ذكر القرطبيّ في قصة رفع نبيّ الله عيسى عليه السلام إلى السماء بعض الروايات السليمة التي لا غبار على إسنادها فقال: «قال الضحاك: كانت القصة لـمَّا أرادوا قتل عيسى، اجتمع الحواريون في غرفة وهم اثنا عشر رجلًا، فدخل عليهم المسيح من مشكاة([1]) الغرفة، فأخبر إبليس جمعَ اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة. فقال المسيح للحواريين: أيّكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة؟ فقال رجل: أنا يا نبيّ الله، فألقى إليه مِدْرَعَةً – أي: ثوبًا – من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وأُلقي عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه. وأما المسيح فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة حدَّثنا أبو معاوية حدَّثنا الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لـمَّا أراد الله تبارك وتعالى أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وهم اثنا عشر رجلًا من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال لهم: أما إنَّ منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يُلْقَى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ – أي: معي في الجنة – فقام شابّ من أحدثهم فقال: أنا، فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: أنا، فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشابّ فقال: أنا، فقال: نعم أنت ذاك، فألقى اللهُ عليه شبه عيسى عليه السلام، قال: ورفع الله تعالى عيسى من روزنة([2]) كانت في البيت إلى السماء. قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبيه فقتلوه ثم صلبوه، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به، فتفرقوا ثلاث فرق، قالت فرقة: كان فينا اللهُ ما شاء ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابنُ الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة: كان فينا عبدُ الله ورسولُه ما شاء الله ثم رفعه إليه، وهؤلاء المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسًا حتى بعث الله محمدًا ﷺ فَقُتِلوا، فأنزل الله تعالى: {فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الصف: 14]، أي: آمن آباؤهم في زمن عيسى {عَلَى عَدُوِّهِمْ} بإظهار دينهم على دين الكفار {فَأَصْبَحَوا ظَاهرِينَ}»([3]).اهـ. وقد سمّى الله فعل أولئك الكفار من بني إسرائيل مكرًا وذلك حين همُّوا بقتله وتواطؤوا على الفتك به، وأما المكر من الله فهو مجازاة الكفار على مكرهم، سُمّي الجزاء مكرًا على سبيل المشاكلة([4])، أي: لوقوعه في صحبة المكر الواقع ابتداء وهذا معروف شائع في كلام العرب قال الله تبارك وتعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤) إِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 54، 55].
قال شيخ الإسلام شيخنا عبد الله الهرريّ رحمه الله في قوله سبحانه: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّـهُ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}: «المكر من الخلق خبث وخداع لإيصال الضرر إلى الغير باستعمال حيلة، وأمّا من الله تعالى فهو مجازاة الماكرين بالعقوبة من حيث لا يدرون، وبعبارة أخرى: إنّ الله أقوى في إيصال الضرر إلى الماكرين من كلّ ماكر جزاءً لهم على مكرهم، فالمكر بمعنى الاحتيال مستحيل على الله تعالى، ولا يسمّى الله ماكرًا كما قاله بعض الجهال. وفي هذه الآية أسند الله إلى نفسه المكر، ومكر الله ليس كمكر العباد، مكر الإنسان أن يحاول إيصال الضرر إلى إنسان بطريقة خفيَّة يحتاج فيها إلى استعمال بعض الحيل، أما مكر الله فليس كذلك، مكر الله هو إيصال الضرر إلى من يشاء من عباده من حيث لا يعلم ذلك العبد ولا يظنّ ولا يحتسب أن الضرر يأتيه من هنا. فمكر العبد مذموم، أما مكر الله لا يُذمُّ لأنّ الله لا يجوز عليه الظلم، لا يكون ظالـمًا إن انتقم من عباده الظالمين بما شاء. وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: {اللَّـهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]، أَيْ: يجازيهم على استهزائهم»([5]).اهـ.
