مرسوم ابن قلاوون في ابن تيمية:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي تنزّه عن الشبيه والنظير وتعالى عن المثل فقال عز وجل: {ليسَ كمثله شيءٌ وهو السميعُ البصير} [سورة الشورى/11]، وأحمده على أن الهمنا العمل بالسنة والكتاب، ورفع في أيامنا أسباب الشك والارتياب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير، وينزه خالقه عن التحيّز في جهة لقوله تعالى: {وهوَ معكُم أينَ ما كُنتم واللهُ بما تعملونَ بصيرٌ} [سورة الحديد/4] وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي نهج سبيل النجاة لمن سلك سبيل مرضاته، وأمر بالتفكّر في ءالاء الله ونهى عن التفكر في ذاته، صلى الله عليه وعلى ءاله وأصحابه الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع، وشيّد الله بهم من قواعد الدين الحنيف ما شرع، وأخمد بهم كلمة من حاد عن الحق ومال إلى البدع.
وبعد، فإن العقائد الشرعية وقواعد الإسلام المرعية وأركان الإيمان العلية ومذاهب الدين المرضية، هي الأساس الذي يبنى عليه [والموئل] [1] الذي يرجع كل أحد إليه، والطريق التي من سلكها فقد فاز فوزًا عظيمًا، ومن حاد عنها فقد استوجب عذابًا أليمًا، فلهذا يجب أن تنفذ أحكامها، ويؤكد دوامها، وتُصان عقائد الملة عن الاختلاف، وتزان قواعد الائمة بالائتلاف، وتخمد ثوائر البدع، ويفرق من فِرَقها ما اجتمع.
وكان ابن تيمية في هذه المدة قد بسط لسان قلمه، ومدّ [بجهله] عنان كلمه، وتحدث في مسائل الذات والصفات، ونصَّ في كلامه [الفاسد] على أمور منكرات، وتكلم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما اجتنبه الأئمة الأعلام الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الإسلام، وانعقد على خلافه إجماع العلماء والحكام، وشهر من فتاويه في البلاد ما استخفّ به عقول العوام، وخالف في ذلك فقهاء عصره، وعلماء شامه ومصره، وبعث برسائله إلى كل مكان، وسمى فتاويه بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.
ولما اتصل بنا ذلك وما سلكه المريدون له من هذه المسالك الخبيثة وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنه استخفَّ بالحرف والصوت [والتشبيه] والتجسيم، قمنا في الله تعالى مشفقين من هذا النبإ العظيم، وأنكرنا هذه البدعة، وعزّ علينا أن تشيع عمّن تضمّه ممالكنا هذه السمعة. وكرهنا ما فاه به المبطلون، وتلونا قوله تعالى: {سبحانَ اللهِ عمَّا يَصِفون} [سورة المؤمنون/91]، فإنه [سبحانه وتعالى] تنزّه في ذاته وصفاته عن العديل والنظير: {لا تُدركُهُ الأبصار وهوَ يُدرِكُ الأبصارَ وهوَ اللطيفُ الخبيرُ} [سورة الأنعام/103]، فتقدمت مراسيمنا باستدعاء [ابن تيمية] المذكور إلى أبوابنا العالية عندما سارت فتاويه [الباطلة] في شامنا ومصرنا، وصرّح فيها بألفاظ ما سمعها ذو لبّ إلا وتلا قوله تعالى: {لقد جِئتَ شيئًا نكرًا} [سورة الكهف/74].
ولما وصل إلينا تقدمنا إلى أولي العقد والحل، وذوي التحقيق والنقل، وحضر قضاة الإسلام، وحكام الأنام، وعلماء الدين، وفقهاء المسلمين، وعقد له مجلس شرعي في ملأ وجمع من الأئمة، [ومن له دراية في مجال النظر ودفع] فثبت عندهم جميع ما نسب إليه، [بقول من يعتمد ويعول عليه]، وبمقتضى خط قلمه الدال على منكر معتقده، وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته الخبيثة منكرون، وءاخذوه بما شهد به قلمه تالين: {ستُكتَبُ شهادَتُهُم ويُسئلون} [سورة الزخرف/19]، ونقل إلينا أنه كان استتيب مرارًا فيما تقدم، واخره الشرع الشريف لما تعرّض لذلك وأقدم، ثم عاد بعد منعه، ولم تدخل تلك النواهي في سمعه.
وصح ذلك في مجلس الحاكم العزيز المالكي حكم الشرع الشريف أن يسجن هذا المذكور وأن يمنع من التصرف والظهور، ويكتب مرسومنا هذا بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن [التشبيه في] اعتقاد مثل ذلك، أو يعود له في هذا القول متبعًا، أو لهذه الألفاظ مستمعًا، أو يسري في التشبيه مسراه، أو أن يفوه بجهة العلو بما فاه، أو أن يتحدث أحد بحرف أو صوت، أو يفوه بذلك إلى الموت، أو يتفوه بتجسيم، أو ينطق بلفظ في ذلك غير مستقيم، أو خرج عن رأي الأئمة، أو ينفرد به عن علماء الأمة، أو يُحيز الله سبحانه وتعالى في جهة أو يتعرض إلى حيث وكيف، فليس لمعتقد هذا إلا السيف.
