الثلاثاء أبريل 16, 2024

يفترى على إبراهيم عليه السلام
أنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى

كان نبيّ الله إبراهيم عليه السلام جازم اليقين في إيمانه بربه عارفًا به، ثابت الجَنان ممتلئ الثقة والتصديق بقدرة الله، ولم يكن شاكًّا ولا مستريبًا بوجود الله سبحانه، ولم يتردّدْ لحظة في أنَّ الله قادر على إحياء الموتى وإعادة الخلق يوم القيامة، ولكنه أراد أن يزداد بصيرة ويقينًا، فسأل الله سبحانه أن يريه كيف يحيي الموتى بعد مفارقتهم الحياة، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].

لم يكن سيدنا إبراهيم عليه السلام في وقت من الأوقات شاكًّا في قدرة الله تعالى، بل ألهمه الله الرشد والإيمان منذ صغره، ولـمَّا نزل عليه الوحي وأوتي النبوة وبعثه الله رسولًا يعلّم الناس الإسلام، ذهب إلى ملك البلاد نمرود الذي كان كافرًا جاحدًا لا يعترف بوجود الله سبحانه وتعالى، فقال له سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يجادله في قصره: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] فقال نمرود معارضًا: «أنا أُحيي وأُميت» والعياذ بالله تعالى، فأطلق سراح رجل كان سجينًا عنده محكومًا عليه بالإعدام وقال: «لقد أحييته» ثم قتل رجلًا آخر وقال: «لقد أَمَتُّهُ»، فحاجَّه وغلبه سيدنا إبراهيم عليه السلام لـمَّا قال له: {فَإِنَّ اللَّـهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، ولكن نمرود لم يتوقف عند هذه الحادثة؛ بل تمادى في غيّه وعناده وقال حسب ما يروى: قل لربك أن يحيي الموتى وإلا قتلتك فلم يخف سيدنا إبراهيم عليه السلام منه ولكنه أحبَّ أن يُرِيَ نمرود وأتباعه إحياء الموتى علَّهم يؤمنون فدعا الله تعالى وقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، أي: أنا مؤمن غير شاكّ ولا مرتاب، ولكن تاقت نفس لأن أرى بعينيّ ليطمئنَّ قلبي ويزداد يقيني بإجابة طلبي، لأنه من الجائز أن يعطيَ الله تعالى أحد الأنبياء جميع ما يطلب، أو أن يعطيَه بعض ما يطلب، فسيدنا محمد ﷺ ما أُعْطِيَ جميع ما طلب، بل أُعطي بعض ما طلب ومنع بعضًا آخر، فإبراهيم عليه السلام ما كان جازمًا وقاطعًا في نفسه بأنَّ الله يعطيه ما سأل، لكنّه كان مؤمنًا بأنَّ الله تبارك وتعالى قادر على ذلك، إنما كان عنده احتمال أن الله يريه كيف يحيي الموتى واحتمال أن لا يريه، فأجاب الله تعالى سؤال إبراهيم عليه السلام.

وصودف مروره عليه السلام قرب البحر فشاهد جيفة بهيمة مطروحة على الشاطئ، فإذا هاجت الأمواج دفعتها إلى البر فأكلت منها السباع، فإذا ذهبت السباع جاءت الطيور فأكلت منها ثم طارت، ثم إذا سحب الموج الجيفة إلى البحر أكلت منها الأسماك والحيتان، فدعا إبراهيم عليه السلام ربه وسأله ليطمئن قلبه برؤية كيفية الجمع كما رأى كيفية التفريق([1])، وعندها تحصل معجزة كبيرة باهرة دالَّة على صدق هذا النبيّ العظيم وأنه مرسل من عند الله تبارك وتعالى، إذ استجاب الله عزَّ وجلَّ لدعاء إبراهيم عليه السلام، فأمره بأن يأخذ أربعة من الطير، فأخذ ديكًا أحمر، وحمامةً بيضاء، وطاووسًا أخضر، وغرابًا أسود، ثم ذبحها وأسالَ دمها، وبعد ذلك قطّعها قطعًا صغيرة، وخلط لحومها ببعضها مع الدم والريش حتى يكون أعجب، ثم وزَّع أجزاء هذا الخليط الغريب على سبعة جبال، ووقف هو بحيث يرى تلك الأجزاء، وأمسك رُؤوس تلك الطيور في يده ثم قال: «تعالين بإذن الله»، فتطايرت تلك الأجزاء، فجعل سيدنا إبراهيم عليه السلام ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها ببعض في اتّساق تامّ. وعادت الأشلاء تتجمع وتنتظم حتى صارت إلى هيئتها المعهودة وقام كل طائر وحده ولكن من غير رأس، ليكون أبلغ لسيدنا إبراهيم عليه السلام في الرؤية التي سألها، وعادت الروح إليها وسَعَتْ إليه بقدرة الله مسرعة، وصار كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد سيدنا إبراهيم عليه السلام، فإذا قدَّم له رأسًا غير رأسه لا يقبله، فإذا قدَّم إليه رأسه تركَّب مع بقية جسده بقدرة الله، فالله عزيز لا يغلبه شيء ولا يمتنع عليه ما يريد. ثم طارت الطيور كما كانت من جديد بإذن الله، بعد أن تحققت معجزة كبيرة لنبيّ من أعظم الأنبياء قدرًا عند الله تعالى([2]). وعلى الرغم من ذلك لم يؤمن نمرود إذ قد غلبت عليه شقاوته فأذلَّه الله تعالى بأن سلَّط عليه نوعًا من الحشرات دخل رأسه ولم يكن يهدأ ألمه حتى يضرب بالأحذية والكفوف المجتمعة إلى أن مات ذليلًا مقموعًا([3]).

[1])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (3/300).

[2])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (3/300، 301). الدرّ المنثور، السيوطيّ، (3/220). معالم التنزيل، البغوي، (1/322). البحر المحيط، أبو حيان، (2/642).

[3])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، (11/305).