٌ أَصْفَرُ يَتَجَمَّعُ فِي مَعِدَةِ السَّخْلَةِ وَهِيَ وَلَدُ الْغَنَمِ مِنَ الضَّأْنِ وَالْمَعَزِ سَاعَةَ وَضْعِهِ، فَلا تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ الشَّكِّ إِلَّا إِذَا تُيِقِّنَ أَنَّ مَا وُضِعَ فِيهِ مِنَ الإِنْفَحَةِ مِنْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ أُخْرَى. كَذَلِكَ السَّمْنُ يَجُوزُ أَكْلُهُ مَعَ الشَّكِّ فِيهِ هَلْ دَخَلَهُ شَىْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَمْ لا، وَمَا كُتِبَ عَلَيْهِ جِيلاتِينُ بَقَرِيٌّ لا يَحْرُمُ أَكْلُهُ بِالشَّكِّ لِأَنَّ هَذَا الْجِيلاتِينَ لَيْسَ مِنَ اللَّحْمِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْعَظْمِ. وَكَذَا الْجُلُودُ إِنْ شُكَّ فِيهَا هَلْ هِيَ جِلْدُ مَيْتَةٍ أَوْ جِلْدُ مُذَكَّاةٍ أَوْ هَلْ هَذَا جِلْدُ خِنْزِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لا يَحْرُمُ لُبْسُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ. أَمَّا مَا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ مِنْ جِلْدِ الْمَيْتَةِ أَوِ الْخِنْزِيرِ فَلا يَجُوزُ لَنَا لُبْسُهُ وَيَجُوزُ لُبْسُ الْجِلْدِ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ فِي غَيْرِ عِبَادَةٍ يُشْتَرَطُ لَهَا طَهَارَةُ الثَّوْبِ.

   وَثَالِثُهَا: الذَّكَاةُ الشَّرْعِيَّةُ:

   فَالذَّكَاةُ بِذَالٍ مُعْجَمَةٍ مَعْنَاهَا لُغَةً التَّطْيِيبُ وَسُمِّيَتْ شَرْعًا بِذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِنْ تَطْيِيبِ أَكْلِ اللَّحْمِ الْمَذْبُوحِ. وَأَرْكَانُهَا أَرْبَعَةٌ تَذْكِيَةٌ وَمُذَكِّي وَمُذَكًّى وَءَالَةُ تَذْكِيَةٍ.

