الجمعة مارس 29, 2024

قال الله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *) [سورة الفجر]

يوم القيامة ينزلُ ملائكةٌ كثر يُحيطون بالإنس والجنّ هم يكونون ضمن سبعة صفوف، الملائكةُ يكونون في سبعة صفوف في وقت من الأوقات الكافرُ يُنكرُ أنَّهُ كان يعبُدُ غيرَ الله. فإن قيل: فقد قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *} [سورة المطففين] وقال: {…وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ *} [سورة القصص] وقال: {…وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} [سورة البقرة] وهذا يتناول بعمومه جميع الكفار. قلنا: القيامة مواطن، فموطن يكون فيه سؤال وكلام، وموطن لا يكون ذلك فلا تتناقض الآي والأخبار، والله المستعان.

قال عكرمة: القيامة مواطن يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها. وقال ابن عباس: لا يسألون سؤال شفاء وراحة، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ لم عملتم كذا وكذا، والقاطع لهذا قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [سورة الحجر].

قال أهل التأويل: عن لا إله إلاّ الله. وقد قيل إن الكفار يحاسبون بالكفر بالله الذي كان طول العمر دثارهم وشعارهم، وكل دلالة من دلائل الإِيمان خالفوها وعاندوها، فإنهم يبكتون عليها ويسألون عنها: عن الرسل وتكذيبهم إياهم لقيام الدلائل على صدقهم.

وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ *} [سورة العنكبوت] والآي في هذا المعنى كثيرة، ومن تأمل آخر سورة المؤمنين {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ… *} [سورة المؤمنون] إلى آخرها تبين له الصواب في ذلك، والحمد لله على ذلك.ففى موقف من مواقف القيامة اللهُ يَختمُ على فم الكافر فتنطقُ أعضاؤه، تشهَدُ عليه أعضاؤه بما كان يَعمَلُ من الكفر، هذا من العجائب التي يُظهرُها اللهُ يومَ القيامة كذلك الأرض التي كان عملَ عليها الانسانُ شرًّا أو خَيرًا، اللهُ يُنطقُها، هذا الجزءُ من الأرض يشهَدُ عليه بما فَعَلَ من السيئات ويشهَدَ للمؤمن بما فَعلَ من الخيرات. الذهبُ الذي كان الشخصُ لا يُزكّيه يكونُ جَمرًا يُعيدُهُ اللهُ فيُحَمى في نار جَهَنَّم يصير مثل الجمر ثم يكوى به جنب وجبهة وظهر الذي كان لا يُزَكّيه. ويُعيدُ اللهُ البقرَ الذي كان لا يُزَكّيه الشَّخصُ فتنطحه بقرونها وكذلك الإبل تدوس بخفافها الشخص الذي كان لا يُزَكّيها وكذلك في ذلك اليوم تَظهَرُ عجائبُ أخرى. هذه العجائب اللهُ قالَ عنها: «وجاء ربك والملَكُ صفًّا صفًّا». وجاءَ ربُّكَ معناهُ تلك العجائب التي تَظهَرُ يوم القيامة. ثمَّ الملائكةُ يَجُرُّون جُزءًا من جَهَنَّم كبيرًا سبعون ألف ملَك بسبعين ألف سلسلة يَجُرُّونها إلى حيثُ يراها الكفار قبل أن يدخُلُوا جَهَنَّم. ولو كان يوجد موت هناك لمات الكفار من شدّة هول ذلك المنظر لكن هناك في الآخرة لا يوجد موت. في الدنيا مَن اشتَدَّ عليه الألم قد يموت أمَّا في الآخرة فلا يموت. أهلُ السُّنَّة يقولون: «وجاء ربُّك والملَك»، وجاء ربُّك أي ظهَرَت عجائبُ قُدرة الله لا يقولون جاء الله من فوق إلى تحت، بل هذا كفر. الوهابيةُ يقولون الله يأتي من فوق إلى الأرض المبدلة ليُحاسب الخَلق جَعلوا اللهَ سبحانه وتعالى كالملِك الذي يُقابلُ الرعية. اللهُ يُحاسب الخَلقَ بكلامه الذي ليس حرفًا ولا صوتًا ليس مقابلة، اللهُ مُستحيل أن يكونَ بينَهُ وبين شىءٍ من خلقه مُقابلة، مُستحيل أن يكونَ بين الله وبين شىء من خلقه مُقابلة، إنّما يُحاسبهم بكلامه يُسمعُهم كلامَه الذي هو ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغةً فيَفهمون منه السُّؤال أعطيتك كذا وكذا أنت فعلت كذا وكذا يفهمون، أنت فعلت كذا وكذا يوم كذا أنا أنعمتُ عليك بكذا لم فعلتَ كذا. الوقوفُ بينَ يدي الله ليس مَعناه أنَّ الخَلقَ يكونون في مُقابلة مع الله يومَ القيامة، اللهُ موجودٌ بلا مكان ولا جهة لا هو قريبٌ بالمسافة ولا هو بعيدٌ بالمسافة. الجسمُ إمَّا أن يَكونَ قريبًا منك بالمسافة أو بعيدًا عنك بالمسافة، القُربُ بالمسافة للحجم ليس لله، الذي يَظُنُّ أنَّ الوقوفَ بين يدي الله يوم القيامة القرب منه بالمسافة هذا ما عَرَفَ الله. الوهابيةُ يُفَسّرُون ءايات القرءان على الظاهر وهذا لا يجوز، الذي يُفَسّر كُلّ ءايات القرءان على الظاهر يَكفر كما قالَ سيّدُنا أحمدُ الرّفاعي رَضيَ اللهُ عنه:صونوا عقائدكم من التّمسّك بظواهر ما تشابه من الكتاب والسّنّة فإن ذلك من أصول الكفر.اهـ أى أوقع كثيرا من الناس فى الكفر. كذلك أهلُ السُّنَّة يقولون المؤمنون بعد أن يستَقرّوا في الجنّة يَرَون الله، ليس مَعناه أنَّ الله مُستَقرٌّ في الجَنَّة، وليس مَعناهُ أنَّهم يرونَهُ ذاتًا قريبًا منهم وليس معناه أنَّهم يَرَونَهُ ذاتًا بعيدًا عنهم، يَرَونَهُ بلا كيف ولا جهة لا يَرَونَهُ هكذا إلى فوق ولا يَرَونَهُ هكذا مُتَحَيّزًا إلى يمينهم ولا يَرَونَهُ مُتَحَيّزًا إلى جهة تحت بل بلا كيفٍ ولا جهة يرونَهُ عندما يكونون في الجَنَّة، هُم في الجنَّة أمَّا اللهُ فَهُوَ مَوجُودٌ بلا مكان. المخلوقُ تَراهُ وأنت تَنظُرُ إلى فوق أو تحت أو أمام أو إلى خلف ليس هكذا يرى المؤمنون الله. أهلُ السُّنَّة كُلُّ هذا فَهمُوه من حيثُ العقلُ أي أنَّ الخالقَ موجودٌ بلا جهة ولا مكان، القُربُ المسافيُّ والبُعدُ المسافيُّ هذا صفةُ الخَلق، أمَّا من القُرءان فمن قوله تعالى: «ليس كمثله شىء»، نحنُ أَخَذنا من الدَّليل العَقلي ومن هذه الآية أنَّ اللهَ مَوجودٌ بلا مكان ولا جهة.

