بَيَانُ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ شَامِلَةٌ فِى الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ فِى الآخِرَةِ
(وَاللَّهُ تَعَالَى يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى الدُّنْيَا وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلًّا أَمَّا فِى الآخِرَةِ فَرَحْمَتُهُ خَاصَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أَىْ وَسِعَتْ فِى الدُّنْيَا كُلَّ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ) فَهَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْحَمُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى الدُّنْيَا وَذَلِكَ بِأَنْ يُعْطِيَهُمُ الصِّحَّةَ وَالرِّزْقَ وَالْهَوَاءَ الْعَلِيلَ وَالْمَاءَ الْبَارِدَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَمَّا فِى الآخِرَةِ يَخُصُّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ (قَالَ ﴿فَسَأَكْتُبُهَا﴾ أَىْ فِى الآخِرَةِ ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أَىْ أَخُصُّهَا لِمَنِ اتَّقَى الشِّرْكَ وَسَائِرَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾) أَىْ أَهْلُ النَّارِ يُنَادُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِمَّا يَرَوْنَهُمْ عِيَانًا مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِى وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ هَؤُلاءِ فِى النَّارِ وَهَؤُلاءِ فِى الْجَنَّةِ وَإِمَّا يَسْمَعُونَ صَوْتَهُمْ فَيَطْلُبُونَ مِنَ الضِّيقِ الَّذِى هُمْ فِيهِ (﴿أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا﴾) أَىْ أَهْلُ الْجَنَّةِ (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾) فَيَسْكُتُ أَهْلُ النَّارِ (أَىْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْكَافِرِينَ الرِّزْقَ النَّافِعَ وَالْمَاءَ الْمُرْوِىَ فِى الآخِرَةِ) فَلا يَجِدُونَ مَاءً بَارِدًا مُرْوِيًا إِلَّا ذَاكَ الْمَاءَ الَّذِى هُوَ بِمُنْتَهَى الْحَرَارَةِ فَيُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ وَالْغِسْلِينَ الَّذِى هُوَ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ أَىْ مَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِهِمْ فَالْكُفَّارُ لا حَظَّ لَهُمْ فِى الآخِرَةِ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ (وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ الَّذِى لا بَدِيلَ لَهُ وَهُوَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ لِمَاذَا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ الَّذِى لا نِهَايَةَ لَهُ يُقَالُ لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ لِذَلِكَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ أَنْ يَتَأَبَّدُوا فِى ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِى لا يَنْقَطِعُ وَهُمْ كَانَتْ نِيَّاتُهُمْ أَنْ يَبْقَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ وِفَاقًا عَذَابًا لا يَنْقَطِعُ (ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الدُّخُولَ فِى الإِسْلامِ الَّذِى هُوَ أَفْضَلُ نِعَمِ اللَّهِ سَهْلًا وَذَلِكَ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِى رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ »الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ« وَالْمَعْنَى أَنَّ الإِنْسَانَ يَكْسِبُ الْجَنَّةَ بِعَمَلٍ يَسِيرٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَكَذَلِكَ يَكْسِبُ دُخُولَ النَّارِ بِعَمَلٍ خَفِيفٍ مِنَ السَّيِّئَاتِ فَلَوْ عَاشَ الْعَبْدُ عَلَى الْكُفْرِ سِنِينَ طَوِيلَةً قَضَى عُمُرَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَبْلَ مَوْتِهِ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَلائِكَةَ الْعَذَابِ وَقَبْلَ أَنْ يَيْأَسَ مِنَ الْحَيَاةِ وَيُوقِنَ بِالْمَوْتِ بِرُؤْيَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ أَوْ إِدْرَاكِ الْغَرَقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَسْلَمَ وَاعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْ صَلاةً وَلا يُؤَاخَذُ بِشَىْءٍ مِمَّا عَمِلَهُ مِنَ الذُّنُوبِ لِأَنَّ الإِسْلامَ هَدَمَهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِآخِرِ حَالِ الإِنْسَانِ الَّذِى يُخْتَمُ لَهُ بِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا« رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ (وَ)قَدْ (جَعَلَ) اللَّهُ تَعَالَى (الْكُفْرَ سَهْلًا فَكَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِخْفَافِ بِاللَّهِ أَوْ شَرِيعَتِهِ تُخْرِجُ قَائِلَهَا مِنَ الإِيمَانِ وَتُوقِعُهُ فِى الْكُفْرِ الَّذِى هُوَ أَسْوَأُ الأَحْوَالِ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ أَحْقَرَ مِنَ الْحَشَرَاتِ وَالْوُحُوشِ سَوَاءٌ تَكَلَّمَ بِهَا جَادًّا أَوْ مَازِحًا أَوْ غَضْبَانَ) فَلَوْ عَاشَ رَجُلٌ عَلَى الإِسْلامِ ثُمَّ مَرِضَ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الأَلَمُ فَلَمْ يَتَحَمَّلْ فَاعْتَرَضَ عَلَى رَبِّهِ فَقَالَ يَا رَبِّ لِمَ ظَلَمْتَنِى بِتَسْلِيطِ هَذَا الأَلَمِ الَّذِى لا أُطِيقُهُ فَمَاتَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ لِأَنَّهُ كَفَرَ بِاعْتِرَاضِهِ عَلَى رَبِّهِ (وَقَدْ شُرِحَ ذَلِكَ فِى كُتُبِ الْفِقْهِ فِى الْمَذَاهِبِ الْمُعْتَبَرَةِ وَحَكَمُوا أَنَّ الْمُتَلَفِّظَ بِهَا يَكْفُرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾) وَالدَّوَابُّ جَمْعُ دَابَّةٍ وَهِىَ كُلُّ مَا يَمْشِى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنْ إِنْسَانٍ وَبَهَائِمَ وَحَشَرَاتٍ هَذَا مَعْنَاهَا فِى أَصْلِ اللُّغَةِ ثُمَّ تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى إِطْلاقِهَا عَلَى مَا يُرْكَبُ مِنَ الْبَهَائِمِ وَلا يَصِحُّ فِى الْقُرْءَانِ هَذَا التَّفْسِيرُ وَالآيَةُ الْمَذْكُورَةُ مَعْنَاهَا أَنَّ الْكَافِرَ هُوَ أَحْقَرُ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَدْ وَرَدَ فِى الْحَدِيثِ الَّذِى رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ وَأَحْمَدُ فِى مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِىُّ فِى الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ »لا تَفْتَخِرُوا بِآبَائِكُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّ مَا يُدَهْدِهُهُ الْجُعَلُ بِمَنْخِرَيْهِ خَيْرٌ مِنْ ءَابَائِكُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِى الْجَاهِلِيَّةِ« أَىْ عَلَى الشِّرْكِ وَالْمَعْنَى كُفُّوا عَنِ الِافْتِخَارِ بِهَؤُلاءِ الَّذِينَ مَا يَسُوقُهُ الْجُعَلُ بِأَنْفِهِ خَيْرٌ مِنْهُمْ لِكُفْرِهِمْ وَمَعْنَى »مَا يُدَهْدِهُهُ الْجُعَلُ بِمَنْخِرَيْهِ« أَىِ الْقَذَرُ لِيَتَقَوَّتَ بِهِ وَالْجُعَلُ هُوَ حَشَرَةٌ صَغِيرَةٌ سَوْدَاءُ تَسُوقُ الْقَذَرَ الَّذِى يَخْرُجُ مِنْ بَنِى ءَادَمَ تَجْعَلُهُ حُبَيْبَاتٍ تَسُوقُهُ لِتَتَقَوَّتَ بِهِ فَهَذَا الَّذِى يَسُوقُهُ الْجُعَلُ الرَّسُولُ قَالَ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَانَ النَّاسُ فِى أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْتَخِرُونَ بِهِمْ. وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِى أَنَّ الْكَافِرَ أَخَسُّ مَا خَلَقَ اللَّهُ فَالْكُفَّارُ هُمْ أَحْقَرُ خَلْقِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُمْ صُورَةَ الْبَشَرِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فَكَفَرُوا بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.