   فَأَمَّا التَّذْكِيَةُ فَتَحْصُلُ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَى ذَبْحِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ بِعَقْرِهِ حَيْثُ قَدَرَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُرْمَى بِشَىْءٍ لَهُ حَدٌّ فَيَقْتُلَهُ بِحَدِّهِ فَإِنْ رَمَى سَهْمًا أَوْ غَيْرَهُ فَقَتَلَ الصَّيْدَ بِثِقَلِهِ لَمْ يَحِلَّ، وَبِصَيْدِهِ بِكُلِّ جَارِحَةٍ مُعَلَّمَةٍ مِنَ السِّبَاعِ كَالْفَهْدِ وَالْكَلْبِ وَمِنْ جَوَارِحِ الطَّيْرِ كَصَقْرٍ وَبَازٍ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ جَرْحُ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ. وَشَرَائِطُ تَعْلِيمِهَا أَيِ الْجَوَارِحِ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ الْجَارِحَةُ مُعَلَّمَةً بِحَيْثُ إِذَا أُرْسِلَتْ أَيْ أَرْسَلَهَا صَاحِبُهَا اسْتَرْسَلَتْ، وَالثَّانِي أَنَّهَا إِذَا زُجِرَتْ أَيْ زَجَرَهَا صَاحِبُهَا انْزَجَرَتْ، وَالثَّالِثُ أَنَّهَا إِذَا قَتَلَتْ صَيْدًا لَمْ تَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا، وَالرَّابِعُ أَنْ تَتَكَرَّرَ الشَّرَائِطُ مِنَ الْجَارِحَةِ بِحَيْثُ يُظَنُّ تَأَدُّبُهَا، وَلا يُرْجَعُ فِي التَّكْرَارِ لِعَدَدٍ بَلِ الْمَرْجِعُ فِيهِ لِأَهْلِ الْخُبْرَةِ بِطِبَاعِ الْجَوَارِحِ فَإِنْ عُدِمَتْ مِنْهَا إِحْدَى الشَّرَائِطِ لَمْ يَحِلَّ مَا أَخَذَتْهُ الْجَارِحَةُ إِلَّا أَنْ يُدْرَكَ حَيًّا فَيُذَكَّى فَيَحِلُّ عِنْدَئِذٍ. وَإِذَا أَرْسَلَ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ وَنَحْوَهُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ فَقَتَلَ الصَّيْدَ بِظُفْرِهِ أَوْ نَابِهِ أَوْ تَرَكَهُ وَلَمْ تَبْقَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ أَوْ بَقِيَتْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الزَّمَانِ مَا يُمْكِنُ ذَبْحُهُ فِيهِ حَتَّى مَاتَ حَلَّ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ مَجُوسِيٌّ أَوْ شَارَكَ الْمُسْلِمَ فِي الإِرْسَالِ أَوْ شَارَكَ الْجَارِحَةَ جَارِحَةٌ أَرْسَلَهَا مَجُوسِيٌّ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ لَمْ يَحِلَّ، وَإِنْ قَتَلَتِ الْجَارِحَةُ الصَّيْدَ بِثِقْلِهَا فَفِيهِ قَوْلانِ. وَإِنْ كَانَتِ الْجَارِحَةُ كَلْبًا غُسِلَ مَوْضِعُ الظُّفْرِ وَالنَّابِ مِنَ الصَّيْدِ وَقِيلَ يُعْفَى عَنْهُ، وَإِنْ رَمَى طَيْرًا فَأَصَابَهُ السَّهْمُ فَوَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ عَلَى جَبَلٍ فَتَرَدَّى مِنْهُ فَمَاتَ لَمْ يَحِلَّ إِلَّا أَنْ كَانَ وَقَعَ السَّهْمُ فِي لُبَّتِهِ فَنَحَرَهُ أَوْ فِي كَبِدِهِ فَأَبَانَ حَشْوَتَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنْ أَصَابَ صَيْدًا فَجَرَحَهُ جَرْحًا لَمْ يَقْتُلْهُ ثُمَّ غَابَ عَنْهُ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا حَلَّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَلا يَحِلُّ فِي الآخَرِ وَإِنْ أَرْسَلَ سَهْمًا أَوْ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَ غَيْرَهُ حَلَّ وَإِنْ أُرْسِلَ عَلَى غَيْرِ صَيْدٍ فَقَتَلَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ، وَقِيلَ يَحِلُّ فِي السَّهْمِ دُونَ الْكَلْبِ وَإِنْ رَمَى شَيْئًا يَحْسَبُهُ حَجَرًا فَكَانَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ حَلَّ أَكْلُهُ، وَإِنْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبًا فَقَدْ قِيلَ يَحِلُّ وَقِيلَ لا يَحِلُّ، وَإِنْ نَصَبَ سِكِّينًا فَوَقَعَ بِهِ صَيْدٌ فَجَرَحَهُ فَمَاتَ لَمْ يَحِلَّ، وَمَنْ أَخَذَ صَيْدًا أَوْ أَزَالَ امْتِنَاعَهُ مَلَكَهُ، وَمَنْ مَلَكَ صَيْدًا ثُمَّ أَرْسَلَهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ.