وأما معنى قوله: {مُتَوَفِّيكَ}، أي: قابضُك إلى السماء وأنت حيٌّ يقظان، ويجوز أن يُفسَّرَ على أنه من بابِ المقدَّمِ والمؤخَّر، فكأنَّ السياق: إن رافعك ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك، أي: مميتك، فعلى هذا التفسير وهو تفسيرُ ابنِ عباس يكون {مُتَوَفِّيكَ}، معناه: مُميتك. وقولُه تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، أي: جاعلُ من اتبعك على الإسلام والتوحيد، وهم من بقي بعد رفعه إلى السماء على الإسلام، ثم بعد انقراضهم هم أمةُ محمد، لأن هؤلاء هم متَّبعو عيسى على ما جاء به من توحيد الله وسائر أصول العقيدة والأحكام التي اتفقت عليها شرائع الأنبياء، فإنهم فوق الكافرين من حيث المعنى والحُكم، فإن من معه الحق فهو فوق غيره، وفي هذه الآية دِلالة على أن أمةَ محمد ﷺ آخرُ الأممِ المسلمة أتباعِ الأنبياء في الإسلام والتوحيد وأنهم يبقون إلى نهاية الدنيا.
ومما ذكروه من خبر عيسى عليه السلام وأمر رفعه وذكر اختلاف الناس من بعده ما رواه الطبريّ في تاريخه ما نصّه: «حتى كان – أي: عيسى عليه السلام – ابن ثلاثين سنة، فجاءه الوحي على ثلاثين سنة – أي: في عمر الثلاثين – وكانت نبوته ثلاث سنين، ثم رفعه الله إليه – أي: إلى محلّ كرامته – فلمَّا رآه إبليس يوم لقيه على العقبة([6]) لم يطق منه شيئًا، فتمثَّل له برجل ذي سن وهيئة، وخرج معه شيطانان ماردان متمثليْن كما تمثَّل إبليس، حتى خالطوا جماعة الناس. وزعم وَهْبٌ أنه ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفًا، فمن أطاق منهم أن يبلغَه بلغه، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى عليه السلام يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله عزَّ وجلَّ، فجاءه إبليس في هيئة يبهر الناس حسنها وجمالها، فلمَّا رآه الناس فرغوا له ومالوا نحوه، فجعل يخبرهم بالأعاجيب، فكان في قوله: إن شأن هذا الرجل لعجب: تكلَّم في المهد، وأحيا الموتى، وأنبأ عن الغيب، وشفى المريض فهذا الله، قال أحدُ صاحبيه: جهلت أيها الشيخ، وبئس ما قلت، لا ينبغي لله أن يتجلَّى للعباد، ولا يسكن الأرحام، ولا تسعه أجواف النساء، ولكنه ابن الله، وقال الثالث: بئس ما قلتما كلاكما قد أخطأ وجهل، ليس ينبغي لله أن يتخذ ولدًا، ولكنه إله معه، ثم غابوا حين فرغوا من قولهم، فكان ذلك آخر العهد منهم»([7]).اهـ.
[1])) «الـمِشْكاة بالكسر: كلُّ كَوَّةِ غير نافذة».اهـ. القاموس المحيط، الفيروزأبادي، مادة: (ش ك و)، (ص1403).
[2])) «الرَّوْزَنَة: الكوة».اهـ. القاموس المحيط، الفيروزأبادي، مادة: (ر ز ن)، (ص1292). والكوة هي الخرق في الحائط.
[3])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (4/100، 101).
[4])) المشاكلة: ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقًا أو تقديرًا. الإيضاح في علوم البلاغة، القزويني، (ص198).
[5])) الشرح القويم في حلّ ألفاظ الصراط المستقيم، الهرريّ، (ص218، 219).
[6])) «العَقَبَة بالتحريك: مرقًى صعب من الجبال، أو الجبل الطويل يعرِض للطريق فيأخذ فيه وهو طويل صعب شديد وإن كانت خُرمت بعد أن تسند وتطول في السماء في صعود وهبوط أطول من النقْب وأصعب مرتقًى، وقد يكون طولهما واحدًا».اهـ. تاج العروس، الزبيديّ، مادة: (ع ق ب)، (3/403).
[7])) تاريخ الأمم والملوك، الطبريّ (1/352).