الخميس نوفمبر 21, 2024

قال الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [سورة الأعلى]

قال المفسر فخر الدين الرازي في «التفسير الكبير»[(802)]: «أن لا تفَسّر أسماؤه بما لا يصح ثبوته في حقه سبحانه نحو أن يفسر الأعلى بالعلو في المكان والاستواء بالاستقرار بل يفسر العلو بالقهر والاقتدار والاستواء بالاستيلاء» اهـ.

وقال المفسّر محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المالكي المتوفى سنة 671هـ، في كتابه «الجامع لأحكام القرءان» ما نصه[(803)]: «و«العليّ» يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان، لأن الله منزه عن التحيز» اهـ. وقال ما نصه[(804)]: {…فَوْقَ عِبَادِهِ} [سورة الأنعام] فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان» اهـ.

وقال المفسِّر المقرئ النحوي محمد بن يوسف المعروف بأبي حيان الأندلسي (745هـ) في تفسيره «البحر المحيط» (ج6/ص302)، عند تفسير قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ… *} [سورة الأنبياء] ما نصه: «عند هنا لا يراد بها ظرف المكان لأنه تعالى منزه عن المكان، بل المعنى شرف المكانة وعلو المنزلة» اهـ.

وقال الشيخ مصطفى نجا الشافعي مفتي بيروت (1351هـ)، في كتابه «كشف الأسرار لتنوير الأفكار» ما نصه[(805)]: «ومعنى العلي المتعالي في جلاله وكبريائه إلى غير غاية ولا نهاية، والمراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان لأنه تعالى منزه عن التحيز والجهة» اهـ.

وقال الشيخ يوسف الدَّجوي المصري (1365هـ) في مجلة الأزهر التي تصدرها مشيخة الأزهر بمصر[(806)]، في تفسير قول الله تبارك وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [سورة الأعلى] ما نصه: «والأعلى صفة الرب، والمراد بالعلو العلو بالقهر والاقتدار، لا بالمكان والجهة، لتنرهه عن ذلك». وقال أيضا[(807)]: «واعلم أن السلف قائلون باستحالة العلو المكاني عليه تعالى، خلافا لبعض الجهلة الذين يخبطون خبط عشواء في هذا المقام، فإن السلف والخلف متفقان على التنزيه» اهـ.

والدجوي أحد أعضاء كبار العلماء في الأزهر بمصر، وانظر مقالات وفتاوى الدجوى[(808)]، له بعنوان «تنزيه الله عن المكان والجهة».

قال المحدث الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله تعالى، في كتابه «بغية الطالب في معرفة العلم الديني الواجب»: «ومعنى «سُبحان ربِّي الأعلى» أُنزِّه ربي الأعلى أي الذي هو أعلى من كلّ عليّ أي عُلُوَّ قَدرٍ لا عُلُوَّ حَيّزٍ لأنَّ الشأن في علو القدر ليس في علوّ الحيّز والمكان. والدليل على ذلك أن حملةَ العرش والحافّين حوله من الملائكة مكانهم أرفعُ مكان ومع ذلك فليسوا هم أفضل من الأنبياء الذين هم في حيِّز ومكانٍ دون ذلك بمسافةٍ كبيرة، بل الأنبياء وإن كانَ مُستقرُّهم الأرض أعلى قدرًا عند الله من أولئك الملائكة» اهـ.

وقال رحمه الله، في كتابه «صريح البيان»: «وأما العلو الوارد وصف الله تعالى به فنذكر ما قاله الإمام أبو منصور البغدادي في تفسير الأسماء والصفات ونصه[(809)]: «والوجه الثالث أن يكون العلو بمعنى الغلبة، قال الله عزّ وجلّ {…وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ… *} [سورة ءال عمران] ، أي الغالبون لأعدائكم، يقال منه:علوت قرني أي غلبته، ومنه قوله عز وجل {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ… *} [سورة القصص] أي غلب وتكبر وطغى، ومنه قوله عز وجل: {وَأَنْ لاَ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ… *} [سورة الدخان] أي لا تتكبروا، وكذلك قوله: {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ *} [سورة النمل] أي لا تتكبروا فإذا كان مأخوذا من العلو فمعنى وصف الله عز وجل بأنه عليٌ أنه ليس فوقه أحد، وليس معناه أنه في مكان دون مكان، وإن كان مأخوذا من ارتفاع الشأن فهو سبحانه أرفع شأنا من أن نشبّه به شيئا». انتهى كلام العلامة الهرري وهو نفيس جدًا.

قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ… *} ، الله وصف نفسه في القرآن بأنه قاهرٌ لعباده. قال القشيري: فالرب إذا موصوفٌ بالعلو وفوقيّة الرُتبة والعظمة، ومنزّهٌ عن الكون في مكان أو عن الكون بمحاذاة مكان. وقال: لولا أنّ هؤلاء المشبهه ضللوا بعض الناس الذين ما تعلموا العلم ما كنتُ لطّختُ هذا الكتاب بذكرهم، وإنما ذكرتهم لأن هؤلاء أضر على الإسلام من اليهود والنصارى ومن المجوس وعبدة الأوثان لأن ضلالات هؤلاء ظاهرة يتجنّبُها المسلمون أما هؤلاء يُوردون آيات من القرآن ويفسّرونها تفسيرًا فاسدًا ليُضلّوا المسلمين، فإذا أخذ إنسان بأقوالهم من وصف الله سبحانه وتعالى بالأعضاء والجلوس والنزول من فوق إلى تحت والاتكاء والاستلقاء والتردد في الجِهات، من أخذ بكلامهم يعتقد في الله تبارك وتعالى الشَّبَه في المخلوقين ويتخيّل بخياله أشياءَ مخلوقه، يصف الله بها، فيعتقد الفضائح، فيأخُذُه السيل وهو لا يدري.

وفي هذا رد على الوهابية المجسمة أتباع ابن تيمية وابن القيم وابن باز، الذين زعموا أن معنى «الأعلى» في حق الله أنه علو بذاته، ونسبوا لله الجسم والحد، فجعلوا الله يسكن السماء ويجلس على العرش والعياذ بالله، وكل هذا تكذيب للقرءان والأحاديث الصريحة في تنزه الله عن الجهة والمكان.

قالَ أهلُ الحقّ: ليس الشأنُ في عُلوّ الجهةِ بل الشأنُ في علوّ القدرِ، والفوقية في لغةِ العربِ تأتي على معنيينِ فوقية المكانِ والجهةِ وفوقية القدرِ قال الله تعالى إخبارًا عن فرعون {…وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ *} أي نحنُ فوقَهُم بالقوةِ والسيطرةِ لأنه لا يصحُّ أن يقالَ إن فرعونَ أرادَ بهذا أنه فوقَ رقابِ بني إسرائيلَ إلى جهةِ العلوّ إنما أرادَ أنهُم مقهورونَ لَهُ مغلوبونَ.

فقول الله تعالى إخبارًا عن فرعون الكافر {…أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى *} معناه علو القدر. وكذا قوله {…وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ *} أي فوقية القوة والسيطرة وليس فوقية المكان. فلهذا نص العلماء أن الفوقية والعلو إذا أطلق على الله فالمراد منه علو قدر وفوقية قهر سبحانه وتعالى وليس علو مكان وجهة لأن الله كان قبل الخلق والمكان والجهات بلا مكان كما أجمع كل علماء أهل السنة على ذلك ونص على ذلك ابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري.

فلا تغتَرّ بعد ذلك بالذين يسمون أنفسهم «سلفية» ليوهموا الناس أنهم على عقيدة السلف، والسلف بريء من عقيدة المشبهة الذين يقولون بالجلوس والاستقرار والمكان والحركة والحد في حق الله، والعياذ بالله من الكفر.

ـ[802]       الجامع لأحكام القرءان (3/278).

ـ[803]       الجامع لأحكام القرءان (ج6/ ص399).

ـ[804]       كشف الأسرار لتنوير الأفكار (ص/118).

ـ[805]       مجلة الأزهر المجلد التاسع، الجزء الأول – المحرم سنة 1357هـ (ص/16).

ـ[806]       مجلة الأزهر (ص/17).

ـ[807]       فتاوى الدجوى (183/- 194 و201 – 211).

ـ[808]       الأسماء والصفات (ق/151).

ـ[809]       تأويلات أهل السنة (دار الكتب العلمية، المجلد العاشر الطبعة الأولى 1426هـ ص523).