الجمعة مارس 29, 2024

فائدة:
مما يبطل قول ابن تيمية بقيام كلام حادث الأفراد أزلي النوع وإرادة حادثة الأفراد قديمة النوع في ذات الله، ما قاله أبو الفضل التميمي في كتابه اعتقاد الإمام أحمد: وذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه إلى أن الله عز وجل يغضب ويرضى وأن له غضبًا ورضًا، وقرأ أحمد قوله عز وجل: {ولا تطغَوا فيهِ فَيَحِلَّ عليكُمْ غضبي ومَنْ يحلِلْ عليهِ غضبي فقد هوى} [سورة طه/81] وأضاف الغضب إلى نفسه وقال عز وجل: {فلمَّا ءاسَفونا انتَقَمنا مِنهُمْ} [سورة الزخرف/55] الآية، قال ابن عباس: يعني أغضبونا، وقوله أيضًا: {فجزاؤُهُ جهنَّمَ خالدًا فيها وغَضِبَ اللهُ عليهِ ولعنَهُ} [سورة النساء/93] الآية، ومثل ذلك في القرءان كثير، والغضب والرضا صفتان له من صفات نفسه لم يزل الله تعالى غاضبًا على ما سبق في علمه أن يكون مما يغضبه ولم يزل راضيًا على ما سبق في العلم أنه يكون مما يرضيه، وأنكر أصحابه على من يقول إن الرضا والغضب مخلوقان، قالوا فمن قال ذلك لزمه أن غضب الله عز وجل على الكافرين يفنى وكذلك رضاه على الأنبياء والمؤمنين حتى لا يكون راضيًا على أوليائه ولا ساخطًا على أعدائه، ويُسمَّى ما كان عن الصفة باسم الصفة مجازًا في بعض الأشياء، ويُسمى عذاب الله تعالى وعقابه غضبًا وسخطًا لأنهما عن الغضب كانا، وقد أجمع المسلمون لا يتناكرون أنهم إذا رأوا الزلازل والأمطار العظيمة أنهم يقولون هذه قدرة الله تعالى، والمعنى أنها عن قدرةٍ كانت، وقد يقول الإنسان في دعائه: اللهم اغفر لنا علمكَ فينا وإنما يريد معلومك الذي علمته، فسموا المعلوم باسم العلم، وكذلك سموا المرتضى باسم الرضى وسموا المغضوب باسم الغضب اهـ.
فما أعظم هذه الفائدة ففيها ردّ لما يحتج به أتباع ابن تيمية لحدوث صفات الله تعالى بحديث الشفاعة المشهور أن ءادم وغيره يقول: إن الله غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، فزعم هؤلاء المشبهة أن الله يحدث له في ذلك الوقت صفة حادثة في ذاته. وهذه الفائدة تبين فساد فهم هؤلاء الذين ينتسبون إلى مذهب أحمد وهم على خلافه في الحقيقة.
ومن جملة افتراءات ابن تيمية على أئمة الحديث وأهل السنة والجماعة نقله عنهم أن الله متكلم بصوت نوعه قديم أي يحدث في ذات الله شيئًا بعد شيء قال في كتابه رسالة في صفة الكلام [1] ما نصه: وحينئذ فكلامه قديم مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته وإن قيل إنه ينادي ويتكلم بصوت ولا يلزم من ذلك قدم صوت معين، وإذا كان قد تكلم بالتوراة والقرءان والإنجيل بمشيئته وقدرته لم يمتنع أن يتكلم بالباء قبل السين، وإن كان نوع الباء والسين قديمًا لم يستلزم أن يكون الباء المعينة والسين المعينة قديمة لما علم من الفرق بين النوع والعين اهـ.
وقال في موضع [2] ءاخر منه: وقال الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي الشافعي في كتابه الذي سماه الفصول سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفراييني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرءان كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافر والقرءان حمله جبريل عليه السلام مسموعًا من الله والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه نحن مقروء بألسنتنا وفيما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا ومقروءًا وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين اهـ.
وقال في المنهاج [3]: “وسابعها قول من يقول إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء بكلام يقوم به وهو متكلم بصوت يسمع وإن نوع الكلام قديم وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديمًا وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة وبالجملة أهل السنة والجماعة أهل الحديث” اهـ.
أقول: فلا يغتر مطالع كتبه بنسبة هذا الرأي الفاسد إلى أئمة أهل السنة وذلك دأبه أن ينسب رأيه الذي يراه ويهواه إلى أئمة أهل السنة وليعلم الناظر في مؤلفاته أن هذا تلبيس وتمويه محض يريد أن يروجه على ضعفاء العقول الذين لا يوفقون بين العقل والنقل وقد قال الموفقون من أهل الحديث وغيرهم إن ما يحيله العقل فلا يصح أن يكون هو شرع الله كما قال ذلك الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي وقال: إن الشرع لا يأتي إلا بمجوزات العقول، وبهذا يردّ الخبر الصحيح الإسناد أي إذا لم يقبل التأويل كما قاله علماء المصطلح في بيان ما يعلم به كون الحديث موضوعًا، وأيّدوا ذلك بأن العقل شاهد الشرع فكيف يرد الشرع بما يكذبه شاهده.