   وَتَحْصُلُ التَّذْكِيَةُ فِي الْمَقْدُورُ عَلَى ذَبْحِهِ وَلَوْ كَانَ وَحْشِيًّا بِالْقَطْعِ الْمَحْضِ لِلْحُلْقُومِ وَهُوَ مَجْرَى النَّفَسِ دُخُولًا وَخُرُوجًا، وَلِلْمَرِيءِ وَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِنَ الْحَلْقِ إِلَى الْمَعِدَةِ، وَيَكُونُ قَطْعُ مَا ذُكِرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لا فِي دَفْعَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الْمَذْبُوحُ حِينَئِذٍ إِنْ لَمْ تُوجَدِ الْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ عِنْدَ الدَّفْعَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنْ قَطَعَ جُزْءًا مِنَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ وَانْتَظَرَ حَتَّى زَالَتِ الْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ فَأَعَادَ السِّكِّينَ فَأَكْمَلَ الْقَطْعَ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ الْمَذْبُوحُ بِخِلافِ مَا إِذَا وُجِدَتِ الْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ عِنْدَ الدَّفْعَةِ الثَّانِيَةِ فَيَحِلُّ حِينَئِذٍ. فَلَوْ أَعَادَ السِّكِّينَ فَوْرًا بَعْدَ رَفْعِهَا أَوْ سَقَطَتْ مِنْهُ فَأَخَذَ غَيْرَهَا حَالًا وَقَطَعَ بِهَا مَا بَقِيَ حَلَّ الْمَذْبُوحُ لِأَنَّ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ مَعَ عَدَمِ طُولِ الْفَصْلِ كَالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَمَتَى بَقِيَ شَىْءٌ مِنَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ لَمْ يُقْطَعْ لَمْ يَحِلَّ الْمَذْبُوحُ. فَإِنْ أَرَادَ الأَكْمَلَ فِي تَذْكِيَتِهِ زَادَ عَلَى قَطْعِ مَا ذُكِرَ قَطْعَ الْوَدَجَيْنِ وَهُمَا عِرْقَانِ فِي صَفْحَتَيِ الْعُنُقِ مُحِيطَانِ بِالْحُلْقُومِ، وَلا يُسَنُّ قَطْعُ مَا وَرَاءَ الْوَدَجَيْنِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَجِّهَ الذَّبِيحَةَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَيُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يَنْحَرَ الإِبِلَ مَعْقُولَةً مِنْ قِيَامٍ وَيَذْبَحَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ مُضْطَجِعَةً، وَلا يَكْسِرَ عُنُقَهَا وَلا يَسْلَخَ جِلْدَهَا حَتَّى تَبْرُدَ. هَذَا وَذَكَاةُ الْجَنِينِ حَاصِلَةٌ بِذَكَاةِ أُمِّهِ فَلا يُحْتَاجُ لِتَذْكِيَتِهِ هَذَا إِنْ وُجِدَ مَيِّتًا أَوْ فِيهِ حَيَاةٌ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُوجَدَ حَيًّا بِحَيَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ فَيُذَكَّى حِينَئِذٍ. رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ». وَأَمَّا الْمُذَكِّي فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ يُطِيقُ الذَّبْحَ وَأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَأَمَّا مَنْ سِوَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْكُفَّارِ كَالْمَجُوسِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لا كِتَابَ لَهُ فَذَبِيحَتُهُمْ مَيْتَةٌ وَلَوْ ذَبَحُوا كَمَا يَذْبَحُ الْمُسْلِمُونَ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ إِنَّمَا يَحِلُّ لَنَا أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ إِذَا ذَبَحُوا ذَبْحًا شَرْعِيًّا كَمَا نَذْبَحُ نَحْنُ أَمَّا إِنْ خَنَقُوا خَنْقًا فَلا تَحِلُّ. وَكَذَلِكَ إِنْ ذَكَرُوا اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ ذَبْحِهَا لا تَحِلُّ أَمَّا إِنْ قَالُوا بِسْمِ اللَّهِ عِنْدَ ذَبْحِهَا حَلَّتْ وَإِنْ كَانُوا فِي الْحَقِيقَةِ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/5] أَيْ ذَبَائِحُهُمْ لِأَنَّ سَائِرَ الأَطْعِمَةِ لا يَخْتَصُّ حِلُّهَا بِأَهْلِ الْمِلَّةِ. وَيَكْفِي أَنْ يُخْبِرَنَا الْكَافِرُ الْكِتَابِيُّ أَوِ الْفَاسِقُ أَنَّ هَذَا اللَّحْمَ ذَبَحَهُ ذَبْحًا شَرْعِيًّا لِيَحِلَّ لَنَا أَكْلُهُ إِنْ صَدَّقْنَاهُ وَإِلَّا لَمْ نَأْكُلْ. وَبِمَا تَقَدَّمَ عُلِمَ أَنَّ الْعَقْلَ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ التَّذْكِيَةِ فَتَصِحُّ ذَكَاةُ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ لَكِنَّهَا تُكْرَهُ. وَأَنَّ التَّسْمِيَةَ لا تُشْتَرَطُ فِي الذَّبْحِ فَمَا ذُبِحَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَبْحِهِ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ يَجُوزُ أَكْلُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ فِي مَذْهَبِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلا يَحِلُّ أَكْلُهُ فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلاثَةِ الأُخْرَى مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ وَحُجَّتُهُمْ ظَاهِرُ الآيَةِ ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/121]. فَإِنَّهُمْ فَهِمُوا مِنَ الآيَةِ أَنَّ الأَكْلَ مِنْهُ فِسْقٌ إِلَّا أَنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ ذَبْحِهَا فَيَحِلُّ أَكْلُهَا عِنْدَهُمْ. أَمَّا الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ فَهِمَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ سُنَّةٌ لَيْسَتْ وَاجِبَةٌ، وَالآيَةُ فَسَّرَهَا وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيْ مِنْ أَجْلِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ أَيْ رُفِعَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ أَيْ لِلشِّرْكِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/145] يُفَسِّرُ تِلْكَ الْجُمْلَةَ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ بِلَفْظِ «ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلالٌ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرْ».

