الخميس مارس 28, 2024

متى حرف دين عيسى عليه السلام

بعد رفع عيسى عليه السلام بمائتي سنة حُرّف دينه القويم، وحُرّفَت معان الإنجيل الصحيح الذي أُنْزِلَ عليه، ثم عمد هؤلاء المحرّفون إلى تحريف ألفاظه، فحذفوا منه أغلب الألفاظ، وصار أحدهم يكتب إنجيلًا ويقول: هذا هو الإنجيل الأصليّ، حتى كثرت النُّسَخُ وبلغت نحو سبعين كتابًا، كلّها باسم الإنجيل المنـزل، فجمعهم الملك «قسطنطين» الذي كان في الأصل وثنيًّا ثم دخل في دين المحرّفين وطلب منهم أن يجمعوا أمرهم، فاتفقوا على أربعة كتب كلّها فيها تحريف للإنجيل الأصليّ الذي أُنْزِل على نبيّ الله عيسى عليه السلام، ثم أحرقوا بقية الكتب وانقسموا نحو سبعين فرقة([1]). قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 68]، ثم بعد ذلك صار المسلمون من أتباع عيسى عليه السلام يفرون بدينهم إلى الجبال يعبدون الله تعالى وحده، ومع مرور الأيام قلُّوا حتى لم يبقَ منهم أحد بعد ذلك لا في الجبال ولا في المدن، وهذا قبل بعثة سيدنا محمد ﷺ، وقد مدح الله تعالى في القرآن الأوّلين مِـمَّنْ ترهّبوا([2]) مع التوحيد والإيمان على شريعة عيسى عليه السلام، وذمّ الآخرين الذين قلّدوهم على غير ما كانوا عليه في الحقيقة، فقال سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّـهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].

فائدة مهمة: قال شيخ الإسلام شيخنا الهرريّ رحمه الله: «الدليل القرآنيّ على أن البدعة منها ما هو حسن قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّـهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27]، ففي هذه الآية مدح المؤمنين من أمّة عيسى لأنهّم كانوا أهل رحمة ورأفة، ولأنهم ابتدعوا الرهبانيّة وهي الانقطاع عن الشهوات المباحة زيادة على تجنّب المحرمات حتى إنهّم انقطعوا عن الزواج وتركوا اللذائذ من المطعومات والثياب الفاخرة وأقبلوا على الآخرة إقبالًا تامًّا. فقوله تعالى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فيه مدح لهم على ما ابتدعوا، أي: ممَّا لم ينصّ لهم عليه في الإنجيل الصحيح ولا قال لهم المسيح بنصّ منه افعلوا كذا، إنَّما هم أرادوا المبالغة في طاعة الله تعالى والتجرد لطاعته بترك الانشغال بما يتعلّق بالزواج ونفقة الزوجة والأهل. ثم هؤلاءِ الذين مدحهم الله كانوا من أتباع عيسى على الإسلام مع التمسك بشريعة عيسى، كانوا يبنون الصوامع، أي: بيوتًا خفيفة من طين أو من غير ذلك على المواضع المنعزلة عن البلد ليتجرّدوا للعبادة، ثم جاء بعدهم أناس قلدوا أولئك مع الشرك، أي: مع عبادة عيسى وأمهِ وتشبّهوا بأولئك بالانقطاع عن الشهوات والعكوف في الصوامع لقوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} لأن هؤلاء ما التزموا بالرهبانية الموافقة لشرع عيسى كما التزم أولئك السابقون، فيؤخذ من هذه الآية أن من عمل عملًا لا يخالف الشرع؛ بل يوافقه ليس بدعة مذمومة بل يُثاب فاعله ويسمّى سنة حسنة وسنةَ خيرٍ، ويسمّى بدعةً حسنةً أو بدعةً مستحبَّةً»([3]).اهـ.

[1])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، (6/24). اللباب في علوم الكتاب، عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي (12/214).

[2])) «الترهّب: التعبّد».اهـ. القاموس المحيط، الفيروزأبادي، مادة: (ر هـ ب)، (1/118).

[3])) الشرح القويم في حلّ ألفاظ الصراط المستقيم، الهرريّ، (ص535/ 536).