الأحد ديسمبر 7, 2025

العناوين الداخلية:

  • الحسنات يذهبن السيئات.
  • صحة العقيدة والإخلاص في العمل.
  • الأشاعرة على عقيدة الصحابة.
  • تعالى الله عن الحدود أي الأحجام.
  • من معاني “ثم”.
  • من معاني التفكير المطلوب.

الحسنات يذهبن السيئات:

قال الإمام الحافظ عبد الله الهرريّ رحمه الله تعالى ونفعنا به:

الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن صلوات الله البرّ الرّحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى آله الطّيبيين الطّاهرين أما بعد:

فقد قال الله تعالى: } إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ{([1])، جاءت أحاديث صحيحة عن رسول الله ﷺ في شرح معنى الآية، فمن ذلك ما رواه مسلم في الصحيح([2]) أن نبيّ الله ﷺ قال: «أيعجز أحدكم أن يكسب في اليوم ألف حسنة؟ يسبّح الله تعالى مائة تسبيحة فيكتب له بهنّ ألف حسنة، ويمحى عنه بهنّ ألف خطيئة”، في هذا الحديث بيان أن الحسنة الواحدة تمحو عشرة من السيئات، هذا أقل ما يكون، وقد تمحو الحسنة الواحدة أكثر من ذلك من السّيئات، بيان ذلك أن رسول الله عليه الصلاة والسلام أخبر بأن المائة تسبيحة يكون ثوابها ألفاً من الحسنات. وزيادة على ذلك، أخبر بأنه يمحى عن قائل هذه المائة تسبيحة ألف خطيئة أي معصية، ولم يقيد رسول الله ﷺ هذه الخطيئة بأنها من الصغائر، فنقول يجوز أن يمحو الله بالحسنة من الحسنات بعض الكبائر، وإن كان ورد في فضل الصلوات الخمس أن تمحى عنه وتكفر عنه بها ما سوى الكبائر إن لم يغش الكبائر، ولكن هذا ليس مطرداً فيما سوى الصلوات الخمس، فقد ثبت بالإسناد الصحيح([3])  أنّ من قال: “استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه، يغفر وإن كان قد فرّ من الزحف” والفرار من الزّحف من أكبر الكبائر، فإذا كان بهذه الكلمة من الاستغفار يمحى من الكبار ما شاء الله تعالى فلا مانع من أن يمحى بالتسبيح ونحوه بعض الكبائر.

والحديث الثاني حديث: “من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه يغفر له وإن كان قد فرّ من الزحف” رواه أبو داود في سننه، وهو حديث حسن الإسناد حسنه الحافظ ابن حجر في الأمالي، هذه الرواية التي حكم لها بالحسن ليس فيها التقييد بثلاث مرات([4]) ، وبأن يكون ذلك عقب صلاة الفجر، بل هي مطلقة، أي وقت قال هذا الاستغفار: “أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه” غفر له ذنوبه وإن كان قد ارتكب بعض الكبائر. ثم اللفظ يقرأ على وجهين يقرأ بالرفع “الحيّ اليوم” ويقرأ بالنّصب “الحيّ القيّوم” كل ذلك جائز عند علماء النحو.

 

صحّة العقيدة والإخلاص في العمل:

الحافظ ابن حجر ذكر أنّ هذا الاستغفار يمحى به من الكبائر ما ليس من تبعات الناس أي من مظالم الناس، أي أن المظالم لا تدخل تحت هذا الحديث، ثم كل هذا شرطه أن تكون هناك نية شرعية وهي أن يقصد بهذا التسبيح التقرب إلى الله، وليس فيه رياء أي أن يمدحه الناس، إنما قصده خالص للتقرب إلى الله وهكذا كل الحسنات: قراءة القرآن، والصلاة والصيام والحج والزكاة، وبر الوالدين والإنفاق على الأهل، وصلة الرحم إلى غير ذلك من الحسنات، لا ثواب فيها إلا بالنية، والنية هي أن يقول بقلبه: “أفعل هذا تقربّاً إلى الله وابتغاء مرضاة الله” أو “ابتغاء الأجر من الله”، لكن بشرط أن لا يضم إلى ذلك قصد مدح الناس له وذكرهم له بالثناء الجميل، إنما قصده أنه يتقرب إلى الله بهذه الحسنة، بهذا التسبيح أو بهذه القراءة للقرآن، أو بهذه الصدقة، أو بفرائضه التي يفعلها كالصلاة والحج والزكاة.

