بسم الله الرحمن الرحيم
درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمّد العبدري الحبشي رحمه الله تعالى وهو في بيان أن الله خالق الأسباب والمسبَّبات والإصابة بالعين. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمّد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من الأنبياء والمرسلين وسلامُ الله عليهم أجمعين.
أما بعدُ فإن اللهَ تبارك وتعالى هو خالق كل شيء خلق الأسباب وخلق المسبَّبات لهذه الأسباب، خلق الدواء وخلق الشفاء عند استعماله، خلق الطعام وخلق الشّبع عند أكله، وخلق النار وخلق الحُرقة عند مَسّها، فالأسباب لا تخلق مسبباتها فالله تعالى هو خلق هذه النار وهو الذي يخلق الإحراقَ ليست النار تخلق الإحراق كذلك خلق الخبز وجعله سببًا للشبع فالله تعالى هو الذي يخلق هذا الشبع ليس الخُبزُ يخلقُ هذا الشبعَ لأنه يجوز عقلاً أن يأكل الإنسان الطعام ولا يحصل الشبع كذلك يجوز أن يمس الإنسان النار ولا يحصل الإحراق كما حصل لإبراهيم عليه السلام الذي أُلقِيَ في نارٍ عظيمةٍ لم يستطع الكفارُ أن يُمسكوه بأيديهم فيرموه فيها من شدة وهجها بل عمِلوا منجنيقًا ووضعوه على المنجنيق فقذفوه إلى النار ورغم ذلك فإنها لم تحرقه ولا ثيابه فهذا دليل على أن النارَ لا تخلق الإحراق بل اللهُ تعالى يخلق عند مماستها الإحراقَ. كذلك الخبزُ لا يخلقُ الشبعَ والماء لا يخلق الريَّ بل الله تعالى يخلق الرّيَّ عند شرب الماء فأغلبُ الناس إذا أكلوا وشربوا أجسامُهم تظل متماسكةً وقواهم تظل على حالها لأن الله تعالى جعل هذا السبب مرتبطًا بالـمُسبَّب وقد يخرق الله تعالى هذه العادة فيوجد السبب ولا يوجد المسبَّب لأن الله لم يشأ وجوده. كذلك الأدوية جعلها الله تعالى سببًا للشفاء فكثيرٌ من الناس يستعملون الأدوية ولا يتعافون وكثيرٌ ءاخَرُونَ يستعملون ذلك الدواء نفسَه فيتعافون مع أن المرضَ واحدٌ والدواءَ واحدٌ فما الذي اقتضى ذلك نقول أولئك الذين استعملوا الدواءَ لمرض فتعافوا به شاء الله تعالى أن يحصلَ لهم الشفاء بعد استعمال هذا الدواء والذين لم يتعافوا به فالله تعالى لم يشأ لهم أن يَتَعافَوا باستعمال هذا الدواءِ إذًا فالدواءُ لا يخلق الشفاء هذا الذي نحن نستنتجه من هذا.
كذلك قصةُ رحمةَ بنت إبراهيم التي مضى عليها ألف ومائة وشيءٌ([i]) لأنها كانت في القرن الثالث الهجريّ، فهذه رحمة عاشت نحو ثلاثين عامًا لا تأكل ولا تشرب وهيَ صحيحة الجسم صحيحة الفكر والإعصاب، ما منعها تركُ الأكل والشرب من قوة المشيِ ولا منعها من صحة الفكر ولا الفهم، ظلت طيلةَ هذه المدة بلا أكلٍ ولا شرب وهيَ صحيحةُ الجسم ليكونَ هذا عبرةً للمؤمنين حتى يعرفوا أن الله تعالى هو الذي يخلقُ الصحةَ وهو الذي يحفظ الصحة فيمن يشاء من عباده إلى الوقت الذي شاء على حسب علمه الأزليّ فلو كانت الصحةُ يخلقُها الأكلُ والشرب ما عاشت هذه المرأةُ كلَّ تلك المدة الطويلةِ وهيَ صحيحةُ الفكر صحيحةُ الجسم. ومنذ مدةِ خمسةَ عشرَ عامًا كنتُ بحلب فقال لي أحد مشايخ حلب إن هناك رجلاً من أهل الجزيرة وهو شيخٌ من أهل العلم لم يأكل ولم يشرب منذ أربعةَ عشرَ عامًا وهو يتجول يسافر من بلد إلى بلد، قال نزل عندي ضيفًا فلم يأكل ولم يشرب. كذلك حصل في الحبشةِ أن شيخًا من الأولياء كان مولعًا بالعبادة يحب الصلاة كأنه يلتذُّ بالصلاة ما لا يلتذًّ من الناس بالأكل والشرب هذا من