السبت أبريل 20, 2024

الكَرَّامِيَّة

قبل التعريف بالفرقة الكرامية، لا بدَّ من التنبيه إلى تمييز هذه الفرقة عن سائر فرق المجسمة، لأنها تمكنت بتمثُّلها في لباس الزهد والتقشف أن تخدع بعض الحكام وتقنعهم بمقالاتها وتكسب الحظوة عندهم لنيل القوة والنفوذ ولقمع المخالفين، وتميّزت أيضًا بتسرُّب بعض مقالاتها إلى المصنفات التي تنتسب زورًا إلى ما يسمّى بالعقيدة السلفية.

وتاريخ هذه الفرقة يوضح كيفية انتشار مقالة التجسيم بين العوامّ، وذلك لانخداعهم بما يظهر على أصحاب تلك المقالة من زهد وتقشف وعبادة، وانخداعهم بتشنيع أصحاب تلك المقالة الخبيثة على التنـزيه بدعوى موافقته للفلسفة الأجنبية. وتوضيح ما سبق يتم بإطلالة على تاريخ هذه الفرقة ودراسة مقالتها.

أما مؤسس هذه الفرقة فهو أبو عبد الله محمد بن كرّام([1]) السجزيّ([2])، ولد في سجستان ونشأ فيها، وقد دعا أتباعه إلى تجسيم معبوده، وهو القائل: إنّ معبوده مستقرّ على العرش وإنه جوهر، تعالى الله عن ذلك، وزعم أنه ـ أي الله ـ جسمٌ له حدّ ونهاية من تحته وهي الجهة التي منها يلاقي عرشه، ويقول الشهرستانيّ([3]): «نبغ رجل متنمّس([4]) بالزهد من سجستان، قليل العلم، قد قمش([5]) من كل مذهب ضِغْثًا([6])، وأثبته في كتابه وروّجه على سواد بلاد خراسان، فانتظم ناموسه وصار ذلك مذهبًا» اهـ. ويقول ابن السبكيّ في طبقات الشافعية([7]): «وكان من خبر ابن كرّام هذا -وهو شيخ سجستانيّ مجسّم- أنه سمع يسيرًا من الحديث، ونشأ بسجستان ثم دخل خراسان، وعاد إلى نيسابور وباح بالتجسيم. وكان من إظهار التنسك والتألُّه([8]) والتعبد والتقشف على جانب عظيم، فافترق الناس فيه على قولين، منهم المعتقد ومنهم المنتقد». ثم قال: «قال الحاكم: لقد بلغني أنه كان معه جماعة من الفقراء، وكان لباسه مسك ضأن مدبوغ غير مخيط وعلى رأسه قلنسوة بيضاء، وقد نصب له دكان من لَبِن وكان يُطرح له قطعة فرو فيجلس عليها فيعظ ويذكر ويحدّث، وأثنى عليه في ما بلغني ابن خزيمة([9]) واجتمع به غير مرة» اهـ.

يقول ابن السبكيّ([10]): «وصاحب سجستان هو الذي نفاه، ولم يكن قصد الساعين إلا إراقة دمه، وإنما صاحب سجستان هاب قتله لما رأى من مخايل العبادة والتقشف» اهـ. وهذا ابن خزيمة الذي كان قد حكي عنه ثناؤه على ابن كرّام يكفّر من قال بمقالة الكرّامية([11])، قال ابن حجر([12]): «ولما نفي من سجستان وأتى نيسابور، أجمع ابن خزيمة وغيره من الأئمة على نقله منها فسكن بيت المقدس» اهـ.