   وَأَمَّا الْمُذَكَّى فَشَرْطُهُ أَنْ لا يَكُونَ قُرْبَانًا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَأَنْ تَكُونَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ وَعَلامَةُ اسْتِقْرَارِ الْحَيَاةِ أَنْ تَشْتَدَّ حَرَكَتُهُ بَعْدَ الذَّبْحِ أَوْ يَتَدَفَّقُ دَمُهُ.

   وَأَمَّا ءَالَةُ التَّذْكِيَةِ فَشَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ مُحَدَّدًا أَيْ شَيْئًا يَقْتُلُ بِحَدِّهِ غَيْرَ الْعَظْمِ وَالظُّفْرِ فَلا يَحِلُّ مَا ذُبِحَ بِالظُّفْرِ وَالسِّنِّ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِظَامِ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفْرَ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ». وَيَحِلُّ مَا ذُبِحَ بِحَدِيدٍ وَحَجَرٍ وَنُحَاسٍ وَذَهَبٍ وَزُجَاجٍ وَخَشَبٍ وَقَصَبٍ لَهُ حَدٌّ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً ذَبَحَتْ شَاةً بِحَجَرٍ فَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا، لَكِنْ يُكْرَهُ الذَّبْحُ بِسِكِّينٍ كَالٍّ أَيْ ضَعِيفِ الْحَدِّ. وَبِمَا تَقَدَّمَ عُلِمَ أَنَّ الْمَصْعُوقَ بِالْكَهْرَبَاءِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ ذَبْحِهِ لَمْ يَحِلَّ وَكَذَلِكَ لَوْ صَارَتِ الآلَةُ تَقْطَعُ الْحُلُقُومَ وَالْمَرِيءَ وَحْدَهَا بِوَاسِطَةِ تَحْرِيكِ الْكَهْرَبَاءِ لَهَا مَثَلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّكَهَا مُسْلِمٌ أَوْ كِتَابِيٌّ لَمْ تَحِلَّ أَيْضًا. وَيَحِلُّ مَا قُطِعَ بِالْمِقَصِّ.

   وَرَابِعُهَا: مَا يَجُوزُ أَكْلُهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ:

      فَكُلُّ حَيَوَانٍ اسْتَطَابَتْهُ الْعَرَبُ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ ثَرْوَةٍ وَخِصْبٍ وَطِبَاعٍ سَلِيمَةٍ وَرَفَاهِيَةٍ فَهُوَ حَلالٌ إِلَّا مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيـمِهِ فَلا يُرْجَعَ فِيهِ لِاسْتِطَابَتِهِمْ لَهُ وَكُلُّ حَيَوَانٍ اسْتَخْبَثَتْهُ الْعَرَبُ أَيْ عَدُّوهُ خَبِيثًا فَهُوَ حَرَامٌ إِلَّا مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِإِبَاحَتِهِ فَلا يَكُونُ حَرَامًا. وَيَحْرُمُ مِنَ السِّبَاعِ مَا لَهُ نَابٌ أَيْ سِنٌّ قَوِيٌّ يَعْدُو بِهِ عَلَى الْحَيَوَانِ كَأَسَدٍ وَنَمِرٍ وَيُسْتَثْنَى الضَّبُعُ وَلَوْ كَانَ ضَبُعَ الْحَبَشَةِ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بِإِبَاحَتِهِ [أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ]. وَيَحْرُمُ مِنَ الطُّيُورِ مَا لَهُ مِخْلَبٌ أَيْ ظُفْرٌ قَوِيٌّ يَجْرَحُ بِهِ كَصَقْرٍ وَبَازٍ وَشَاهِينَ وَيَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ وَهُوَ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلاكَ مِنْ عَدَمِ الأَكْلِ فِي الْمَخْمَصَةِ أَيِ الْمَجَاعَةِ مَوْتًا أَوْ مَرَضًا مَخُوفًا أَوْ زِيَادَةَ مَرَضٍ أَوِ انْقِطَاعَ رُفْقَةٍ وَلَمْ يَجِدْ مَا يَأْكُلُهُ حَلالًا أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَيْتَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ أَيْ بَقِيَّةَ رُوحِهِ.

