صِلَةُ الأَرْحَامِ
قَالَ الإِمَامُ الهَرَرِيُّ t: «الحَمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ لهُ النّعمةُ ولهُ الفضلُ لهُ الثناءُ الحَسنُ، صَلواتُ اللهِ البرّ الرّحيمِ والملائِكَةِ المقرّبين على سيِّدِنا محمّدٍ أشرفِ المرسَلينَ».
أمّا بَعدُ: اعلمْ رَحِمَكَ اللهُ أنَّ قطيعةً الرَّحمِ مِنَ الكبائِرِ بالإجماعِ وهي مِن معاصي البَدَنِ وهي تحصُلُ بإيحاشِ قلوبِ الأرحامِ وتنفيرِها، إمّا بتركِ الإحسانِ بالمالِ في حالِ الحاجَةِ النّازِلَةِ بهِم أو تركِ الزّيارَةِ بلا عُذرٍ، والعُذرُ كأنْ يَفقِدَ ما كانَ يَصِلُهُم بهِ منَ المالِ، أو يَجِدَهُ لَكِنَّهُ يَحتاجُهُ لِما هُو أَوْلَى بِصَرْفِهِ فِيهِ مِنْهُمْ.
والْمُرَادُ بالرَّحِمِ الأقارِبُ كَالجدّاتِ والأجْدَادِ والخَالَاتِ والعَمَّاتِ وأَوْلَادِهِم والأخْوَالِ والأعمامِ وأَوْلَادِهِم.
قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَيْسَ الوَاصلُ بالمكافِئ ولكنَّ الواصِلَ مَن وَصلَ رَحِمَهُ إذا قطَعَت» راوهُ البُخاريُّ والتِرمِذيُّ وقالَ حديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ. ورَواهُ أبو دَاودَ وأحمَدُ.
فَفِي هَذَا الحَدِيثِ إيذانٌ بِأنَّ صِلةَ الرَّجُلِ رَحِمَهُ التي لا تَصِلُهُ أفضَلُ مِن صِلَتِهِ رَحِمَهُ التي تصِلُهُ؛ لأنَّ ذلِكَ مِن حُسْنِ الخُلقِ الذي حَضَّ الشرعُ عَليهِ حضًّا بالِغًا.
وقطيعةُ الرَّحِمِ تكونُ بَأن يؤذيَهُم أو لا يَزورَهُم فتستوحِشَ قلوبُهُم مِنهُ، أو هُم فقراءُ مُحتاجونَ وهُو مَعَهُ مالٌ زائِدٌ عَ، حاجَتِهِ ويَسْتَطِيعُ مُساعدتَهُم وَمَعَ ذلِكَ يَترُكُهُم.
قالَ اللهُ تعالى: {واتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [سورة النساء: 1]، أيْ: واتقوا الأرحامَ أنْ تَقْطَعُوهَا.
وقالَ I: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الْأَرضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وأَعْمَى أَبْصارَهُمْ} [سورة محمد: 22، 23].
وروى الطبرانِيُّ والبزّارُ أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ قالَ: «مَن كانَ يؤمِنَ باللهِ واليومِ الآخِرِ فليصلْ رَحِمَهُ». وَرَوَى البُخارِيُّ مِن حَديثِ أبي هُرَيْرَة t قالَ: قالَ رَسولُ الله ﷺ: «مَنْ أَحَبَّ أنْ يُبسَطَ لَهُ في رِزِقِهِ وأن يُنسَأَ لهُ في أثَرِهِ فليصِلْ رَحِمَهُ» ورَوى البُخاريُّ ومُسلِمٌ مِن حَديثِ جُبيرِ بْنِ مُطعِمٍ t قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: «لَا يَدخُلُ الجَنَّةَ قاطعٌ»، يَعني: قَاطِعَ رَحِمٍ، أي: لا يَدْخُلُها مَعَ الأوَّلِينَ.
واعْلَمْ أنَّ رَحِمَكَ إنْ كانَ بِحيثُ تستطيعُ أنْ تزورَهُ فلا بُدَّ أنْ تزورَهُ ولا يَكفي أنْ ترسِلَ السَّلامَ إليهِ مِن غيرِ أنْ تزورَهُ، إنّما لِوقتٍ مِنَ الزَّمَنِ يَكفي إرسالُ السَّلامِ لهُ، أمَّا أنْ يَظَلَّ هُوَ وإيَّاهُ في بَلدٍ واحِدٍ ثُمَّ لا يَزورُهُ في السَّنَةِ ولا في السَّنَتينِ ولا في الثلاثِ سَنواتٍ مَع إمكانِهِ أنْ يَزورَهُ فهذا قطيعَةُ الرَّحِمِ.