وقال تقيّ الدين الحصنيّ([13]): «وسمع الحديث الكثير وأظهر التقشف، واتخذ قطعة فرو يجلس عليها ويعظ ويُذكّر ويحدّث ويتخشع حتى أخذ بقلوب العوام والضعفاء من الطلبة لوعظه وزهده، حتى حصر من تبعه من الناس فإذا هم سبعون ألفًا» اهـ. فلما أظهر ابن كرّام بدعته أنكر العلماء عليه وسعوا في سجنه وقتله، ثم إنه أُخرج من نيسابور في سنة إحدى وخمسين ومائتين بعد أن مكث بالسجن ثماني سنين، وتوفي ببيت المقدس سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان أصحابه ببيت المقدس نحو عشرين ألفًا، وكان له من الأتباع مثل ذلك في خراسان وسجستان([14])، ومع أن ابن كرّام لم يكن يحسن العلم ولا الأدب فقد ألّف تصانيف كثيرة كما ذكر ذلك البغداديّ، ثم قال([15]): «إلا أن كلامه في غاية الركاكـة والسقوط» اهـ. وكان مصير مؤلفاته الحرق بعدما أظهر بدعته، ونجا كتابه عذاب القبر من النار، إذ نقل منه البغداديّ وغيره فقال البغدادي في كتابة الفرق بين الفرق: «وقد وصف ابن كرام معبوده في بعض كتبه بأنه جوهر وذلك أنه قال في خطبة كتابه المعروف بكتاب عذاب القبر: إن الله أحديّ الذات أحديّ الجوهر([16])». اهـ.  ثم عقب البغدادي بعد ذلك : «وأتباعه اليوم لا يبوحون بإطلاق لفظ الجوهر على الله تعالى عند العامة خوفًا من الشناعة عند الإشاعة وإطلاقهم عليه اسم الجسم أشنع من اسم الجوهر…، وليس على الخذلان في سوء الاختيار قياس([17])»اهـ.

ومن أتباع ابن كرّام أبو عبد الله محمد بن الهيصم الذي اجتهد في إتمام مقالة ابن كرّام، ومن ذلك أنه زعم أن الفوقية بمعنى العلوّ مع إثبات البينونة غير المتناهية بينه وبين خلقه([18])، وقال الشهرستانيّ([19]): «قد تخطَّى بعض الكرّامية إلى إثبات الجسمية، فقال: أعني بها القيام بالنفس، وذلك تلبيس على العقلاء، وإلا فمذهب أستاذهم أنَّه مع كونه ـ يعني الله ـ محلًّا للحوادث مستويًا على العرش استقرارًا مختصًا بجهة فوق مكانًا واستعلاءً، فليس ينجيه من هذه المخازي تزويراتُ ابن الهيصم، فليس يريد بالجسمية القيام بالنفس، وإنما هو إصلاح مذهب لا يقبل الإصلاح! وكيف يستوي الظلّ والعود أعوج؟ وكيف استوى المذهب وصاحب المقال أهوج؟» اهـ.

وكان ابن الهيصم من مجالسي السلطان محمود بن سُبُكْتُكِينَ([20])، وكان ابن فورك هو الذي يناظر ابن الهيصم في هذا المجلس([21])، وكانت هذه المناظرات سببًا في قتل ابن فورك شهيدًا مسمومًا. قال ابن السبكيّ([22]): «وكان ابن فورك شديدًا على الكرّامية، وأذكر أن ما حصل له من المحنة من شغب أصحاب ابن كرّام وشيعتهم من المجسمة، فتحزَّبوا عليه ونَمُّوا عليه غير مرة وهو ينتصر عليهم، فلما أيست الكرّامية من الوشاية والمكايدة عدلت إلى السعي في موته والراحة من تعبه، فسلطوا عليه من سَمَّهُ فمضى حميدًا شهيدًا» اهـ.

وكان أبو إسحاق الأسفرايينيّ قد تعيَّن عليه مناظرة الكرّامية بعد ابن فورك، ومن هذه المناظرات ما ذكره أبو المظفر الأسفرايينيّ قال([23]): «سأل بعض أتباع الكرّامية في مجلس السلطان محمود بن سبكتكين إمامَ زمانه أبا إسحاق الأسفرايينيّ عن هذه المسألة الاستواء على العرش فقال: هل يجوز أن يقال: إن الله تعالى على العرش؟ وأن العرش مكان له؟ فقال: لا. وأخرج يديه ووضع إحدى كفيه على الأخرى، وقال: كون الشىء على الشىء يكون هكذا، ثم لا يخلو إما أن يكون أكبر منه أو أصغر منه، فلا بد من مخصّص خصَّه، وكل مخصوص يتناهى، والمتناهي لا يكون إلهًا. فلم يمكنهم أن يجيبوا عنه، فأغروا به رعاعهم حتى دفعهم عنه السلطان بنفسه، ولما ورد عليهم هذا الإلزام تحيّروا، فقال قوم: إنه أكبر من العرش، وقال قوم: إنه مثل العرش، وقال ابن المهاجر: إن عرضه عرض العرش. وهذه الأقوال كلها متضمنة لإثبات النهاية، وذلك عَلَمُ الحدوث ـ أي علامةُ الحدوث ـ لا يجوز أن يوصف به الصانع» اهـ.