قال الحافظ ابن حجر [4]: قال البيهقي: اختلف الحفاظ في الاحتجاج بروايات ابن عقيل لسوء حفظه، ولم يثبت لفظ الصوت في حديث صحيح عن النبي غير حديثه، فإن كان ثابتًا فإنه يرجع إلى غيره في حديث ابن مسعود [5] وفي حديث أبي هريرة أن الملائكة يسمعون عند حصول الوحي صوتًا، فيحتمل أن يكون الصول للسماء أو للملك الآتي بالوحي أو لأجنحة الملائكة، وإذا احتمل ذلك لم يكن نصًا في المسألة، وأشار –يعني البيهقي- في موضع ءاخر إلى أن الراوي أراد فينادي نداء فعبر عنه بصوت. انتهى.
قال الكوثري في مقالاته [6] ما نصه: ولم يصح في نسبة الصوت إلى الله حديث. أقول: وكذا قال البيهقي في الأسماء والصفات، فليس فيها ما يصح الاحتجاج به لإثبات الصفات لأن حديث الصفات لا يقبل إلا أن يكون رواته كلهم متفق على توثيقهم، وهذه الروايات المذورة في فتح الباري في كتاب التوحيد ليست على هذا الشرط الذي لا بد من حصوله لأحاديث الصفات كما ذكره صاحب الفتح في كتاب العلم. لكنه خالف في موضه بما أورده في كتاب التوحيد من قوله: بعد صحة الأحاديث يتعين القول بإثبات الصوت لله ويؤول على أنه صوت لا يستلزم المخارج. ثم قال وقد أفاض الحافظ أبو الحسن المقدسي شيخ المنذري في رسالة خاصة في تبيين بطلان الروايات في ذلك زيادة على ما يوجبه الدليل العقلي القاضي بتنزيه الله عن حلول الحوادث فيه سبحانه، وإن أجاز ذلك الشيخ الحراني [7] تبعًا لابن ملكا اليهودي الفيلسوف المتمسلم، حتى اجترأ على أن يزعم أن اللفظ حادث شخصًا قديم نوعًا، يعني أن اللفظ صادر منه تعالى بالحرف والصوت فيكون حادثًا حتمًا، لكن ما من لفظ إلا وقبله لفظ صدر منه إلى ما لا أول له فيكون قديمًا بالنوع، ويكون قدمه بهذا الاعتبار في نظر هذا المخرف، تعالى الله عن إفك الأفاكين، ولم يدر المسكين بطلان القول بحلول الحوادث في الله جل شأنه وأن القول بحوادث لا أوّل لها هذيان، لأن الحركة انتقال من حالة إلى حالة، فهي تقتضي بحسب ماهيتها كونها مسبوقة بالغير، والأزل ينافي كونه مسبوقًا بالغير، فوجب أن يكون الجمع بينهما محالًا، ولأنه لا وجود للنوع إلا في ضمن أفراده، فادعاء قدم النوع مع الاعتراف بحدوث الأفراد يكون ظاهر البطلان. وقد أجاد الرد عليه العلامة قاسم في كلامه على المسايرة اهـ.
فلا يصح حملُ ما ورد في النص من النداء المضاف إلى الله تعالى في حديث: “يحشر الله العباد فيناديهم بصوت…” على الصوت على معنى خروجه من الله، فتمسُّكُ المشبهة بالظاهر لاعتقاد ذلك تمويه لا يروج إلا عند سخفاء العقول الذين حُرموا منفعة العقل الذي جعل الشرع له اعتبارًا، وهل عُرِفت المعجزة أنها دليل على صحة نبوة من أتى بها من الأنبياء إلا بالعقل؟
وقال –أي الكوثري- في تعليقه على السيف الصقيل ما نصه [8]: وحديث جابر المعلق في صحيح البخاري مع ضعفه في سياق ما بعده من حديث أبي سعيد ما يدل على أن المنادى غير الله حيث يقول [… فينادى بصوت إن الله يأمرك…] فيكون الإسناد مجازيًا، على أن الناظم –يعني ابن زفيل وهو ابن قيم الجوزية- ساق في [حادي الأرواح] بطريق الدارقطني حديثًا فيه: “يبعث الله يوم القيامة مناديًا بصوت…” وهذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم على أن الإسناد في الحديث السابق مجازي، وهكذا يخرب الناظم بيته بيده وبأيدي المسلمين، وللحافظ أبي الحسن المقدسي جزء في تبيين وجوه الضعف في أحاديث الصوت فليراجع ثمة اهـ.
فإذا قال قائل إن بعض اللغويين قال: النداء الصوت، قلنا ليس مراد من قال ذلك أن النداء لا يكون في لغة العرب في جميع الموارد إلى بالصوت، وإنما المراد أنه في غالب الاستعمال يكون بالصوت، وقد قال ءاخرون من اللغويين: النداء طلب الإقبال، فليعلم المغفلون الآن ما جهلوه من أن قول السلف عند ذكر تلك الآيات وتلك الأحاديث بلا كيف معناه ليس على ما يفهمه الناس من صفات المخلوقين، ولو كان يصح أن يكون قول الله تعالى: {وجاءَ ربُّكَ} [سورة الفجر/22] المجيء المعهود من الخلق ما قال الإمام أحمد في هذه الآية: {وجاء ربك}: إنما جاءت قدرته.
الهوامش:
[1] انظر الكتاب [ص/51].
[2] انظر الكتاب [ص/54].
[3] انظر المنهاج [1/221].
[4] انظر فتح الباري [13/458].
[5] يعني به قوله: “إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئًا، فإذا فزّع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق” –رواه البخاري- وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، قال علي وقال غيره صفوان ينفذهم لك، فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير” رواه البخاري.
[6] انظر المقالات [ص/32].
[7] يعني ابن تيمية، نسبة إلى حران.
[8] انظر الكتاب [ص/52].