شدة ما هو مولعٌ بالصلاة صار يخرج إلى غابةٍ قريبة من الضيعة حتى يصليَ كما يشاء ولا يشغلَه أحدٌ فظلَّ يصلي هناك حتى حصل له ذات يوم استغراقٌ وهو قائمٌ على قدميه صار لا يتكلم مع أحد ولا يأكلُ ولا يشربُ ولا يجلس طرفةَ عينٍ لا في ليل ولا في نهار والناس الذين كانوا يمرون في تلك الناحية صاروا يعطفون عليه. لما رأوه تحت السماء وليس فوق رأسه شيءٌ بَنَوا فوق رأسه عريشة حتى تُظله من الشمس وهو لا علمَ ولا شعور له بهم فأحدُ أصدقائي الطيبين قال قلت في نفسي لعل الشيخ يظل بالنهار واقفًا وبالليل يستريحُ لأُراقِبَنَّهُ الليلةَ قال ذهبت إليه فبِتُّ أراقبُه الليلَ كلَّه فلم أرهُ يجلس بل هو كما بالنهار حتى قضى شهرين وهو في هذه الحال ثم ذهبَ من تلك الأرض إلى العاصمة ظل هناك سنين ثم أنا بعد ذلك زرتُهُ. هذا الرجلُ كان بارًّا بأمّه وكان إذا حصل في الضيعةِ وفاةٌ يهتمُّ بتجهيز الميّت. وكان قد تعلم علم الدين وعاش نحو سبعين عامًا من العمر رحمه الله. هذا فيه دليل لنا على أن الأكل والشرب والاستراحة ليست هيَ التي تخلق الصحة وسلامة الجسم إنما اللهُ هو الخالقُ الذي يخلق الصحة وسلامة الجسم. كل هذا دليل لنا لنعتبرَ ولنزدادَ يقينًا بأن الله تعالى هو خالق كل شيءٍ فبمشيئةِ الله تعالى يحصل بالأكل الشَّبَعُ وبشرب الماء الرِيُّ وبمماسة النار الإحراقُ أما بدون مشيئة الله لا يحصل شيءٌ من الـمُسبَّباتِ. كذلك الله تعالى خلق الأمراضَ وخلقَ الأدويةَ فجعل بين الأدوية والأمراض علاقةً فإذا تناول الإنسان الدواءَ يتعافَى إن شاء الله في الأزل أن يتعافَى هذا الإنسان بهذا الدواءِ أما إن لم يشأ الله تعالى في الأزل أن يتعافَى هذا الإنسان بهذا الدواء لا يتعافَى.
كذلك السُمُّ الله تعالى جعله سببًا للضرر فَمَنْ تناول السمَّ يحصل له ضرر بمشيئة الله أما إذا لم يشأ الله تعالى أن ينضرَّ إنسانٌ بالسم فلا ينضر. كذلك الله تبارك وتعالى جعلَ العينَ أي عينَ الحسود التي تنظر مع حسد سببًا للضرر في المنظور لكن هذا الضررُ بالعين لا يحصل إلا بمشيئة الله كم من إنسان يحسُدُ فينظرُ إلى المنظور بعين الحسدِ فلا يحصل له ضرر كما أن هناك أناسًا كثيرين تنظر إليهم عين الحسود فينضرّون هذا كله بمشيئة الله. كذلك السحر بعض الناس يحصل لهم الضرر بالسحر وبعض الناس لا ينضرّون وذلك أيضًا كلُّهُ بمشيئة الله.
ومن الدليل على أنه لا ينضرُّ أحدٌ إلا بمشيئة الله أنَّ الله تعالى وكَّلَ بالإنسان ملائكةً، اثنان يكتبان ما يعمل الإنسان أحدهما يكتب الحسنات والآخر يكتب السيئات وهناك غيرُ هذين مع كل واحد من البشر وظيفتُهم أن يحفظوا هذا الإنسانَ من المهالك لكنِ المهالكُ والمضارُّ التي قدَّر اللهُ أن تصيبَ هذا الإنسانَ فأولئكَ الملائكةُ لا يَحُولُونَ بينه وبين تلك المضارّ لا بد أن تصيبَه مع وجودهم لأنه لا يردُّ قدرَ الله تعالى أحدٌ. هؤلاء الملائكة مخلوقون مثلَنا لكن الله تعالى ميَّزهم بصفات ليست فينا هؤلاء الملائكة يحفظون الإنسان من مهالكَ كثيرةٍ فلولا وجودُهم لكان الجنُّ يلعبون بنا كما يلعبُ الإنسانُ بالكرة وذلك لأنهم يروننا من حيث لا نراهم، هم معنا لكن لا نراهم، وهؤلاء الملائكةُ يحفظوننا في أكثر الأوقات منهم. أما الضرر الذي قدّرَ الله وعلم في الأزل أنه يصيبنا من قِبَلِ الجنّ فالملائكة لا يدفعون عنَّا هذا بل مع وجودهم يصيبُنا ذلك الضرر الذي كتبه الله.