وابتلي الإمام الفخر الرازيّ بمناظرة الكرّامية بعد ابن فورك وأبي إسحاق، وكان رأس الكرامية في زمانه مجد الدين عبد المجيد بن عمر المعروف بابن القدوة، وهو الذي تسبّب في محنة الفخر الرازيّ مستغلًا مكانته عند بعض الغُوريين الذين خلفوا آل سبكتكين في حكم بلادهم([24])، وحدثت بذلك فتنة عظيمة ذكرها ابن الأثير في حوادث سنة 595هـ، فقال([25]): «وفي هذه السّنة حدثت فتنة عظيمة بعسكر غياث الدين([26]) ملك الغُور وغزنة…، وسببها أن الفخر محمد بن عمر الرازيّ كان قد قَدِمَ إلى غياث الدين فأكرمه واحترمه وبنى له مدرسة بهراة([27])، فقصده الفقهاء من البلاد فعظم ذلك على الكرّامية وهم كثيرون بهراة، وكان أكثر الغورية كرامية  أيضًا فأبغضوا الرازي وأحبوا إبعاده عن الملك، فاتفق الفقهاء من الكرامية والحنفية والشافعية عند غياث الدين للمناظرة، وحضر الفخر الرازيّ وابن القدوة وهو من الكرامية الهيصمية، وله عندهم محل كبير لزهده وعلمه، فتكلم الرازيّ فاعترض عليه ابن القدوة، وطال الكلام فاستطال عليه الفخر الرازيّ وسبَّه وشتمه وبالغ في أذاه، وابن القدوة لا يزيد على أن يقول: لا يفعل مولانا إلّا وأخذك الله، وأستغفر الله، فانفصلوا على هذا، وقام ضياء الدين([28]) في هذه الحادثة وشكا إلى غياث الدين وذم الفخر الرازيّ ونسبه إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة، فلم يصغ غياث إليه. فلما كان الغد وعظ ابن القدوة بالجامع فلما صعد المنبر قال بعد أن حمد الله وصلى على النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله، ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، أيها الناس، إنا لا نقول إلا ما صحّ عندنا عن رسول الله ﷺ، وأما علم أرسطاطاليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها، فلأيّ شىء يُشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذبّ عن دين الله وعن سُنَّة نبيّه، وبكى وضجّ الناس وبكى الكرَّامية واستغاثوا، وثار الناس من كل جانب وامتلأ البلد فتنة وكادوا يقتتلون ويجري ما يهلك فيه خلق كثير، فبلغ ذلك السلطان فأرسل جماعة من عنده إلى الناس وسكَّنهم ووعدهم بإخراج الفخر من عندهم، وتقدم إليه بالعودة إلى هراة فعاد إليها» اهـ. وهذه حادثة في تاريخ التجسيم نأخذ من دراستها العِبَر في شدة فتنتهم وتلبيسهم على العامّة والعياذ بالله.

[1] ) كَرّام بفتح الكاف وتشديد الراء على المشهور، كان والده يحفظ الكروم فقيل له الكرّام، وقيل كِرام بالكسر والتخفيف على لفظ جمع كريم. طبقات الشافعية، السبكيّ، 2/53. لسان الميزان، ابن حجر، 3/353.

 

[2] ) الفرق بين الفرق، البغداديّ، ص 203. المنتظم، ابن الجوزيّ، 12/97. كتاب الضعفاء والمتروكين، ابن الجوزيّ، 1/95. طبقات الشافعية، السبكيّ، 2/53. البداية والنهاية، ابن كثير، 11/20. الكشف الحثيث، أبو الوفاء الحلبيّ، 1/1489. لسان الميزان، ابن حجر، 3/353.

 

[3] ) الملل والنحل، الشهرستانيّ، ص107.

 

[4] ) «التَّنْميسُ: التَّلْبِيسُ»اهـ. القاموس المحيط، الفيروزأبادي، مادة ن م س، ص 747.

