ورد حديث ظاهره أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات حقيقية، وهو من المتشابه الذي له تأويل إن صح الحديث، وإلا فقد رده بعض العلماء ولم يثبته، وأوله بعضهم كالرازي([1]) وابن حجر([2]) وغيرهما([3]). فظهر بذلك أن للعلماء في ذلك مسلكين ولم يقل أحد من أئمة أهل السنة والجماعة بثبوت الكذب حقيقة على سيدنا إبراهيم ولا على غيره من الأنبياء.
فما يقوله بعض الجهال بفهمهم المخالف للحديث: إن سيدنا إبراهيم كذب ثلاث كذبات حقيقية وهو يخاف منها يوم القيامة، هو باطل، كيف هذا والأنبياء معصومون من الكذب؟ متصفون بالصدق الذي هو ملازم لدعوتهم، إذ لو جاز عليهم الكذب لـما صدقهم أقوامهم عند التبليغ، ولقالوا لهم: أنتم لستم معصومين عن الكذب، فما يدرينا أن ما أتيتمونا به صدق.
ومثل ذلك سبق اللسان، فالأنبياء معصومون عن سبق اللسان حتى في الأمور العادية التي هي غير الكلام الشرعي. فثبت أن سيدنا إبراهيم لم يكذب على الحقيقة وإنما كذب من افترى وادعى ذلك على سيدنا إبراهيم خليل الرحمن.
والحديث قد روي في صحيح البخاري وهو: «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات: ثنتين منهن في ذات الله عز وجل قوله: {إني سقيم} [الصافات: 89]، وقوله: {بل فعله كبيرهم هذا} [الأنبياء: 63]، وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إن ههنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس([4])، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي([5])، فأتى سارة قال: يا سارة، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك([6])، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني، فأرسل إليها فلمـا دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق، ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشدا، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت فأطلق فدعا بعض حجبته، فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان إنما أتيتموني بشيطان، فأخدمها هاجر، فأتته – أي: أتت إبراهيم – وهو قائم يصلي فأومأ بيده: مهيا – أي: ما الخبر؟ – قالت: رد الله كيد الكافر – أو الفاجر – في نحره وأخدم هاجر([7])» قال أبو هريرة: تلك أمكم يا بني ماء السماء([8])»([9]).اهـ. والحديث كما تقدم إما أن يرد أو أن يؤول.
وأما قول إبراهيم لقومه: {إني سقيم} [الصافات: 89]، فذلك أنه كانت تأتيه حمى تقلع عنه ثم تعود إليه. وفي ذلك الوقت، لـما خرج قومه لعبادة الأوثان طلبوا أن يخرج معهم إلى مهرجانهم، فقال: إن سقيم، أي: الآن وقت الحمى التي تصيبني.
وفي تفسير القرطبي: «قال الضحاك: معنى {سقيم} سأسقم سقم الموت، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ثم يموت، وهذا تورية([10]) – أي: ليس كذبا حقيقيا – وتعريض، كما قال للملك لـما سأل عن سارة: «هي أختي»، يعني: أخوة الدين. قلت – أي: القرطبي -: وفى الصحيح عن النبي ﷺ: «لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام إلا ثلاث كذبات» الحديث، وهو يدل على أنه لم يكن سقيما وإنما عرض لهم، فالمعنى: «إن سقيم في ما أستقبل» فتوهموا هم أنه سقيم الساعة. وهذا من معاريض الكلام على ما ذكرنا، وقيل: أراد سقيم النفس لكفرهم»([11]).اهـ.
وهذا النمط من أساليب البلاغة التي هي معدودة في فصيح الكلام، ولا يعد هذا كذبا حقيقيا بحال.
[1])) قال الرازي في عصمة الأنبياء: «فإن قلت: روي عن رسول الله r أنه قال: «ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: قوله: إن سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لسارة: إنها أختي». قلت – أي: الرزاي – هذا من أخبار الآحاد – أي: لا يعتمد عليه في العقيدة، فلا يعارض الدليل القطعي الذي ذكرناه، ثم إن صح حمل على ما يكون ظاهره الكذب».اهـ.
[2])) قال ابن حجر في الفتح في شرح قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} [النساء: 125]: «وأما إطلاقه الكذب على الأمور الثلاثة فلكونه قال قولا يعتقده السامع كذبا لكنه إذا حقق لم يكن كذبا لأنه من باب المعاريض المحتملة للأمرين».اهـ. فتح الباري، ابن حجر، (6/493).
[3])) كالسرخسي في المبسوط (3/4899، والبيضاوي في أنوار التنزيل (1/168)، وعمر ابن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي في اللباب (1/55).
[4])) «قيل: كان من دين ذلك الملك ألا يتعرض إلا لذوات الأزواج».اهـ. فتح الباري، ابن حجر، (6/392).
[5])) «أي: أختي في الإسلام».اهـ. فتح الباري، ابن حجر، (6/392).
[6])) «قوله: «ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك» يشكل عليه كون لوط كان معه كما قال تعالى: {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26]، ويمكن أن يجاب بأن مراده بالأرض الأرض التي وقع له فيها ما وقع ولم يكن معه لوط إذ ذاك».اهـ. فتح الباري، ابن حجر، (6/393).
[7])) «إنها – أي: هاجر – كانت مملوكة وقد صح أن إبراهيم عليه السلام أولدها بعد أن ملكها فهي سرية».اهـ. فتح الباري، ابن حجر، (9/128).
[8])) «أراد بما السماء زمزم لأن الله أنبعها لهاجر فعاش ولدها بها فصاروا كأنهم أولادها، وقال ابن حبان في صحيحه: كل من كان من ولد إسماعيل يقال له ماء السماء، لأن إسماعيل ولد هاجر وقد ربي بماء زمزم وهي من ماء السماء. وقيل غير ذلك».اهـ. فتح الباري، ابن حجر، (6/394).
[9])) صحيح البخاري، البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} [النساء: 125] (4/171)، رقم 3358. صحيح مسلم، مسلم، كتاب الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل (7/98)، رقم 6294. سنن الترمذي، الترمذي، سورة الأنبياء (5/321)، رقم 3166.
[10])) «ورى الخبر تورية: ستره وأظهر غيره، كأنه مأخوذ من وراء الإنسان لأنه إذا قال وراه كأنه جعله وراءه حيث لا يظهر، وورى عن كذا: أراده وأظهر غيره، ومنه الحديث: «كان إذا أراد سفرا ورى بغيره»، أي: ستره وكنى عنه وأوهم أنه يريد غيره، ومنه أخذ أهل المعاني والبيان التورية».اهـ. تاج العروس، الزبيدي، مادة: (و ر ي)، (20/191).
[11])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، (15/93).