أمّا إن كانَ ذلِكَ الرَّحِمُ لا يُحِبُّ دُخُولَ هذا القريبِ ببيتَهُ ولا يَرضى وكانَ هذا القريبُ يَعلمُ أنَّهُ لا يَرضى ليسَ عَليهِ أنْ يَدْخُلَ؛ لأنَّهُ لا يَرضى، سَقطَ عَنهُ، لكِن بَقِيَ أنْ يُرسِلَ إليهِ السَّلامَ أو يُرسِلَ إليهِ مَكتوبًا.
وأمّا إنْ كانَ رَحِمُهُ هَذا يُحِبُّ دُخُولَهُ بيتَهُ وقُعُودَهُ عِنْدَهُ فلا يَكفي إرسالُ السَّلامِ للمُدَّةِ الطّويلةِ، أمّا للمُدَّةِ القصِيرَةِ فيَكفي، أمّا في بَيروتَ إذا زارَ القريبُ قريبَهُ في أحَدِ الْعِيدَينِ لا يُعْتَبَرُ ذلِكَ قَطيعةً، لأنَّهُ في بيروتَ إذا زارَ القريبُ قريبَهُ مَرَّةً في السَّنَةِ وزارَهُ في الأفْرَاحِ والأحزانِ لا يَعتبرونَ ذلِكَ قطيعَةً، هذا في حالِ لم يَكُنْ للشّخْصِ عُذرٌ، أمّا إنْ كانَ لهُ عُذرٌ كَأنْ كانَ في بَلدٍ بَعيدةٍ ولا يَسهُلُ عَليهِ أنْ يَذهَبَ لِزِيارَةِ أقرِبائِهِ لو غابَ مَثلاً خَمسَ سِنينَ وهُو يُرِسِلُ لهُم سلامًا مِن وَقتٍ إلى وَقتٍ ما عَليهِ شيءٌ.
ومِنَ الأعذارِ في عَدَمِ زِيارَةِ الرَّحِمِ أنْ يَكونَ سَمِعَ مِن قريبِهِ هذا رِدَّةً كَسَبّ اللهِ أو الأنبياءِ أو الملائِكَةِ أو الاستهزاءِ بِالقرءانِ وما أشبَهَ ذَلِكَ، فإِنَّ هذا لا صِلةَ لهُ.
وكذا يَجوزُ لهُ قَطعُهُ إنْ كانَ فاسِقًا يَشرَبُ الخَمَرَ أو يَترُكُ الصَّلاةَ أو يَزني وما أشبه ذلِكَ ولكِن هذا لا يَقطَعُهُ إلَّا بَعدَ إعلامِهِ بالسَّبَبِ لِيَزجُرَهُ عَن مِثلِ هذِهِ الأفعالِ.
قالَ اللهُ تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [سورة الرعد: 25].
ورَوى البُخارِيُّ مِن حَديثِ أنَسِ بنِ مالِكٍ t: «مَن أحَبَّ أن يُبْسَطَ له في رزقه وأن يُنسَأ لَهُ في أثَرِهِ فليصِلْ رَحِمَهُ» قولُهُ: «وأنْ يُنْسَأ لَهُ في أثَرِهِ»، مَعناهُ: أنْ يُطّوَّلَ عُمُرُهُ مِن حيثُ المعنى، الذي يُوَفَّقُ للخَيرات في مَعنى كانَّهُ زيدَ في عُمُرِهِ.
وأخْرَجَ القَضَاعِيُّ في مُسْنَدِهِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «صِلَةُ الرَّحِمِ تزيدُ في العُمُرِ»، يَعني: كانَ في عِلم اللهِ تعالى أنَّهُ لولا هذِهِ الصِّلَةُ كانَ عُمُرُهُ كذا، ولكنَّهُ عَلِمَ تعالى بِعلمِهِ الأزَلِيِّ أنَّهُ يَصِلُ رَحِمَهُ فيَكونُ عُمُرُهُ أزيَدَ مِن ذلِكَ بِمشيئَة اللهِ، فيَكونُ الـمَعْلُومُ الْمَحْكُومُ أنَّهُ يَصِلُ رَحِمَهُ ويَعِيشُ إلى هذِهِ الْمُدَّةِ.
ورَى البَيهَقِيُّ في كِتابِ القضاءِ والقدرِ مِن حديثِ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ t قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: «مَن سَرَّهُ أن يَمُدَّ اللهُ في عُمُرِهِ ويُوسِعَ لهُ رِزقَهُ ويَدفَعَ عَنهُ مِيتةَ السُّوءِ فليتّقِ اللهَ وليَصِلْ رَحِمَهُ».
وقطيعةُ الرَّحِمِ مِن أسبابِ تَعجيلِ العَذابِ في الدُّنيا قبلَ الآخِرَةِ، فقدْ روى أحمدُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ: «ما مِن ذَنبٍ أجدَرُ بِأنْ يُعجَّلَ لِصاحِبِهِ العقوبةُ في الدُّنيا مَع ما يَنتظِرُهُ في الآخِرَةِ مِن البَغْيِ وقطيعَةِ الرحمِ» والبَغْيُ، مَعْناهُ: الاعتدَاءُ على النّاس.