الأحد يونيو 16, 2024

الدرس الثلاثون

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهُ خالقُ أعمالِ العبادِ

درسٌ ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمّد العبدري الحبشي رحمه الله تعالى وهو في بيان أنَّ اللهَ خالقُ أعمالِ العبادِ الاختيارية والضروريةِ. قال رحمه الله رحمةً واسعةً:

الحمدُ لله رب العالمين وصلاةُ اللهِ البرّ الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمّد أشرف المرسلين وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين وعلى جميع إخوانه من الأنبياء وسلامُ الله عليهم أجمعين.

أما بعد فقد رَوَينا في كتاب القدر للبيهقيّ وفي كتابِ الأسماءِ والصفاتِ له وفي كتابِ المستدركِ للحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ اللهَ صانعُ كلّ صانعٍ وصَنعَتِهِ([i]) اهـ.

معنى الحديث أنَّ الله تعالى هو خالقُ كلّ عبدٍ يعمل شيئًا وصَنعَتِهِ أي فعلِ ذلكَ العبدِ هو خالقُ العبدِ وفِعلِهِ. فالمؤمنُ بالقَدَرِ هو الذي يؤمن أنَّ الله خالقُ العبادِ وأعمالِهِم أي حركاتهم وسكونهم ونواياهم وأفكارِهم أي كلُّ ذلك خَلْقٌ لله تعالى مخلوقٌ له لا يخلُقُ العبدُ شيئًا من ذلك. هذا معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا معنى الإيمان بالقدر. أما من فرق بين العبد وبين عمله فقال اللهُ خالقُ أجسامِ العبادِ أما أعمالهم فهي مخلوقةٌ لهم هم خلقوها بقدرةٍ أعطاهم اللهُ إياها فهذا ما ءامن بالقدر.

هذه مسئلةٌ مهمةٌ لأنها مسئلة تتعلق بالإيمان لأنَّ الإيمان كما فسّره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل وكان حضر إلى مجلسه عليه الصلاة والسلام بصورة إنسان لا يعرفه أحدٌ منهم سأله عن الإسلام ثم سأله عن الإيمان ففسرَ له الإيمان بستة أشياء قال له: الإيمانُ أن تُؤمنَ بالله وملائكتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليومِ الآخرِ والقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ([ii]) اهـ فالذي لا يؤمنُ أنَّ اللهَ خالقُ العبدِ وأعمالِهِ أي حركاتِهِ وسكونِهِ وتفكيراتِهِ وعلومِهِ وإدراكاتِهِ فهو ليس بمؤمن بالقدر، لو قال العبدُ يخلقُ هذه الأشياء بقدرةٍ خلقَها اللهُ فيه بقُدرةٍ أعطاها الله إياها هذا لا ينفعه أي أنَّ قوله هو العبدُ يخلق أفعاله بقدرةٍ خلقها الله فيه ضلالٌ، هذا ضلال، ضد الإسلام، ضد عقيدة التوحيد لأن التوحيد لا يصح على هذا الوجه أي أنْ يقول الشخص إنَّ الله واحد في ذاته ومع ذلك يثبت لغيره الخلقَ أي التكوينَ أي الإخراجَ من العدم إلى الوجود لا يصح له الإيمان والتوحيد لأنه أثبت شريكًا لله تعالى في صفة من صفاته.

كذلك لا ينفع هؤلاء قولُهم الأفعالُ التي هيَ اضطرارية كحركة المرتعش هيَ بخلقِ الله وقضائهِ وقدره لا ينفعه ذلك لا يجعله ذلك مؤمنًا بالقدر إنما الإيمان بالقدر هو أن يعتقد الإنسان أن الله تعالى هو خالق جميع أفعال العباد ما كان منها باختيارهم وما كان منها بغير اختيارهم أي أن الله تعالى خالق ذلك كُلهِ. هذا مذهب أهل الحق. وأما الذين قالوا إن الله أعطى العبد القدرة فالعبد يخلق هو بتلك القدرة التي أعطاها الله إياها حركاتِهِ وسكناتِهِ هؤلاء ما ءامنوا بالقدر. كذلك الذين قالوا أفعال العباد ما كان خيرًا أي ما كان من الحسنات فالله يخلقها على أيدي عباده وأما ما كان منها معاصيَ وشرورًا أي كالمكروهات فإنَّ الله تعالى ليس هُوَ خالقَها كذلك هؤلاء ما ءامنوا بالقدر.

احذروا هذه الطوائفَ الطائفةَ التي تقولُ أفعالُ العباد الاختياريةُ إن كانت خيرًا وإن كانت شرًّا فالعبدُ هو الذي يخلُقُها احذروا هؤلاء واحذروا الذين يقولون أيضًا إن الله تعالى يخلق الخير الذي يَجري على عباده أي الإيمان والطاعة هو يخلقها ليسوا هم يخلقونها أمّا المعاصي فهم يخلقونها هؤلاء أيضًا ضالُّون فاحذروهم، احذروا كِلا الفريقين. الفريق الأول يُمَوِّهون على الناس بقولهم العبدُ يخلق أعماله الاختياريةَ بقدرة أعطاه الله إياها هذا تمويهٌ الذي يقول العبد هو يخلق أعماله استقلالًا وبقدرة لم يخلقها الله تعالى فيه بل هو العبد يخلق هذه القدرة أو هذه القدرة توجد بلا فاعل بلا مُوجِدٍ بلا خالقٍ هو العبد بهذه القدرة التي لا خالق لها يخلق أعماله الاختيارية كلُّ هؤلاءِ ضالُّون الحق هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نطق به حديثُه هذا إنَّ اللهَ صانِعُ كلِّ صانِعٍ وصَنْعِتِهِ([iii]) اهـ.