   وَلَنَا مَيْتَتَانِ حَلالانِ وَهُمَا السَّمَكُ وَالْجَرَادُ وَلَنَا دَمَانِ حَلالانِ وَهُمَا الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ.

   وَيُؤْكَلُ مِنَ دَوَابِّ الإِنْسِ الإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْخَيْلُ وَلا يُؤْكَلُ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْبَغْلُ وَالْحِمَارُ وَالسِّنَّوْرُ [أَيِ الْهِرُّ]، وَيُؤْكَلُ مِنْ دَوَابِّ الْوَحْشِ الْبَقَرُ وَالْحِمَارُ وَالظَّبْيُّ وَالأَرْنَبُ وَالْوَعِلُ. وَأَمَّا الضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ وَالْيُرْبُوعُ وَالْقُنْفُذُ وَالْوَبْرُ [الْوَبْرُ: دُوَيْبَةٌ نَحْوُ السِّنَّوْرِ غَبْرَاءُ اللَّوْنِ كَحْلاءُ لا ذَنَبَ لَهَا] وَابْنُ عِرْسٍ وَهُوَ يُشْبِهُ الْفَأْرَ وَالضَّبُّ وَسِنَّوْرُ الْبَرِّ فَقَدْ اخْتَلَفَ الأَئِمَّةُ فِي حِلِّ أَكْلِهَا وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ. وَلا يُؤْكَلُ مَا اسْتَخْبَثَهُ الْعَرَبُ مِنَ الْحَشَرَاتِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْوَزَغِ وَالْخُنْفُسَاءِ وَالزُّنْبُورِ وَالذُّبَابِ وَبِنْتِ وَرْدَانَ وَحِمَارِ قَبَّانَ [دُوَيْبَةٌ تُشْبِهُ الْخُنْفُسَاءَ وَهِيَ أَصْغَرُ مِنْهَا ذَاتُ قَوَائِمَ كَثِيرَةٍ إِذَا لَمَسَهَا أَحَدٌ اجْتَمَعَتْ كَالشَّىْءِ الْمَطْوِيِّ] وَمَا أَشْبَهَهَا، وَكَذَلِكَ لا يُؤْكَلُ مَا يَتَقَوَّى بِنَابِهِ كَالأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَالدُّبِّ وَالْفِيلِ وَالْقِرْدِ وَالتِّمْسَاحِ وَالزَّرَافَةِ وَابْنِ ءَاوَى وَفِي ابْنِ ءَاوَى وَالزَّرَافَةِ قَوْلانِ وَلا تَحِلُّ الْحَيَّاتُ وَالْعَقَارِبُ وَالْفَأْرُ وَالْخَنَافِسُ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ حَشَرَاتِ الأَرْضِ لِأَنَّهَا مِنَ الْخَبَائِثِ. وَيُؤْكَلُ مِنَ الطَّيْرِ النَّعَامَةُ وَالدَّجَاجُ وَالْبَطُّ وَالإِوَزُّ وَالْحَمَامُ وَالْقَطَا وَالْكُرْكِيُّ وَالْحُبَارَى وَالْعُصْفُورُ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَلا يُؤْكَلُ مَا يَصْطَادُ بِالْمِخْلَبِ كَالنَّسْرِ وَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْبَازِ وَالْحِدَأَةِ وَالْعُقَابِ وَالْبَاشِقِ. وَلا مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ كَالْغُرَابِ الأَبْقَعِ وَالْغُرَابِ الأَسْوَدِ الْكَبِيرِ، وَأَمَّا غُرَابُ الزَّرْعِ وَالْغُدَافِ وَهُوَ صَغِيرُ الْجِسْمِ لَوْنُهُ كَلَوْنِ الرَّمَادِ فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمَا يُؤْكَلانِ وَقِيلَ لا يُؤْكَلانِ وَتَحْرُمُ الذُّبَابُ وَالنَّحْلُ وَالزُّنْبُورُ وَمَا أَشْبَهَهَا لِأَنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ. وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ لا يَحِلُّ أَكْلُهُ كَالسِّمْعِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ الذَّكَرُ مِمَّا يَحِلُّ أَوِ الأُنْثَى تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيـمِ. وَلَوِ اشْتَبَهَ وَلَدُ حَيَوَانٍ هَلْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ ذَكَرٍ يَحِلُّ أَمْ لا يَحِلُّ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فَالِاخْتِيَارُ أَنْ لا يُؤْكَلَ فَإِنْ أَرَادَ أَكْلَهُ نُظِرَ إِلَى خِلْقَتِهِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَحِلُّ أَكْلُهُ أَوْلَى