الأربعاء أبريل 16, 2025

فائدة أُخرى
ناقض ابن تيمية نفسه في فتاويه حيث إنه يذكر في موضع أن التأويل حصل من بعض السلف، وفي موضع ينفي نفيًا باتًا، وهو محجوج في ذلك بثبوته عن الإمام سفيان الثوري أحد أجلاء السلف ومن أساطين أهل الحديث قال في تفسيره سورة القصص ما نصه: {كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهه} [سورة القصص/88] قال: ما أريد به وجهه اهـ. فهذا تأويل صريح لوجه الله بأنه ما يتقرب به إليه من العبادات. وفي البخاري تفسير سورة القصص: {كل شيءٍ هالك إلا وجهه} إلا ملكه، ويقال ما أريد به وجهه اهـ. وسبق سفيان والبخاري في تاويل الوجه مجاهد بن جبر راوي عبد الله بن عباس وغيره، وتبع الثلاثة الإمام أحمد بن حنبل فقد ثبت عنه تأويل المجيء المذكور في قوله تعالى: {وجاء ربك} [سورة الفجر/22].
وقال البيهقي في مناقب أحمد: أنبأنا الحاكم قال حدثنا أبو عمرو بن السماك قال: حدثنا حنبل بن إسحاق قال: سمعت عمي أبا عبد الله يعني أحمد يقول: احتجوا عليّ يومئذ –يعني يوم نوظر في دار أمير المؤمنين- فقالوا تجيء سورة البقرة يوم القيامة وتجيء سورة تبارك فقلت لهم: إنما هو الثواب. قال الله تعالى: {وجاء ربك} [سورة الفجر/22] إنما يأتي قدرته، وإنما القرءان أمثال ومواعظ. قال البيهقي وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السنة انتقالًا من مكان إلى مكان كمجيء ذوات الأجسام ونزولها، وإنما هو عبارة عن ظهور ءايات قدرته فإنهم لما زعموا أن القرءان لو كان كلام الله وصفة من صفات ذاته لم يجز عليه المجيء والإتيان، فأجابهم أبو عبد الله بأنه إنما يجيء ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ فعبر عن إظهاره إياها بمجيئه اهـ.

ونقل ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير عن الإمام أحمد أنه فسر: {وجاء ربك} [سورة الفجر/22] بمجيء أمر مستدلًا بقوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن تأتِيَهُمُ الملائكةُ أو يأتيَ أمرُ ربكَ} [سورة النحل/33] والقرءان يفسر بعضه بعضًا.

وقوله تعالى: {وناداهُما ربُّهُما ألَمْ أنْهَكُما عن تِلكُما الشجرةِ وأقُل لكما إنَّ الشيطانَ لكُما عدوٌّ مبينٌ} [سورة الأعراف/22] فيه دليل على صحة رواية النسائي: “إن الله يمهلُ حتى يمضي شطرُ الليل الأول فيأمر مناديًا…” فكما أن الله تعالى نسب نداءَ الملك لآدم وحواء إلى نفسه لكونه بأمره، فكذلك صح إسناد نزول الملك إلى السماء الدنيا ليبلغ عن الله: “هل من داع فيستجيب الله له وهل من سائل فيعطى وهل من مستغفر فيغفر له” إلى الله. وفي الآية أيضًا دليل على أن نداء الملك لبعض خلق الله بأمر الله يُسند إلى الله من غير أن يكون هناك صوتٌ يخرج من الله، فمن هنا يؤخذ ردُّ اعتراض بعض المجسمة رواية النسائي لحديث النزول حيث إنه قال إن هذه الرواية تستلزم حصول قول من الملك: هل من مستغفر فأغفر له وهل من داع فأستجيب له. فنقول كما أن الله جعل نداء الملك لآدم وحواء بأن الله يقول لكما: {ألم أنهكُما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إنَّ الشيطان لكما عدوٌّ مبين} [سورة الأعراف/22] كذلك يُحمل حديث النزول على الرواية المشهورة على أن الله يأمر الملك بالنزول إلى السماء الدنيا ويبلغ عن الله بأن يقول: إن الله يقول لعباده الداعين والسائلين: من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه إلى ءاخر ما ورد فيه، وليس المعنى أن الملك يقول عن نفسه من يستغفرني فأغفر له ومن يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه. ونظيرُ هذا ما جاء في القرءان من قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لا تُحرِّك بهِ لسانَكَ لتعجَلَ بهِ* إنَّ علينا جمعَهُ وقُرءانهُ* فإذا قرأناهُ فاتَّبِعْ قُرءانهُ} [سورة القيامة/16-17-18]، فقوله تعالى: {فإذا قرأناهُ} [سورة القيامة/18] معناه فإذا قرأه جبريل عليك بأمرنا، ومعلوم أنه ليس المعنى أن الله يقرأ القرءان على رسول الله كما يقرأ المعلم على التلميذ، فبهذا ينحلّ الإشكال الذي يخطر لبعض الناس.