فمما جاء في العين أنَّ العينَ حقٌّ أيْ شيءٌ ثابتٌ أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم قال: العينُ حقٌّ فلو كان شيء سابق القدر سبقته العين([ii]) اهـ معناه أنه لو كان شيء يغلبُ قدرَ الله تعالى لسبقت العينُ القدرَ معناه العينُ لها تأثيرٌ كبيرٌ لكن لا شيءَ يغلبُ قدرَ الله. كان اثنان من أصحاب رسول الله خرجا مع الرسول في سفر مع أصحابه فتجرد أحدهما من ثيابه أي مما سوى ما يستر العورة تجرد ليغتسل من ماءٍ من ماءِ المطر مجتمع في بعض الصخور فرفيقه هذا مؤمنٌ من أصحاب رسول الله لمَّا نظرَ إلى بياض جسمه وحُسْنِ منظره قال واللهِ ما رأيتُ كاليومَ ولا جلدَ عذراء أي بنتًا عذراء أي ما رأيت مثل هذا الجسد في الحلاوة والحُسن، نطق فأصابه بالعين فوقع في الحال مرتميًا، صُرع في الحال فأخبر الرسولُ صلى الله عليه وسلم أن فلانًا وفلانًا ذهبا إلى مكان كذا فحصل لفلان أنه وقع فغضبَ الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لأيّ شيءٍ أحدُكم يضرُّ أخاه لماذا لم يُبَرّك عليه([iii]) اهـ أي لماذا لم يقل اللهم بارك فيه ولا تضرَّه ثم الرسول دعا له فتعافى وقام كأنه لم يكن به شيء. لو لم ينطقِ الناظرُ ما أصابه لكن الشخصُ لما يُعجَبُ بشيءٍ بجمال شخصٍ مثلاً فيتكلم ويقول ما هذا هذا شيءٌ حلوٌ، لما يتكلمُ يخلق اللهُ الضررَ في الشخص المنظور إليه، وإن لم يتكلم لا يحصل مهما أعجَبه ذلك الشيء إن لم يتكلم لا يحصل الضرر للمنظور، وإذا قال الشخصُ الناظرُ اللهم بارك فيه ولا تضرَّه لا يحصل بعينه ضررٌ للشخص. ثم إنه لما ينظرُ هذا الإنسان بعينِ الحسد إلى شخص أو إلى شيء يعجبُه ويتكلمُ على وفق ذلك ويخلقُ اللهُ الضرر في هذا الإنسان الشيطانُ أيضًا تلك الساعةَ يلاحظ أن هذا الإنسانَ ضربَ هذا الإنسانَ بعينه فيصيبُ ذلك الإنسان فيزدادُ الضررُ في هذا الشخص، أما إذا قال الناظر اللهم بارك فيه ولا تضرَّه فيكون حصَّنَ ذلك الإنسانَ حتى لا ينضرَّ بعينه.
ثم أيضًا كثيرٌ من إصابات الجن للبشر إنما تكون في محل الغُسل وفي الخلاء فإذا قال الإنسانُ قبل أن يحطَّ رجلَه في الخلاء بسم الله وعند التجرد للاغتسال قال بسم الله الذي لا إله إلا الله يُحفَظُ من إصابة الجنّ له وهو في هذا المكان. في زمن سيدنا عليّ كانت امرأةٌ اغتسلت في مكان يبال فيه وما تحصَّنَتْ ما قالت بسم الله ولا قالت بسم الله الذي لا إله إلا هو فإذا بها تنصرعُ على الأرض فأخبِرَ سيدُنا عليٌّ رضيَ الله عنه فرقاها فقامت وليس بها شيءٌ. وقد قال صلى الله عليه وسلم: أكثرُ من يموت من أمتي بعد كتابِ الله وقدره بالأنفُس([iv]) اهـ المعنى أن أكثرَ من يمرض مرضًا يؤدّي إلى الموت في أمتي يكون من العين هذه الأمراض التي تكون مُعْضِلةً لا ينجح علاجُ الأطباء فيها تكون من العين. فإذا أرادَ الشخص أن يُحصّنَ ولدَه يقول أعيذُك بكلماتِ الله التامَّةِ من كلِّ شيطانٍ وهامَّةٍ ومن كلّ عين لامَّة اهـ فإذا قال هذا حصَّنَ ولدَه فإن كان أولادُه عددًا يحصّنهم جملةً فيقول أعيذُكم وإن شاء يحصّنُ هذا بمفردهِ ويُحصّنُ هذا بمفرده ويقول أعيذُكَ.
انتهى والله تعالى أعلم
[i])) مضى عليها إلى يومنا هذا نحو مائتين وألف.
[ii])) رواه مسلم في صحيحه باب الطب والمرض والرقى.
[iii])) رواه ابن حبان في صحيحه باب ذِكر الأمرِ لِمَنْ رأى بأخيهِ شيئًا حسَنًا أن يُبَرِّكَ لهُ فيهِ.
[iv])) رواه أبو داود الطيالسي في مسنده بابُ بيانِ مُشْكِلِ ما رُويَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في العينِ أنَّها حقٌّ وفي الاغتسالِ لمنْ بُليَ بها.