كل هذه الحسنات إذا اقترنت بها نية صحيحة خالصة لله تعالى لم يقترن بها رياء فلفاعلها الثواب الجزيل، أي أن كل حسنة تكتب عشر أمثالها([5]) على الأقل وقد يزيد الله لمن شاء ما شاء من المضاعفات، ثم هناك شرط لا بد منه وهو صحة العقيدة، صحة العقيدة شرط للثواب على الأعمال فلا ثواب على الأعمال بدون صحة العقيدة.

 

الأشاعرة على عقيدة الصحابة:

معنى صحة العقيدة أن يكون عارفاً بالله ورسوله كما يجب، ليس مجرد التلفظ بكلمة التوحيد، بل الأصل الذي هو لا بد منه للنجاة من النار في الآخرة ولحصول الثواب على العمال، هو معرفة الله كما يجب ومعرفة رسوله، ثم بعد ذلك الثبات على الإسلام أي تجنب الكفريات القولية والفعلية والاعتقادية، فمن ثبت على هذا إلى الممات كانت كل حسنة يعملها على هذا الوجه مقبولة، فيكون من الفائزين الناجحين المفلحين. معنى صحة العقدية هو أن يكون على ما كان عليه أصحاب رسول الله والتابعون وأتباع التابعين ومن تبعهم، على تلك العقدية التي هي مأخوذة عن الرسول، تلقوها عن الرسول، ثم تلقاها التابعون من الصحابة، ثم تلقاها المسلمون جيلاً عن جيل.

وهذه العقدية إلى يومنا هذا موجودة، وإن انحرف عنها بعض الفئات، هذه العقيدة التي كان عليها الصحابة ومن تبعهم بإحسان هي الأشعرية الماتريدية. واليوم أهل السنة إن لم نقل كلهم أغلبهم أشعرية، كان في الماضي الماتريدية في نواحي بلاد بخاري، وسمرقند وطشقند، وجرجان ونيسابور من بلاد فارس. لكنّ اليوم كأن الأشعرية عمت. والأشعرية والماتريدية هم أهل السنة والجماعة فعقيدتهم منبثقة من قول الله تعالى: } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{([6])، عرفوا معنى هذه الآية كما يجب، فنزّهوا الله تعالى عن صفات المخلوقين، وعن التحيز في المكان، وعن الحد أي المساحة، لأنه لا تصح معرفة الله مع اعتقاد أنه يشبه خلقه ببعض صفاتهم كالتحيّز في المكان، أو التحيّز في العرش أو في غير العرش، أو التحيّز في جميع الأماكن، كل هذا ضد هذه الآية: : } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{ . فخلاصة عقيدة أهل الحق: أن الله موجود لا كالموجودات، أي لا يشبه الموجودات بوجه من الوجوه،  السلف الصالحون كانوا على هذه العقيدة أي تنزيه الله عن التحيز في المكان والحد، الدليل على ذلك أن الإمام زين العابدين عليّ ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان من أوائل السلف، له رسالة تسمى “الصحيفة السجادية” ذكر فيها عبارات في التنزيه منها هذه الجملة([7]): “سبحانك أنت الله الذي لا يحويك مكان”، في هذه الصحيفة التي هي تأليف سيدنا زين العابدين: “سبحانك أنت الله الذي لا يحويك مكان”، احفظوها فإنها من كلام السلف الصالح. كان زيد العابدين رضي الله عنه يقال عنه أفضل قرشيّ في ذلك الوقت، أفضل أهل البيت، وقال أيضاً في نفي الحد عن الله: “سبحانك أنت الذي لست بمحدود”، وذلك أن المحدود يحتاج إلى من حدّه.