ثُمَّ أهلُ الجَنَّة حين يَرَونَ اللهَ بعد استقرارهم في الجَنَّة لا يَشُكُّون أنَّهُ الله لأنَّهم رَأَوا شيئًا لا مثلَ له لذلك لا يَشُكُّون أنَّهُ الله. اهـ

أحمد بن حنبل رضي الله عنه يجوّز التأويل الذي هو موافق لكتاب الله وسنة رسوله ولغة العرب لذلك أوّل قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} . قال أحمد: «جاء أمره»، وفي رواية: «جاءت قدرته»، أي آثار قدرته، معناه الله يظهر يوم القيامة أهوالا عظيمة، ولو كان الإمام أحمد مجسما كأدعياء السلفية في هذا الزمان لما أوّل الآية ولكان أخذ بظاهرها. أما المجسمة أدعياء السلفية فيقولون: «التأويل تعطيل» اهـ، والتعطيل هو نفي وجود الله تعالى أو صفاته فيكونون بذلك حكموا على أحمد بالكفر لأنهم جعلوه معطّلا، فكيف بعد ذلك يدّعون الانتساب إليه. أحمد بن حنبل يُنزه الله عن أن يكون متصوَّرًا، فقد ثبت عنه أنه قال: «مهما تصوّرت ببالك فالله بخلاف ذلك»، رواه أبو الحسن التميمي الحنبلي في كتابه المسمّى اعتقاد الإمام المبجّل أحمد بن حنبل، وقوله هذا مأخوذ من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا فكرة في الرّبِّ» رواه أبو القاسم الأنصاري.

قال الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره «تأويلات أهل السنة» ما نصه[(810)]: «ومنهم من ذكر أن معنى قوله {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} ، وقوله {…إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ… *} [سورة البقرة] ، أي: أمر الله، دليله ما ذكر في سورة النحل قوله {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ… *} [سورة النحل] ، فذكر مكان قوله {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} : {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ… *} » اهـ.

أما خالد الجندي فيقول في شريطه المسمى «الإيمان بالملائكة» باللهجة المصرية العامية: «أول ما يعلن إنّو ربنا سبحانه وتعالى جاي، ولله المثل الأعلى هو القرءان قايلك كده في سورة الفجر {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} ».

الرد:

هذا الكلام فاسد وهو قوله «إنو ربنا جاي» فإن الجاهل قد يتوهم أن الله أفرغ مكانًا وملأ ءاخر، يوهم أن الله جسم وكمية وأتى إلى أرض القيامة ويوهم أن الله له مكان في جهة فوق. ثم من يعلن على زعمك أن الله جاي، فإن كنت فهمت ذلك من هذه الآية: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [سورة الفجر] فهذه مشكلتك لأنك أسأت فهم الآية ولم تعلم معناها على الوجه الصحيح. فلو رجعت إلى تفسير الإمام المجتهد أحمد بن حنبل وهو من رؤوس السلف الذي أوّل تأويلا تفصيليا لفهمت المراد والصحيح ولنفعت الناس بتأويل هذه الآية الشريفة، قال الإمام أحمد رحمه الله: «جاءت قدرته» أي أثر من ءاثار قدرته لأن يوم القيامة يوم الأهوال العظام، ومن ذلك أن سبعين ألف ملك يجرون جزءا من جهنم كل ملك معه سلسلة الله أعلم بضخامتها يقربونها من أرض الموقف يبقى بينها وبين أرض الموقف مسيرة أربعين سنة فيراها الكفار فيزدادون رعبا وخوفا وقلقا واضطرابا. وكل ملك من هؤلاء الملائكة في القوة يزيد على قوة البشر، ثم يُردُ ذلك الجزء إلى مكانه، هذا شىء واحد من كثير من أهوال القيامة، كذلك بقدرة الله حين يحضر الملائكة في سبعة صفوف لعظم ذلك اليوم حتى يحيطوا بالإنس والجن، ولا أحد يستطيع أن يخرج من هذا المكان. ذلك اليوم تظهر أمور عظيمة. فحذار أن تفهم من أي ءاية متشابهة معنى فاسدا يكذب {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .

ـ[810]       فتاوى الألباني (ص/432).