بيان حكم الأكل من اللحم الذي لم يذك ذكاة شرعية
اعلم أن الذكاة الشرعية تكون بقطع مجرى الطعام والشراب ومجرى النفس بما له حدّ، بشرط أن يكون الذابح مسلمًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا. فإذا حصل هذا وكان المذبوح مأكولا حلَّ الأكل منه لمن علم، وأمّا ما كان موته بما لا حدّ له، كأن مات بسبب التردّي أو الغرق أو شىء يزهق الروح بثقله لا بحدّه فلا يحلّ أكله. وأيضًا لا يحلّ أكل ما لم يعلم هل ذابحه هو ممن يصحّ تذكيته أم لا، لأن أمر اللحم في هذا أشدّ من أمر الجبن والحلوى ونحوهما، فإنه إذا شك شخص هل في الحلوى التي بين يديه أو الجبن الذي بين يديه نجاسة جاز له الأكل منه مع الشك، وأمّا اللحم فلا يجوز الشروع في أكله مع الشك في ذكاته كما نصّ على ذلك الفقهاء كابن حجر الهيتمي والحافظ السيوطي من الشافعية والقرافي من المالكية وغيرهم. بل تحريم اللحم الذي لم يعلم طريق حله بأن شُك في ذلك مجمع عليه.
ففي الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي ما نصه: “وسئل نفع الله ببركاته عن شاة مذبوحة وجدت في محلة المسلمين ببلد كفّار وثنية وليس فيهم مجوسي ولا يهودي ولا نصراني، فهل يحلّ أكل تلك الشاة المذبوحة التي وجدت في تلك المحلة أم لا؟ فأجاب: بأنه حيث كان ببلد فيه مَن يحلّ ذبحه كمسلم أو يهودي أو نصراني، ومَن لا يحلّ ذبحه كمجوسي أو وثني أو مرتد، ورؤي بتلك البلد شياه مذبوحة مثلًا، وشكّ هل ذبحها مَن يحلّ ذبحه لم تحلّ للشك في الذبح المبيح والأصل عدمه” اهــ
وفي الأشباه والنظائر للسيوطي ما نصّه: “الفائدة الثانية: قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني: الشك على ثلاثة أضرب شك طرأ على أصل حرام، وشك طرأ على أصل مباح، وشك لا يعرف أصله، فالأول مثل أن يجد شاة في بلد فيها مسلمون ومجوس فلا يحلّ حتى يعلم أنها ذكاة مسلم لأنها أصلها حرام وشككنا في الذكاة المبيحة” اهــ
وفي كتاب التاج والإِكليل لمختصر خليل في باب الوضوء نقلًا عن شهاب الدين القرافي ما نصّه: “الفرق الرابع والأربعون بين الشك في السبب والشك في الشرط، وقد أشكل على جمع من الفضلاء قال: شرع الشّارع الأحكام وشرع لها أسبابًا وجعل من جملة ما شرعه من الأسباب الشك، وهو ثلاثة مجمع على اعتباره كمَن شك في الشاة المذكّاة والميتة وكمَن شكّ في الأجنبية وأخته من الرضاعة” اهــ
أي أنَّ تحريم ما شُك فيه من اللحم مسئلةٌ إجماعية، فلا التفات إلى ما يُخالفُ هذا الإِجماع من قول بعضِ أهلِ العصر المتعالمين، وهؤلاء ضرّوا النَّاسَ برأيهم المخالف للإِجماع في البلاد العربية وفي أوروبا وأمريكا، ومَوّه بعضهم بإيراد حديث أخرجه البخاري على غير وجهه، والحديث وردَ في ذبيحةِ أناس مسلمين قريبي عهد بكفر وذلك لحديث عائشة: “أن قومًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قومًا يأتوننا بلحم لا ندري أذُكِرَ اسم الله عليه أم لا، فقال: “سمّوا عليه أنتم وكلوه”، قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر”.
ومعنى الحديث أن هذه اللحوم حلال لأنها مذكّاة بأيدي مسلمين ولو كانوا حديثي عهد بكفرٍ، ولا يضرّكم أنكم لم تعلموا هل سمّى أولئك عند ذبحها أم لا، وسمّوا أنتم عند أكلها أي ندبًا لا وجوبًا. لأن التسمية سنّة عند الذبح فإن تركها الذابح حل الأكل من الذبيحة.
فمن أين مَوّه هؤلاء بإيراد هذا الحديث على غير وجهه، فكأن هؤلاءِ قالوا إنَّ الرسولَ أحلَّ أكلَ ما لم يُعلم هل ذابحه مسلمٌ أم مجوسي أم بوذي أم غير ذلك بالاقتصار على التسمية عند الأكل، وهذا لم يقلْهُ عالم مسلمٌ قطّ، فليتّقوا الله هؤلاء المتهورون، وليعلموا أنَّ الإِنسانَ يُسألُ يوم القيامةِ عن أقوالِهِ وأفعالِهِ وعقائِدِهِ.