تعالى الله عن الحدود أي الأحجام:

الله تبارك وتعالى ليس له مساحة، ليس بقدر العرش ولا أوسع منه ولا أصغر من العرش. من اعتقد أن الله بقدر العرش فهو جاهل بالله، ومن اعتقد أنه أوسع منه مساحة فهو جاهل بالله، ومن اعتقد أنه أصغر من العرش فهو أشد جهلاً وبعداً عن الله، ثم الإمام أبو جعفر الطّحاوي- الذي عاش في القرن الثالث الهجريّ عشرات من السنين نحو سبعين سنة، ثم أدرك من القرن الذي يليه القرن الرابع الهجري نحو عشرين سنة ونيفاً، هذا ألّف كتاباً سماه “بيان عقيدة أهل السنة والجماعة” التي كان عليها أبو حنيفة الذي توفى سنة مائة وخمسين وصاحباه اللذان توفيا بعده بعشرات من السنين في القرن الثاني الهجريّ: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، ومحمد بن الحسن وهم من أئمة أهل الاجتهاد، ومن سواهم ذكر أن أهل السنة هؤلاء الثلاثة من الأئمة وغيرهم على عقيدة: أن الله ليس بمحدود ولا متحيزاً في الجهات، لا في الجهة العليا ولا في الجهة التحتية، ولا في جهة اليمين ولا في جهة اليسار، ولا في جهة الخلف ولا في جهة الأمام- قال: “تعالى عن الحدود”، الله تعالى منزّه عن الحدود أي ليس بمحدود، العرش محدود، لكن  نحن لا نعرف حده لكن هو في حد ذاته محدود، له حد يعلمه الله، فالله تبارك وتعالى ليس بمحدود، لا يجوز أن نقول: “له حد يعلمه هو!”، ولا يجوز أن يقال: “له حد يعلمه هو ونعلمه نحن!” كلا ذلك باطل. الحق أن ينفى عنه الحد وذلك لأن الذي له حدّ يحتاج إلى من جعله على ذلك الحد، هذه الشمس نحن لنا دليل عقليّ غير الدليل القرآني أنها لا تصلح أن تكون إلهاً للعالم، وذلك لأن لها حداً فلها خالق جعلها على هذا الحد، والله تبارك وتعالى لو كان له حدّ لاحتاج إلى من جعله على ذلك الحد، كما تحتاج الشمس إلى من جعلها على ذلك الحد الذي هي عليه، فقد ظهر لكم أن السلف كانوا ينفون عن الله الحد والجهة أي التّحيّز في جهةٍ من الجهات السّتّ أو في جميعها وسائر أوصاف الخلق. إنّ الله منزّهٌ عن ذلك، وكل هذا مما تعطيه هذه الآية: } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{، لكنّ القلوب مختلفة، قلوب تفهم من هذه الآية هذه المعاني، وقلوب لا تفهم تقرأها ألسنتها ولا تفهم ما تحويه من التّنزيه، هذا ما كان عليه أهل السنة، ليس مذهب أهل السنة تشبيه الله بخلقه بأن يعتقد فيه أن له أعضاء، وأن يعتقد فيه أنه متحيّز على العرش، مع أنه منفي عنه ما كان من صفات الخلق من غير ذلك كالنّزول من علوّ إلى سفل ثمّ الرّجوع إلى هناك.

 

من معاني “ثم”:

بعض الجاهلين بالحقائق يظنون أن قول الله تعالى: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ }([8])، يظنون أن هذه الاية معناها أن الله نزل من العرش الذي هو مستقره إلى أسفل، فهيّأ السموات والأرض ثم صعد بعد ذلك،  هذا جهل قبيحٌ بالقرآن، إنّما معنى الآية: أن الله تبارك وتعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان مستوياً على العرش، أي قاهراً للعرش قبل وجود السموات والأرض، وعلى زعمهم كلمة “ثمّ” لا تأتي إلاّ بعد تأخّر حصول شيء عن شيء وهذا جهل باللغة. “ثم” تأتي بمعنى الواو، كلمة “ثم” تأتي مرادفة للواو، كما تأتي للدلالة على أنّ ما بعدها وجوده متأخر عن وجود ما قبلها، كما تأتي لهذا المعنى معنى التأخر، تأتي لمعنى الجمع بين شيئين، بمعنى الإخبار باجتماع شيئين في الوجود من غير دلالة على تأخّر ما بعدها عن ما قبلها، هذا أثبته علماء اللغة منهم الفرّاء، قال: “ثم تأتي بمعنى الواو”، ثم على ذلك شاهد من القرآن وشاهد من شعر العرب القدماء الفصحاء الذين كانوا يتكلمون باللغة العربية عن سليقة وطبيعة من غير أن يدرسوا النّحو، قال أحدهم:

