مقالة الكرّامية في التجسيم
اختلف كتّاب الملل والنحل في ذكر فرق الكرّامية، فالبغداديّ جعل الكرّامية ثلاثة أصناف، وجعلها الرازيّ ستّ فرق، وأوصلها الشهرستانيّ إلى اثنتي عشرة فرقة. ولا نطيل في تفصيل مقالاتهم لسببين: أولهما أن جهدًا كبيرًا قد بُذل من قبل في مذهب الكرّامية، والثاني أن هذه الفرق وإن كان لكل واحدة منها رأي إلا أن الشهرستانيّ قال([1]): «إلا أن ذلك لمَّا لم يصدر عن علماء معتبرين بل عن سفهاء جاهلين لم نفردها مذهبًا. وأوردنا مذهب صاحب المقالة وأشرنا إلى ما يتفرع منه» اهـ.
وهذا بيان مقالة ابن كرّام وما تفرع منها فنقول:
أشنع مقالاته تجسيم معبوده، إذ زعم ابن كرّام أن الله جسم له حدّ ونهاية من تحته وهي الجهة التي يلاقي منها العرش([2])، ثم اختلف أصحابه في النهاية، فمنهم من وافقه، ومنهم من أثبت النهاية له من ست جهات، ومنهم من أنكر النهاية له وقال: هو عظيم.
واتفق أكثر الكرّامية على إطلاق لفظ الجسم، واجتهد بعضهم في تزيين هذه المقالة، فزعم أنه يريد بلفظ الجسم أنه قائم بنفسه، وزعم أن هذا هو حد الجسم! قال الشهرستانيّ([3]): «وبنوا على هذا أن مِنْ حُكْمِ القائمَيْنِ بأنفسهما أن يكونا متجاورين أو متباينين، فقضى بعضهم بالتجاور مع العرش، وحكم بعضهم بالتباين. وربّما قالوا: كل موجودين فإما أن يكون أحدهما بحيث الآخر كالعرض مع الجوهر، وإما أن يكون بجهة منه. والبارئ ليس بِعَرَضٍ إذ هو قائم بنفسه، فيجب أن يكون بجهة من العالم وأشرفها جهة فوق فقلنا: هو بجهة فوق بالذات» اهـ. وعين هذه الشبهة موجودة في المؤلفات التي توصف بجمع ما يسمّى زورًا بالعقيدة السلفية([4])، مع أن أحدًا من السلف الصالح المنزّه لله عن الجسمية والحجم والشكل لم يهمس فيها ببنت شفة.
وقبل أن نختم القول في تأريخ المجسمة وبعض فرقهم نشير إلى بعض العبر والفوائد التي ينبغي ألّا تغيب عن الأذهان في دراسة مثل هذه الآراء.
أولًا: إن اتّباع الكتاب والسُّنَّة والسلف شعار يرفعه بعض من خالف قواطع الكتاب والسّنة وأقوال السلف، فها هو ابن القدوة الكرّاميّ يزعم أنه آمن بما أنزل وما صح، وهذا مقاتل وشيطان الطاق يزعم كل منهما أنه لم يثبت صورة للرحمن على صورة آدم إلا اتباعًا للأثر على زعمهما، وحقيقة الأمر على خلاف ما فهماه.
ثانيًا: إن هذا الشعار يُلبَّس بتشنيع مذهب المخالف بنسبته إلى الفلسفة كما فعل ابن القدوة فيخشى تداخل أقوال المذاهب والتباس الحق بالباطل.
ثالثًا: إن مثل هذه المقالات الشنيعة وَقُودها كثير من العوامّ الذين يفتقرون إلى الفهم الدقيق، وربما فتن بهذه المقالة بعض ضعاف الطلبة الذين يقتنعون في اعتقادهم بتقليد من أظهر مخايل الزهد وأطال في النسك وأثر في الوعظ، ويستدلون بما يظهر من التدين على ما بطن من الدين، فها هو ابن كرّام على شناعة مقالته انخدع بزهده واغترّ بوعظه الآلاف.
رابعًا: إن أكثر الناس تصريحًا بالعقائد الباطلة في هذا الباب يتمسكون بنفي التشبيه وإثبات ما أثبتوه، مع إيهام أنّهم يريدون التنزيه، كما زعم هشام ابن الحكم أنه إنما أثبت جسمًا لا كالأجسام. وفي هذه المقالة يقول ابن السبكيّ: [الكامل]
كذبَ ابنُ فاعلةٍ يقولُ لجهلِهِ: |
| اللهُ جسمٌ ليسَ كالجسْمانِ |
لو كان جسمًا كانَ كالأجسامِ يا |
| مجنونُ فَاصْغُ وعُدْ عن البُهْتانِ
|
ومن ذلك أيضًا أن مقاتل بن سليمان بعد أن تجرَّأ على الله عزَّ وجلَّ بإثبات الجسم والصورة والأعضاء والجوارح زعم أنه مع ذلك لا يشبهه شىء ولا يشبه غيره.
وهذه النقاط لا تغيب في عصر من العصور عن فكر الخائضين في وصف الله عزَّ وجلَّ بغير الحق، والمتبعين لما تشابه من كتابه وسنة رسوله ﷺ فزاغوا بذلك وضلّوا وأضلّوا بما يدخلون في كلامهم من تمويه.
[1] ) الملل والنحل، الشهرستانيّ، ص107. يراجع: الفرق بين الفرق، البغداديّ، ص203. اعتقادات فرق المسلمين، الرازيّ، ص17.
[2] ) الفرق بين الفرق، البغداديّ، ص203. اعتقادات فرق المسلمين، الرازيّ، ص17. الملل والنحل، الشهرستانيّ، ص 108.
[3] ) الملل والنحل، الشهرستانيّ، ص107.
[4] ) الكتاب المسمّى تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، سليمان بن
عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ص672. الكتاب المسمّى القول المفيد على كتاب التوحيد، محمد بن صالح العثيمين، 2/554.