الجمعة أبريل 19, 2024

المطلب الأول 

تذكير بماهية الجسم والمكان والجهة

وهي مصطلحات معروفة في علم التوحيد، و(الاصطلاح مصدر اصطلح واتفاق طائفة على شىء مخصوص، ولكل علم اصطلاحاته)[(885)]، فهو (عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشىء باسم ما ينقل عن موضعه الأول، وإخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما)[(886)]، (ويستعمل الاصطلاح غالبا في العلم الذي تحصل معلوماته بالنظر والاستدلال)[(887)].

والاصطلاحات التي نحن بصددها هي: الجسم، الجوهر، المكان، والجهة، فأنا أبينه قبل الشروع بصلب البحث، فأقول:

الجسم والجوهر: ( الموجود إذا كان متحيزا غير مؤتلف سمي جوهرا فردا، فإن ائتلف إلى غيره سمي جسما)[(888)]، أو يقال: (المتحيز إما أن لا يكون قابلا للقسمة وهو الجوهر الفرد أو يكون قابلا للقسمة وهو الجسم)[(889)]، ومعنى قوله المتحيز أي أن (الجوهر يقبل التحيز)[(890)] إن جعل في مقابله جوهرا آخر. (وقيل: الجوهر هو ما له حجم، وقيل: الجوهر ما يقبل العرض)[(891)].

(والجسم جوهر قابل للأبعاد الثلاثة، وقيل: الجسم هو المركب المؤلف من الجوهر)[(892)]، أي من جوهرين فأكثر.

المكان والجهة: (المكان عند أهل اللغة: الموضع الحاوي للشىء)[(893)]، وهو عند علماء الكلام: (المكان هو الفراغ الذي يشغله الجسم أو نقول: الفراغ الذي يحُلُّ فيه الجسم)[(894)].

وعبر بعضهم بما هو أعم فقال: (المكان هو الموضع الذي يكون فيه الجوهر على قدره، والجهة هي ذلك المكان)[(895)] أو يقال: المكان هو ما يأخذه الحجم من الفراغ، لأن الحجم يشمل عند الإطلاق الجسم والجوهر، فالجسم حجم، والجوهر الفرد حجم.

وعليه فـ(المكان لغة الحاوي للشىء المستقر كمقعد الإنسان من الأرض، وموضع قيامه وإضجاعه، والمكان عند المتكلمين بُعد موهوم يشغله الجسم بنفوذه فيه، والحيز هو الفراغ المتوهم الذي يشغله شىء ممتد أو غير ممتد كالجوهر الفرد، فالمكان أخص من الحيز، والحيز مطلب المتحرك للحصول فيه، والجهة مطلب المتحرك للوصول إليها والقرب منها، والمكان أمر محقق موجود في الخارج – أي خارج الذهن – عند الحكماء، وكذا الحصول فيه فإنه أمر محقق أيضا)[(896)].

و(المكان يستعمل في الحقيقي والمجازي، فالحقيقي للجسم هو ما يملؤه ولا يسع معه غيره، ولا يكون إلا واحدا، وغير الحقيقي ما ليس كذلك، وهو متعدد ومختلف بحسب القرب والبعد من الحقيقي، كالبيت والبلد والإقليم والمعمورة إلى غير ذلك)[(897)].

فلا يكون المكان والجهة إلا للجسم والجسماني – أي صفة الجسم -، وكل ذلك مستحيل على الله.

ولخطورة هذه المسألة فإنه من الأهمية بمكان التنبيه إلى أن:

– (الجهات جمع جهة وهي: ست فوق وتحت ويمين وشمال وقدام وخلف.

– والجهة عند المتكلمين هي نفس المكان باعتبار إضافة جسم آخر إليه.

– ومعنى كون الجسم في جهة كونه مضافًا إلى جسم آخر، حتى لو انعدمت الأجسام كلها لزم من ذلك انعدام الجهات كلها، لأن الجهات من توابع الأجسام)[(898)].

– (وإنما صارت الجهة جهة فوق بخلق الله العالم في هذا الحيز الذي خلقه فيه، فقبل خلق العالم لم يكن فوق ولا تحت أصلاً، إذ هما مشتقان من الرأس والرجل ولم يكن إذ ذاك حيوان فتسمى الجهة التي تلي رأسه فوق والمقابل له تحت)[(899)].

– (وحيث انتفى عن الله الزمان والمكان انتفت الجهات كلها عنه تعالى أيضًا، لأن جميع ذلك من لوازم الجسمية وهي مستحيلة في حقه تعالى)[(900)].

– (لأن الجهة التي هي الفوق والتحت والأمام والوراء واليمين والشمال لا تتصور ولا تعقل إلا ملازمة للجرم (الحجم)، وقد تقدم استحالة الجرمية عليه، فإذا لا يتصور أن يكون له جهة أو يكون في جهة)[(901)].

ولذلك قال الشيخ العلامة المحدّث الفقيه عبد الله الهرري الشافعي الأشعري: «وإذا لم يكن الله في مكان لم يكن في جهة لا عُلْوٍ ولا سُفلٍ ولا غيرهما لأنها إما حدود وأطراف للأمكنة أو نفس الأمكنة باعتبار عروض الإضافة إلى شىء»[(902)] اهـ.

ـ[885]   التعريفات، علي بن محمد بن علي الجرجاني (ص/44).

ـ[886]   كتاب الكليات، أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي (ص/129 – 130).

ـ[887]   المنتظم للحافظ ابن الجوزي (1/118) تحت عنوان: ذكر الدليل على وجود الخالق سبحانه وتعالى.

ـ[888]   معالم أصول الدين للفخر الرازي (ص/33).

ـ[889]   الحدود الأنيقة لزكريا الأنصاري (ص/16).

ـ[890]   لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة للإمام الجويني (ص/87).

ـ[891]   التعريفات، علي بن محمد بن علي الجرجاني (ص/103).

ـ[892]   المفردات في غريب القرءان (مادة: م ك ن، ص174)، تاج العروس: مادة (م ك ن، 9/843).

ـ[893]   إشارات المرام للعلامة كمال الدين أحمد بن حسن البَياضي الحنفي (ص/791)، حاشية الصفتي نواقض الوضوء للشيخ يوسف بن سعيد الصفتي المالكي (ص/72).

ـ[894]   فرقان القرءان للشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي (مطبوع مع كتاب الأسماء والصفات للبيهقي) (ص/26).

ـ[895]   كتاب الكليات لأبى البقاء الكفوى (1/826)، التعريفات للجرجاني (ص/292 – 293)، التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي (ص/ 672).

ـ[896]   كتاب الكليات لأبى البقاء الكفوى (1/827).

ـ[897]   رائحة الجنة شرح إضاءة الدجنة للشيخ عبد الغني النابلسي (ص/ 94).

ـ[898]   الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص/59).

ـ[899]   رائحة الجنة شرح إضاءة الدجنة للشيخ عبد الغني النابلسي (ص/ 94).

ـ[900]   المعرفة في بيان عقيدة المسلم (ص/55 – 57)، الشيخ عبد الكريم الرفاعي الدمشقي (1393هـ)، أحد خواص تلاميذ الشيخ المحدث بدر الدين الحسني، دمشق.

ـ[901]   المطالب الوفية شرح العقيدة النسفية (ص/74).

ـ[902]   سورة الشورى: جزء من الآية 11 .