بِخِلْقَتِهِ حَلَّ وَإِنْ كَانَ الَّذِي لا يَحِلُّ أَكْلُهُ أَوْلَى بِخِلْقَتِهِ لَمْ يَحِلَّ. وَأَمَّا مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَحْلِيلٌ وَلا تَحْرِيـمٌ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا تَسْتَطِيبُهُ الْعَرَبُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الرِّيفِ وَالسَّعَةِ فَهُوَ حَلالٌ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَخْبِثُونَهُ فَهُوَ حَرَامٌ وَإِنِ اسْتَطَابَهُ قَوْمٌ وَاسْتَخْبَثَهُ ءَاخَرُونَ رُجِعَ إِلَى مَا عَلَيْهِ الأَكْثَرُ. وَإِنِ اتَّفَقَ فِي بِلادِ الْعَجَمِ مَا لا يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ رُجِعَ فِيهِ إِلَى شِبْهِهِ مِمَّا يَحِلُّ وَمِمَّا لا يَحِلُّ فَيُحْكَمُ فِيهِ بِمَا يُحْكَمُ بِشِبْهِهِ. وَتُكْرَهُ الْجَلَّالَةُ وَهِيَ الْبَهِيمَةُ الَّتِي عُلِفَتْ بِالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ حَتَّى أَثَّرَ ذَلِكَ فِي لَوْنِ لَحْمِهَا أَوْ طَعْمِهِ أَوْ رِيحِهِ وَتَزُولُ الْكَرَاهَةُ إِذَا عُلِفَتْ بِطَيِّبٍ حَتَّى طَابَ لَحْمُهَا. وَيُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ السَّمَكُ وَلا يُؤْكَلُ الضِّفْدِعُ وَالسَّرَطَانُ، وَمَا سِوَاهُمَا فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يُؤْكَلُ وَقِيلَ لا يُؤْكَلُ، وَقِيلَ مَا أُكِلَ شِبْهُهُ مِنَ الْبَرِّ أُكِلَ وَمَا لا يُؤْكَلُ شِبْهُهُ لَمْ يُؤْكَلْ وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يَحِلُّ الْجَمِيعُ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ سُئِلَ عَنْ كَلْبِ الْمَاءِ وَخِنْزِيرِهِ فَقَالَ يَحِلُّ أَكْلُهُ. وَكُلُّ طَاهِرٍ لا ضَرَرَ فِي أَكْلِهِ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلَّا جِلْدَ مَا يُؤْكَلُ إِذَا مَاتَ وَدُبِغَ فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ أَكْلُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَيَجُوزُ فِي الآخَرِ، وَمَا ضَرَّ أَكْلُهُ كَالسُّمِّ وَغَيْرِهِ لا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَلا يَحِلُّ أَكْلُ شَىْءٍ نَجِسٍ وَلا يَأْكُلُ الْمُضْطَرُّ مِنَ الْمَيْتَةِ إِلَّا مَا يَسُدُّ بِهِ الرَّمَقَ أَيْ قَدْرَ مَا يُنْقِذُ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْهَلاكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/145] وَقَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/3] أَيْ فَمَنْ دَعَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى أَكْلِ شَىْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ غَيْرَ مُتَجَاوِزٍ قَدْرَ حَاجَتِهِ مِنْ تَنَاوِلِهِ لا يُؤَاخِذُهُ اللَّهُ، وَفِي قَوْلٍ يَأْكُلُ قَدْرَ الشِّبَعِ فَإِنْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ أَكَلَ طَعَامَ الْغَيْرِ وَضَمِنَ بَدَلَهُ، وَقِيلَ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ فَإِنْ وَجَدَ صَيْدًا وَمَيْتَةً وَهُوَ مُحْرِمٌ فَفِيهِ قَوْلانِ أَحَدُهُمَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَالثَّانِي يَأْكُلُ الصَّيْدَ، وَإِنِ ارْتَضَعَ جَدْيٌ مِنْ كَلْبَةٍ أَوْ خِنْزِيرٍ حَتَّى نَبَتَ لَحْمُهُ فَفِي إِبَاحَةِ لَحْمِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الشَّاشِيُّ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.  