ثم هذا الحديث يُؤَيِّدُهُ القرءان الكريمُ لأن فيه عدةَ ءاياتٍ بهذا المعنى كقوله تعالى: ﴿اللهُ خالقُ كُلِّ شيءٍ([iv]) أي أنه تبارك وتعالى هو خالق أجسامِنا وأفكارِنا ونوايانا وعزائمنا كل ذلك اللهُ تعالى يخلقه. كلمة شيء بعض الناس يظنون أنها للأجسام فقط كجسم الإنسان وللحجر وللشجر ونحو ذلك ليس الأمر هكذا بل الشيء يَعُمُّ الأجسامَ وصفاتِ الأجسامِ وحركاتِ الأجسام المتحركة وسكونَها، كلُّ ذلك شيء.

الشيطانُ سببٌ فقط ليس هو الذي يخلق الضلالة في الإنسان ولا في نفسه، إبليسُ ليس هو خلق ضلالته وغَوايته الله هو خلقها فيه وإذا أغوى الناسَ كما أخبر الله تعالى عنه في القرءان أنه قال: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أجمَعينَ* إلا عِبادَكَ مِنْهُمُ الـمُخْلَصِينَ([v]) معناه: أنه جعله سببًا ما جعله خالقًا إبليسُ الله تعالى جعله سببًا لِغَوايةِ بعض الناس ما جعله خالقًا نحن نقول لا خالقَ إلا اللهُ ونؤمن بالأسباب، إبليسُ جعله الله سببًا لضلال كثيرٍ من خلقه لكنه لم يجعله خالقًا لضلال أحد ولا لضلال نفسه.

هؤلاء الذين يقولون الشيطان يخلق الشر يُسَمَّونَ القدرية والذين يقولون العبد يخلق فعله يُسمَّونَ قدريةً ويُسمَّونَ معتزلةً. بعض الفقهاء ما تصوّروا حقيقة كلام المعتزلة فالوا تصح الصلاة خلفهم وهذا كلام مردود، الحافظُ سراجُ الدين البُلقينيُّ الذي قال فيه صاحب القاموس علَّامةُ الدنيا([vi]) ردَّ هذا الكلام الذي في روضة الطالبين قال هذا غير صحيح بل لا تجوز الصلاة خلف المعتزلة وإنما كلام الشافعي في قوله أقبلُ شهادةَ أهلِ الأهواءِ إلا الخَطَّابيةِ محمولٌ على أنه أراد بذلك ما لم تثبت في أحد منهم قضيةٌ تقتضي التكفير اهـ معنى ذلك أننا لا نكفّر الشخصَ لمجرد أنه ينتسب إلى المعتزلة أما إذا ثبتت عليه مقالةٌ تقتضي التكفير فإنه يكفر قال هذا مرادُ الشافعيّ ليس مراد الشافعي أنّ المعتزلة على الإطلاق لا يكفرون ردَّ كلامَ النووي وغيرهِ وقال هذا هو الكلامُ الذي عليه كبار أصحاب الشافعيّ.

مراد الشافعي أن من المعتزلة من ينتسب إليهم ولا يقول بجميع مقالاتهم التي تقتضي الكفرَ إنما يقول ببعض مقالاتهم التي لا تقتضي الكفر.

ثم الإمام أبو منصور التميمي البغداديُّ هذا شيخ البيهقيّ تلقَّى الحديثَ من أبي بكر الإسماعيلي صاحب المستخرج على البخاريّ يقول أجمع أصحابنا على تكفير المعتزلة. ماذا يكون قول بعض المتأخرين بالنسبة إلى هذا.

من المعتزلة من يقول إنَّ الله لا يُرى في الآخرة أخذ ببعض مقالاتهم كهذه المقالة أما مقالاتُهم التي هيَ أوسخُ من هذه مما هو كفر كقولهم إنَّ الله كان قادرًا على أن يخلقَ حركاتِ العبدِ وسكونَهُ لكن بعدما أعطاه القدرة عليها صار عاجزًا لا يستطيع فمن أخذ بها هل يُتردد في كفرهم؟ الذي ينتسب إلى المعتزلة ويقول هذه المقالة من مقالاتهم هذا مَنْ يَشُكُّ في كفره؟ أما بعضُ المنتسبين إلى الاعتزال الذين لا يقولون بهذه المقالة بل أخذوا منهم مقالاتٍ أخرى لا تقتضي التكفير فلا يكفرون.

انتهى والله تعالى أعلم.

[i])) رواه البيهقي في شعب الإيمان باب القدر خيره وشره من الله عز وجل.

[ii])) رواه مسلم في صحيحه باب معرفة الإيمان والإسلام والقدر وعلامة الساعة.

[iii])) رواه البيهقي في شعب الإيمان باب القدر خيره وشره من الله عز وجل.

[iv])) سورة الزمر/الآية 62.

[v])) سورة ص/الآية 82-83.

[vi])) ذكر صاحب القاموس في حرف النون بلدة بلقينة وقال ومنها صديقنا علامة الدنيا عمر بن رسلان اهـ.