ويلزم من التمسك بظاهر رواية البخاري ومالك وغيرهما لحديث النزول المشهور أن يكون الله فيما بين النصف الثاني من الليل والفجر مستمرًا في النزول والصعود إن حملوا النزول بالنسبة لكل أرض، وذلك أن الليل يختلف باختلاف البلاد فنصف الليل في بلد هو أول النهار في بلد ءاخر وقد يكون في أرض أول الليل أو أقل أو أكثر، وإن حملوا النزول على أرض واحدة فيما بين انتصاف ليلها وفجرها فبأي حجة خصصوا النزول بأرض واحدة، والحديث ليس فيه بأرض كذا.

قال بدر الدين بن جماعة في كتابه إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل ما نصه [1]: اعلم أن النزول الذي هو الانتقال من علو إلى سفل لا يجوز حمل الحديث عليه، لوجوه:

الأول: النزول من صفات الأجسام والمحدثات ويحتاج إلى ثلاثة: منتقل، ومنتقل عنه، ومنتقل إليه، وذلك على الله تعالى محال.

الثاني: لو كان النزول لذاته حقيقة لتجددت له في كل يوم وليلة حركات عديدة تستوعب الليل كله، وتنقلات كثيرة، لأن ثلث الليل يتجدد على أهل الأرض مع اللحظات شيئًا فشيئًا، فيلزم انتقاله في السماء الدنيا ليلًا ونهارًا، من قوم إلى قوم، وعوده إلى العرش في كل لحظة على قولهم، ونزوله فيها إلى سماء الدنيا، ولا يقول ذلك ذو لب وتحصيل.

الثالث: أن القائل بأنه فوق العرش، وأنه ملأه كيف تسعه سماء الدنيا، وهي بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة، فيلزم عليه أحد أمرين، إما اتساع الدنيا كل ساعة حتى تسعه، أو تضاؤل الذات المقدس عن ذلك حتى تسعه، ونحن نقطع بانتفاء الأمرين اهـ.

وقال البيهقي في السنن الكبرى [1] ما نصه: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا محمد أحمد بن عبد الله المزني يقول: حديث النزول قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه صحيحة وورد في التنزيل ما يصدقه وهو قوله تعالى: {وجاءَ ربُّكَ والملكُ صفًّا صفًّا} [سورة الفجر/22] والنزول والمجيء صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال بل هما صفتان من صفات الله تعالى بلا تشبيه جلّ الله تعالى عما تقول المعطلة لصفاته والمشبهة بها علوًا كبيرًا. قلت: وكان أبو سليمان الخطابي رحمه الله يقول: إنما ينكر هذا وما أشبهه من الحديث من يقيس الأمور في ذلك بما يشاهده من النزول الذي هو تدلي من أعلى إلى أسفل وانتقال من فوق إلى تحت وهذه صفة الاجسام والأشباح فأنا نزول من لا تستولي عليه صفات الأجسام فإن هذه المعاني غير متوهمة فيه وإنما هو خبر عن قدرته ورأفته بعباده وعطفه عليهم واستجابة دعاءهم ومغفرته لهم يفعل ما يشاء لا يتوجه على صفاته كيفية ولا على أفعاله كمية سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير اهـ.

فليعلم الجاهل الذي لا تمييز له أنه حاد عن الحق الذي اتفق عليه السلف والخلف، فإن من أوّل من السلف والخلف تأويلًا إجماليًا قال في حديث النزول وحديث الجارية وشبههما، وفي ءاية الاستواء على العرش والمجيء المذكور في قول الله تعالى: {وجاء ربك} [سورة الفجر/22] وشبههما من الآيات “بلا كيف”، ومرادهم إن ذلك على غير صفة من صفات الخلق أي ليس كالنزول الحسي ولا الاستواء بمعنى الجلوس والاستقرار، ولا المجيء بالانتقال والحركة وما هو من صفات المخلوق، فمعنى قولهم بلا كيف أن لهذه النصوص معان ليس فيها تشبيه لصفات الله بصفات الخلق.

وأما الذين أوّلوا التأويل التفصيلي كالذين أوّلوا المجيء بمجيء القدرة أي ءاثار قدرة الله، والنزول بنزول الملك أو نزول الرحمة وما أشبه ذلك كتأويل الإمام سفيان الثوري والإمام البخاري وجهَ الله المذكور في قوله تعالى: {كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهه} [سورة القصص/88] بما أريد به وجه الله وبمُلك الله، فلم يصفوا الله تعالى بصفات المخلوقين، فكِلا الفريقين لم يتمسك بظواهر تلك الآيات وتلك الأحاديث، فكل متفقون على تنزيه الله عن صفات المخلوقين وعلى أن تلك الآيات والأحاديث ليس معانيها المعاني المعهودة من الخلق، فلا أحد من الفريقين يعتقد في حديث النزول أن الله تعالى ينزل نزولًا حسيًا كنزول الملائكة والبشر، ولا أحد منهم يعتقد أن معنى الاستواء الجلوس والاستقرار على العرش أو الكون في جهة العلو من غير مماسة، وذلك تمسك منهم بمعنى قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} [سورة الشورى/11] الذي هو تنزيه كليٌ، فتردّ تلك الآيات والأحاديث إلى هذه الآية لأنها محكمة. فنفاة التأويل الإجمالي والتفصيلي لا مهرب لهم من الوقوع في المحال فيصيرون ضُحكة عند أهل التمييز والفهم الذين يوفّقون بين النقل والعقل.


الهوامش:

[1] انظر الكتاب [ص/164].
[2] انظر السنن الكبرى [3/3].