 

[5] ) أصل استعمال «قمش» إنما هو في القُماش، يقال: قَمَشَه يَقمِشُه قَمْشًا إذا جمعه من ههنا وههنا وهو ما كان على وجه الأرض من فتات الأشياء، واستعاره الشهرستاني هنا حين أضافه إلى الضّغْث لإرادة الذم على معنى أن ابن كرّام هذا جمع من كل مذهب رديئَهُ وفاسدَهُ ثم ضمّنه في كتابه. تاج العروس، الزبيدي، مادة ق م ش، 9/ 179.

 

[6] ) «الضِغْثُ بالكسر: قبْضَةُ حَشيشٍ مُخْتَلِطَةُ الرَّطْبِ باليابِس» اهـ. القاموس المحيط، الفيروزأبادي، مادة ض غ ث، ص 219.

 

[7] ) طبقات الشافعية الكبرى، السبكيّ، 2/52.

 

[8] ) التألُّه التنسُّك والتعبُّد. تاج العروس، الزبيدي، مادة أ ل هـ، 19/ 8. 

 

[9] ) محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي، أبو بكر، كان عالمـًا بالحديث. مولده ووفاته بنيسابور، رحل إلى العراق والشام والجزيرة ومصر. ولد 223هـ، وتوفي 311هـ. الأعلام، الزركلي، 6/ 29.

 

[10] ) طبقات الشافعية، السبكيّ، 2/53.

 

[11] ) لسان الميزان، ابن حجر، 3/354.

 

[12] ) لسان الميزان، ابن حجر، 3/354.

 

[13] ) دفع شبه من شبه وتمرد، الحصني، ص29.

 

[14] ) التبصير في الدين، الأسفرايينيّ، ص65. المنتظم، ابن الجوزيّ، 12/98. ميزان الاعتدال، الذهبيّ، 4/1. طبقات الشافعية الكبرى، السبكي، 2/304.

 

[15] ) الفرق بين الفرق، البغداديّ، ص203. الملل والنحل، الشهرستانيّ، ص107.

 

[16] ) الفرق بين الفرق، البغداديّ، ص 216. الملل والنحل، الشهرستانيّ، ص 108.

 

[17] ) الفرق بين الفرق، البغداديّ، ص 216.

 

[18] ) الملل والنحل، الشهرستانيّ، ص111.

 

[19] ) نهاية الإقدام في علم الكلام، الشهرستانيّ، ص122.

 

[20] ) السلطان محمود بن سبكتكين أبو القاسم الملقب بيمين الدولة، صاحب بلاد غزنة وما والاها. طبقات الشافعية الكبرى، السبكيّ، 5/314. البداية والنهاية، ابن كثير، 13/2930.

 

[21] ) البداية والنهاية، ابن كثير، 12/30. 

 

[22] ) طبقات الشافعية الكبرى، السبكيّ، 4/131. شذرات الذهب، ابن العماد، 4/181.

 

[23] ) التبصير في الدين، الأسفرايينيّ، ص66.

 

[24] ) ينسب الغُوْريون إلى بلاد الغُوْر، وهي جبال وعرة ومضايق غلقة تجاور غَزْنَةَ، وكان الغوريون أول الأمر يستغلون طبيعة مناطقهم في الغزو وقطع الطريق، ثم تجمعوا وتحزبوا ضد آل سبكتكين وقضوا على دولتهم سنة أربعين وخمسمائة. وآخر ملوكهم هو غياث الدين محمد بن غياث، ت605هـ. الكامل، ابن الأثير، 8/62 و9/356. سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، 20/406.

 

[25] ) الكامل، ابن الأثير، 10/262. البداية والنهاية، ابن كثير، 13/19.

 

[26] ) غياث الدين محمد بن سام أبو الفتح، ت599هـ، أحد ملوك الغوريين، كان على مذهب الكرامية إلى أن هداه الله تعالى إلى هجره سنة 596هـ وصار شافعيّ المذهب، وبنى المدارس للشافعية  ومسجدًا بغزنة. الكامل، ابن الأثير، 10/246.

 

[27] ) من مدن خراسان. معجم البلدان، ياقوت الحموي، 5/97.

 

[28] ) هو أحد أمراء الغوريين ضياء الدين محمد الغوريّ، وهو ابن عم غياث الدين. الكامل، ابن الأثير، 10/73، 10/262. البداية والنهاية، ابن كثير، 13/19.