فليقف كل واحد عند هذا الحد، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وليلزم كل من الحنابلة بالرجوع عن هذه العقيدة، والخروج عن الشبهات الزائغة الشديدة، ولزوم ما أمر الله تعالى به من التمسك بمذاهب أهل الإيمان الحميدة، فإنه من خرج عن أمر الله فقد ضلّ سواء السبيل، ومثل هذا ليس له إلا التنكيل، والسجن الطويل مستقرّه ومقيله وبئس المقيل.
[وقد رسمنا بأن ينادى في دمشق المحروسة والبلاد الشامية، وتلك الجهات الدانية والقاصية بالنهي الشديد والتخويف والتهديد لمن اتبع ابن تيمية في هذا الأمر الذي أوضحناه، ومن تابعه تركناه في مثل مكانه وأحللناه، ووضعناه من عيون الأمة كما وضعناه] ومن أصرّ على الامتناع وأبى إلا الدفاع، أمرنا بإسقاطهم من [مدارسهم] ومناصبهم، ووضعهم من مراتبهم مع إهانتهم، وأن لا يكون لهم في بلادنا قضاء ولا حكم ولا ولاية ولا تدريس ولا شهادة ولا إمامة بل ولا مرتبة ولا إقامة، فإنّا أزلنا دعوة هذا الرجل من البلاد، وأبطلنا هذه العقيدة التي أضلّ بها كثيرًا من العباد أو كاد [بل كم أضلّ بها من خلق وعاثوا بها في الأرض الفساد، ولتثبت المحاضر الشرعية على الحنابلة بالرجوع عن ذلك وتسير المحاضر بعد إثباتها على قضاء المالكية]، وقد أعذرنا وحذرنا وأنصفنا حيث أنذرنا، وليقرأ مرسومنا هذا على المنابر، ليكون أبلغ واعظ وزاجر، وأعدل ناه وءامر إن شاء الله تعالى. والحمد لله وحده وصلواته على نبينا محمد وءاله وصحبه وسلم. والاعتماد على الخط الشريف أعلاه. وكتب ثامن عشري شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة اهـ.
وهذه المراسيم الصادرة في حقه بعد محاكمته أمام جماعة من كبار العلماء في عصره مسجلة في كتب التاريخ مثل: عيون التواريخ، ونجم المهتدي، ودفع شبه من شبّه وتمرد وغيرها.
وذكر الصفدي من مؤلفات ابن تيمية كثيرًا منها: مؤاخذته لابن حزم في الإجماع، ومنها قاعدة في تفضيل الإمام أحمد، والقادرية وكتاب في بقاء الجنة والنار وفنائهما وقد ردّ عليه قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وجواز طواف الحائض وكراهية التلفظ بالنية وتحريم الجهر بها، وقتل تارك أحد المباني وكفره، وتحريم السماع، وتحريم الشطرنج، وتحريم الحشيشة ووجوب الحدّ فيها ونجاستها، وكتاب الحلف بالطلاق من الايمان حقيقة، قاعدة في فضل معاوية وفي ابنه يزيد أنه لا يسبّ، وكشف حال المشايخ الاحمدية وأحوالهم الشيطانية، وشرح حديث النزول، وذكر الصفدي أن له تأليفًا في جواز قتال الرافضة.
ثم قال الصفدي في ءاخر ترجمته: وعلى الجملة فكان الشيخ تقي الدين بن تيمية أحد الذين عاصرتهم ولم يكن في الظمان مثلهم بل ولا قبل مائة سنة وهم: الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ ابن دقيق العيد، وشيخنا العلامة تقي الدين السبكي، وقال الصفدي وممن مدحه بمصر أيضًا شيخنا العلامة أبو حيان لكنه انحرف عنه فيما بعد ومات وهو على انحرافه، ولذلك أسباب منها أنه قال له يومًا: كذا قال سيبويه، فقال: يكذب سيبويه، فانحرف عنه، وقد كان أولًا جاء إليه والمجلس عنده غاصّ بالناس فقال يمدحه ارتجالًا:
لمّا أتينا تقيَ الدين لاح لنا *** داعٍ إلى الله فرْدٌ ما له وَزَرُ
على مُحيَّاه من سيما الأولى صحبوا *** خير البرية نورٌ دونهُ القمرُ
حَبْرٌ تسربل منه دهرهُ حبرًا *** بحرٌ تقاذفُ من أمواجهِ الدررُ
قام ابن تيمية في نصرِ شِرعتنا *** مقامَ سيد تيم إذ عصت مضرُ
فأظهر الحق إذا ءاثاره درست *** وأخمد الشر إذا طارت له الشررُ
كنّا نحدثُ عن حَبر يجيءُ فها *** أنتَ الإمام الذي قد كان ينتظرُ
وأشار بقوله لأسباب، ما ذكره المحدث الحافظ شارح القاموس اطلع –أي ابن حيان- على كتاب له سماه كتاب العرش ذكر فيه أن الله يقعد النبي في الآخرة على الكرسي بجنبه وقال إنه صار يلعنه إلى أن مات، وهذا يؤيد وصف الذهبي له في بيان زغل العلم والطلب بالكبر وازدراء الأكابر وفرط الغرام في رئاسة المشيخة ومعلوم أن الكبر من الكبائر يفسق فاعله.
الهوامش:
1- ما كان بين العاقفتين فهو من نسخة أخرى.