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ أَوِ الأَوْقَافِ عَلَى خِلافِ مَا شَرَطَ الْوَاقِفُ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَطْنِ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ للنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/10]. فَلا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ بِمَالِ الْيَتِيمِ عَلَى خِلافِ مَصْلَحَتِهِ فَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ شَىْءٍ لِيَتِيمٍ مِنْ وَصِيِّهِ لِأَنَّ هَذَا الشَّىْءَ لا مَصْلَحَةَ لِلْيَتِيمِ بِبَقَائِهِ عِنْدَهُ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ بِثَمَنٍ فِيهِ رِبْحٌ لِلْيَتِيمِ وَلا يَسْتَعْمِلُ مِلْكَ الْيَتِيمِ مِنْ أَثَاثٍ وَثِيَابٍ وَأَوَانِي الطَّعَامِ وَلا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مِنْ مَالِهِ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلأُمِّ الْمُحْتَاجَةِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ كِفَايَتِهَا. فَالَّذِي يَأْكُلُ مَالَ الْيَتِيمِ بِغَيْرِ حَقٍّ يُبْعَثُ مِنْ قَبْرِهِ وَفَمُهُ يَتَأَجَّجُ نَارًا قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/10].

   وَمِنْهَا أَكْلُ مَالِ الأَوْقَافِ عَلَى مَا يُخَالِفُ شَرْطَ الْوَاقِفِ بِأَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ شَرْطِ الْوَاقِفِ، وَيَدْخُلُ ذَلِكَ تَحْتَ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ الْمَارِّ ذِكْرُهُ، فَمَنْ وَقَفَ بَيْتًا لِلْفُقَرَاءِ فَلا يَجُوزُ لِلأَغْنِيَاءِ أَنْ يَسْكُنُوهُ وَمَنْ وَقَفَ بَيْتًا لِطَلَبَةِ الْحَدِيثِ فَلا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَسْكُنُوهُ وَمَنْ وَقَفَ بَيْتًا لِحَفَظَةِ الْقُرْءَانِ فَلا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَسْكُنُوهُ. وَمَنْ وَقَفَ أَرْضًا مَقْبَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجُزْ إِخْرَاجُهَا عَنْ ذَلِكَ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمَأْخُوذِ بِوَجْهِ الِاسْتِحْيَاءِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَعَاصِي الْبَطْنِ أَكْلَ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ كَأَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ يَحْضُرُ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ حَتَّى لا يُقَالَ عَنْهُ بَخِيلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ حَدِيثِ «لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» [أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ].

   فَالَّذِي يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ مُسْلِمٍ بِطَرِيقِ الْحَيَاءِ حَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ وَلا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ [أَمَّا الدَّافِعُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لا يَأْخُذُ مِنْهُ إِلَّا عَلَى وَجْهِ التَّخْجِيلِ لِأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ]، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَأْخُذُهُ الشَّاعِرُ بِسَبَبِ شِعْرِهِ مِمَّا يُعْطَاهُ خَوْفَ أَنَّهُ يَهْجُو الشَّخْصَ إِذَا لَمْ يُعْطِهِ وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الآخِذِ وَأَمَّا الدَّافِعُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ.

   تَنْبِيهٌ لا يَدْخُلُ فِيمَا ذَكَرْنَا مَا يَشْتَرِيهِ الشَّخْصُ مِنْ ءَاخَرَ حَيَاءً فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ وَلا مَعْصِيَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَبَ خِدْمَةً مِنْ شَخْصٍ فَخَدَمَهُ خَجَلًا مِنْهُ فَلا مَعْصِيَةَ عَلَى الطَّالِبِ.