إنّ من ساد ثمّ ساد أبوه

 

ثمّ قد ساد قبل ذلك جدّه

هل يصحّ أن تفسّر “ثم” هنا أنها تدلّ على تأخّر ما بعدها عن ما قبلها في الوجود؟ لا تدل، كذلك في هذه الآية: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ } لا تدلّ “ثمّ على أن الله تعالى خلق السموات والأرض ثم بعد أن وجدت السموات والأرض صعد إلى العرش وجلس عليه كما يزعم المشبّهة الذين حرموا من فهم الدّلائل العقليّة، العقل له اعتبار في الشرع، لذلك أمر الله بالتفكر في أكثر من آية.

 

من معاني التفكر المطلوب:

والتّفكر هو النّظر العقليّ هؤلاء حرموا من معرفة الدلائل العقلية التي يعرف بها ما يصحّ وما لا يصحّ، مثال لذلك يبيّن سخافة هؤلاء الذين يعتقدون في الله التّحيّز في المكان والحد والمساحة هو أنهم يفسرون حديث([9]): “ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا في النصف الأخير” وفي لفظ([10]): “في الثلث الأخير، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ وهل من مستغفر فأغفر له؟ وهل من سائل فأعطيه؟ حتى ينفجر الفجر” وهو حديث صحيح إسناداً. ظاهر هذا الحديث على زعم هؤلاء الذين تمسكوا بظاهر هذا الحديث أن الله يبقى في الثلث الأخير من الليل إلى الفجر وهو يقول هذا الكلام، فهمهم هذا دليل على سخافة عقولهم، وذلك لأن الليل يختلف باختلاف البلاد، فالليل في أرض نهار في أرض أخرى، ونصف الليل في أرض أول النهار في أرض، إلى غير ذلك من الاختلافات، فعلى قولهم يلزم أن يكون الله تبارك وتعالى في السماء الدنيا طالعاً منها إلى العرش في كل لحظة من لحظات الليل والنهار هذه سخافة عقل. وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.

 

 

([1] ) هود، 114.

([2] ) صحيح مسلم، مسلم، 8/71، رقم 7027، ولفظه: “عن مصعب بن سعد قال: حدثني أبي قال: كنا عند رسول الله ﷺ ، فقال: “أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟” فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: “يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، أو يحظ عنه ألف خطيئة”.

([3] ) سنن أبي داود، أبو داود، 1/560، رقم 1519.

([4] ) المعجم الكبير، الطبراني، 7/500، رقم 8463. ولفظه: “لا يقول رجل: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، ثلاث مرات، إلا غفر له وإن كان فرّ من الزحف”.

([5] ) سنن ابن ماجه، ابن ماجة، 2/577، رقم 1638، واللفظ: “كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعيف، إلى ما شاء الله”.

([6] ) الشورى: 11.

([7] ) رواه الحافظ محمد مرتضى الزبيدي. في “إتحاف السادة المتقين”، ولفظه: “سبحانك أنت الله لا إله إلا أنت، لا يحويك مكان، لا تحس ولا تمس ولا تجس”.

([8] ) الأعراف، 54.

([9] ) سنن أبي داود، أبو داود، 4/376، رقم 4735، ولفظه: “ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له”.

([10] ) صحيح مسلم، مسلم 2/176، رقم 1813، ولفظه: “إن الله يمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول نزل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من داع؟ حتى ينفجر الفجر”.

المعجم الكبير، الطبراني، 4/436، رقم 4428، ولفظه: “إذا مضى نصف الليل، أو قال: ثلث الليل، ينزل الله عزّ وجل إلى السماء الدنيا، فيقول: من هذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ من هذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من هذا الذي يسألني فأعطيه؟ حتى ينفجر الفجر”.