فضل الصّديقِ أبي بكرٍ على غيره من الصّحابة
ومما ورد في أخر وصياه عليه الصلاة والسلام ما أخبرت به السيدة الجليلة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما استعزّ (أي اشتد المرض) برسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: “مروا أبا بكرٍ فليصلي بالناس” قالت عائشة: قلتُ : يا نبيّ الله إن أبا بكرٍ رجلٌ رقيقٌ ضعيفُ الصوتِ كثيرُ البكاءِ إذا قرأ القرءان قال صلى الله عليه وسلم:” مروه فليصلي بالنّاس”. والمقصود من هذه الوصيّة في أخر أيامه عليه الصلاة والسلام التنويه والتنبيه على فضلِ أبي بكرٍ الصّديق رضي الله عنه الذي هو أفضل الصحابة وأفضل أولياء الأمّةِ بإجماعِ علماء الإسلام ثم الإشارة منه صلى الله عليه وسلم على أن أبا بكرٍ رضي الله عنه أولى من يصلحُ بخلافته صلى الله عليه وسلم وإمامة المسلمين من بعده.
فلقد حرص الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام على تقديم الصّديق أبي بكرٍ رضي الله عنه إمامًا للصحابة كلهم في الصلاة التي هي أكبر أركانِ الإسلام العمليّة
وأفضل الأعمال بعد الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فائدة: صرّح الإمام الشافعي بأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلي بالنّاس في مرض موته بالمسجد إلا مرةً واحدة، وهي هذه المرّة التي صلّى فيها قاعدًا، وكان أبو بكر الصّيق
رضي الله عنه أولاً إمامًا ثم صار مأمومًا يُسمع النّاس التكبير .
عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، قال لما استُعيزَ برسول الله صلى الله عليه وسلم (أي اشتدّ عليه المرض) وأنا عنده في نفرٍ من المسلمين قال: دعاه بلالٌ إلى الصلاة فقال (أي النبي صلى الله عليه وسلم مروا من يصلي بالنّاس) . قال: فخرجت فإذا عمرُ بالنّاس ، وكان أبا بكرٍ غائبًا ، فقلتُ: قُم يا عمر فصلي بالناس، قال : فقام (أي عمر رضي الله عنه) فلما كبّر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوتهُ وكان عمرُ رجلاً مجهرًا ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” فأين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون” قال فبعث إلى أبي بكرٍ فجاء بعد أن صلّى عمر تلك الصلاة فصلّى بالنّاس. قال عبد الله بن زمعة: قال لي عمرُ ويحكَ، ماذا صنعتَ بي با ابن زمعةَ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك ولولا ذلك ما صليتُ بالنّاس. قال: (أي عبد الله بن زمعة) قلت: والله ما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني حين لم أر أبا بكرٍ رأيتك أحقّ من حضر بالصلاةِ بالنّاسِ. رواه أحمد.
وعن ابي سعيدِ الخدري قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو معصوب الرأس فقام عن المنبر فقال:” إن عبدًا عُرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة” قال: فلم يفطن لها أحدٌ من القوم إلا أبو بكرٍ فقال: بأبي وأمي نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا. قال: ثم هبط عن المنبر فما رُئيَ عليه حتى الساعة، رواه أحمد
في المسند وابن حبان في صحيحه. وفي المسند عن ابي مويْهِبةَ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلةً إلى البقيع فاستغفر لأهل البقيع وقال :” ليهْنِكُم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه النّاس، أقبلت الفتنُ كقطع الليل المظلم ليتبع بعضه بعضا ، ليتبع أخرها أولّها ، الآخرة شرٌ من الأولى ” ثم قال:” يا أبا مويْهبةَ إني قد أُعطيتُ خزائن الدنيا والخُلدِ ثم الجنّة، فخُيّرتُ بين ذلك وبين لقاء ربّي فاخترتُ لقاء ربّي والجنّة ” ثم انصرف فابتدأهُ وجعهُ الذي قبضهُ الله فيه. رواه أحمد في المسند.
فائدة: ولما عرَّضَ الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر باختياره اللقاء على البقاء ولم يُصرّحَ ، خفِيَ المعنى على كثيرٍ ممن سمع ولم يفهم المقصود غيرُ صاحبهِ أبو بكرٍ الخصيصِ به
” ثانيَ اثنينِ إذْ هما في الغار ” وكان أعلم الأمةِ بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى وقال: بل نفديكَ بأموالنا وأنفسنا وأولادنا
فسكّنَ الرسول صلى الله عليه وسلم جزعهُ وأخذ في مدحه والثناء عليه على المنبر ليعلمَ النّاس كلهم فضلهُ فلا يقع عليه اختلافٌ في خلافتهِ ، فقال صلى الله عليه وسلم:” إنّ من أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته ومالهِ أبو بكرٍ” .
وفي روايةٍ أخرى أنه قال :” ما لأاحدٍ عندنا يد إلا وقد كافيناهُ ما خلى أبا بكرٍ فإنَّ له عندنا يدًا يكافئهُ الله يوم القيامة بها، وما نفعني مالُ أحدٍ قطُّ ما نفعني مال أبي بكرٍ”
أخرجه الترمذي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” لو كنتُ متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذتُ أبا بكرٍ خليلا ولكن أُخُوّة الإسلام” رواه الترمذي.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سُدّوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكرٍ. وفي هذا الإشارة إلى أن أبا بكرٍ هو الإمام بعده فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد والإستطراق فيه بخلاف غيره وذلك من مصالح المسلمين المصلّين في المسجد ثم أكّد هذا المعنى بأمره صريحًا أن يُصلّيَ بالناسِ أبو بكرٍ فروجِع في ذلك فغضب ، وقال: مروا أبا بكرٍ فليصلي بالنّاس” فولاه إمامة الصلاة دون غيرهِ وأبقَى استطراقهُ ” مروه” من داره إلى مكان الصلاةِ وسدّ استطراق غيرهِ ، وفي هذا إشارةٌ واضحةٌ إلى أولوية وأحقيّة استخلافهِ على الأمةِ من بعدهِ صلى الله عليه وسلم دون غيرهِ ولهذا قالت الصحابةُ عند بيعة أبي بكرٍ رضيَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاهُ لدُنيانا.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتبَ لأبي بكرٍ كتابًا لئلاّ يختلف عليه ثم أعرض عن ذلك لعلمهِ أنه لا يقع غيره ، وقال عليه الصلاة والسلام:” يأبى الله والمؤمنون
إلا أبا بكرٍ ” رواه البخاري ومسلم .