الأربعاء ديسمبر 4, 2024

الِاجْتِهَادُ وَالتَّقْلِيدُ

   (الِاجْتِهَادُ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الأَحْكَامِ الَّتِى لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ لا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا) مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ صَرِيحٌ لا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا فَلا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ وَهُوَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِى الأَوْسَطِ »إِذَا جَاءَ الْخَبَرُ ارْتَفَعَ النَّظَرُ« يَعْنِى بِالْخَبَرِ النَّصَّ الْقُرْءَانِىَّ وَالنَّصَّ الْحَدِيثِىَّ (فَالْمُجْتَهِدُ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِآيَاتِ الأَحْكَامِ) وَهِىَ خَمْسُمِائَةٍ (وَأَحَادِيثِ الأَحْكَامِ) وَهِىَ خَمْسُمِائَةٍ وَهِىَ الَّتِى ذُكِرَ فِيهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ (وَ)لا بُدَّ مِنْ (مَعْرِفَةِ أَسَانِيدِهَا وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ رِجَالِ الإِسْنَادِ) أَىْ يَنْبَغِى لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْرِفَ أَحْوَالَ الرُّوَاةِ قُوَّةً وَضَعْفًا فَيُقَدِّمُ عِنْدَ التَّعَارُضِ الْخَاصَّ عَلَى الْعَامِّ وَالْمُقَيَّدَ عَلَى الْمُطْلَقِ وَالنَّصَّ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْمُحْكَمَ عَلَى الْمُتَشَابِهِ وَالنَّاسِخَ وَالْمُتَّصِلَ وَالْقَوِىَّ عَلَى مُقَابِلِهِ. (وَ)لا بُدَّ مِنْ (مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ) وَالنَّسْخُ مَعْنَاهُ الإِزَالَةُ وَيُقَالُ رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِىٍّ سَابِقٍ بِحُكْمٍ شَرْعِىٍّ لاحِقٍ. وَيَجُوزُ نَسْخُ الرَّسْمِ وَبَقَاءُ الْحُكْمِ أَىْ يَجُوزُ نَسْخُ رَسْمِ الآيَةِ فِى الْمُصْحَفِ وَتِلاوَتِهَا عَلَى أَنَّهَا قُرْءَانٌ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهَا وَالتَّكْلِيفِ بِهِ نَحْوُ ءَايَةِ الرَّجْمِ وَهِىَ »الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ«. وَيَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ وَبَقَاءُ الرَّسْمِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ﴾ نُسِخَتْ بِالآيَةِ الَّتِى قَبْلَهَا وَهِىَ ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾. وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ كَمَا فِى ءَايَتَىِ الْعِدَّةِ وَءَايَتَىِ الْمُصَابَرَةِ. وَيَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ كَمَا فِى نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الثَّابِتِ بِالسُّنَّةِ الْفِعْلِيَّةِ فِى حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾. وَيَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ كَمَا فِى حَدِيثِ مُسْلِمٍ »كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلا فَزُورُوهَا« وَيَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْمُتَوَاتِرِ مِنْهُمَا أَىِ الْقُرْءَانِ وَالسُّنَّةِ وَيَجُوزُ نَسْخُ الآحَادِ بِالآحَادِ وَبِالْمُتَوَاتِرِ وَلا يَجُوزُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالآحَادِ (وَ)لا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ (الْعَامِّ وَالْخَاصِّ) وَالْعَامُّ هُوَ مَا عَمَّ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا وَالْعُمُومُ مِنْ صِفَاتِ النُّطْقِ وَلا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِى غَيْرِهِ مِنَ الْفِعْلِ وَمَا يَجْرِى مَجْرَاهُ. وَالْخَاصُّ يُقَابِلُ الْعَامَّ وَالتَّخْصِيصُ تَمْيِيزُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ. وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ نَحْوُ ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوَءٍ﴾ الشَّامِلِ لِأُولاتِ الأَحْمَالِ فَخُصَّ بِقَوْلِهِ ﴿وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾. وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ كَتَخْصِيصِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلادِكُمْ﴾ الشَّامِلِ لِلْمَوْلُودِ الْكَافِرِ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ »لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ«. وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ مِثْلُ تَخْصِيصِ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ »لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأْ« بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى﴾ إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾. وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ مِثْلُ تَخْصِيصِ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ »فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ الْعُشْرَ« بِحَدِيثِ »لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ« مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (وَ)لا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ (الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ) وَالْمُطْلَقُ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِلا قَيْدٍ أَىْ مِنْ حَيْثُ هِىَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ عَارِضٍ مِنْ عَوَارِضِهَا كَقَوْلِنَا الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ الْمَرْأَةِ فَيَخْرُجُ بِقَوْلِهِمْ بِلا قَيْدٍ الْمَعْرِفَةُ وَالنَّكِرَةُ أَمَّا الْمَعْرِفَةُ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَعَ وَحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَزَيْدٍ وَأَمَّا النَّكِرَةُ فَلِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهَا مَعَ وَحْدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ كَرَجُلٍ وَهَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ وَذَلِكَ كَحَدِيثِ »يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ «فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ فِى رِوَايَةٍ وَوَرَدَ مُقَيَّدًا فِى رِوَايَةٍ »إِذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ« فَاللَّفْظُ الأَوَّلُ مُطْلَقٌ وَالثَّانِى مُقَيَّدٌ كَذَلِكَ حَدِيثُ »لا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ« مَعَ الرِّوَايَةِ الأُخْرَى بِالنَّهْىِ عَنْ مَسِّهِ بِالْيَمِينِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِحَالَةِ الْبَوْلِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً﴾ وَقَالَ فِى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ بِدُونِ تَقْيِيدِهَا بِالإِيمَانِ (وَمَعَ إِتْقَانِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ) أَىْ يَنْبَغِى عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يُتْقِنَ لُغَةَ الْعَرَبِ (بِحَيْثُ إِنَّهُ يَحْفَظُ مَدْلُولاتِ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ) الشَّرْعِيَّةِ (عَلَى حَسَبِ اللُّغَةِ الَّتِى نَزَلَ بِهَا الْقُرْءَانُ) وَيَعْرِفُ النَّحْوَ وَالصَّرْفَ وَالْبَلاغَةَ. هَذَا فِى غَيْرِ السَّلِيقِىِّ أَمَّا السَّلِيقِىُّ كَالصَّحَابَةِ وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ فِى كَوْنِ كَلامِهِ مُطَابِقًا لِلُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى حَسَبِ أُصُولِهَا وَأَسَالِيبِهَا فَهُوَ غَنِىٌّ عَنْ تَعَلُّمِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ لِأَنَّهُ مَطْبُوعٌ عَلَى النُّطْقِ بِالصَّوَابِ فِى اللُّغَةِ (وَ)لا بُدَّ لِلْمُجْتَهِدِ مِنْ (مَعْرِفَةِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرِقَ الإِجْمَاعَ أَىْ إِجْمَاعَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ) أَىْ يَنْبَغِى لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْرِفَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ إِجْمَاعًا وَاخْتِلافًا فَلا يُخَالِفُهُمْ فِى اجْتِهَادِهِ. وَالْمُجْتَهِدُ يَسْتَدِلُّ عَلَى مَا احْتَمَلَ التَّأْوِيلَ بِالسُّنَّةِ وَبِالإِجْمَاعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا فِى الْكِتَابِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا فِى السُّنَّةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَإِجْمَاعُ النَّاسِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ وَلا يَجُوزُ الْقَوْلُ فِى شَىْءٍ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الأَوْجُهِ. وَلا يَكُونُ صَالِحًا لِأَنْ يَقِيسَ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِمَا مَضَى قَبْلَهُ مِنَ السُّنَنِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ وَإِجْمَاعِ النَّاسِ وَاخْتِلافِ الْعُلَمَاءِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ وَيَكُونَ صَحِيحَ الْعَقْلِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُشْتَبِهَاتِ وَلا يَعْجَلُ وَيَسْمَعُ مِمَّنْ خَالَفَهُ لِيَتَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى غَفْلَةٍ إِنْ كَانَتْ وَأَنْ يَبْلُغَ غَايَةَ جَهْدِهِ وَيُنْصِفَ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مِنْ أَيْنَ قَالَ مَا قَالَ (وَيُشْتَرَطُ فَوْقَ ذَلِكَ شَرْطٌ وَهُوَ رُكْنٌ عَظِيمٌ فِى الِاجْتِهَادِ وَهُوَ فِقْهُ النَّفْسِ أَىْ قُوَّةُ الْفَهْمِ وَالإِدْرَاكِ) وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَخْلِصَ عِلْمَ الدِّينِ مِنَ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ مُبَاشَرَةً لِأَنَّ الْقَرَائِحَ تَخْتَلِفُ هَذَا ذَكَاؤُهُ أَقْوَى مِنْ هَذَا وَهَذَا ذَكَاؤُهُ أَقْوَى مِنْ هَذَا وَهَذَا بَلِيدٌ وَهَذَا أَبْلَدُ، وَهَؤُلاءِ الأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ كُلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُمْ قَرَائِحَ قَوِيَّةً أَذْهَانًا قَوِيَّةً (وَتُشْتَرَطُ) فِى الْمُجْتَهِدِ (الْعَدَالَةُ وَهِىَ السَّلامَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الصَّغَائِرِ بِحَيْثُ تَغْلِبُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَهُوَ الَّذِى لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ) وَلَهُ رُخْصَةٌ بِأَنْ يَعْمَلَ بِأَىِّ مَذْهَبٍ يُرِيدُ إِنْ شَاءَ يُقَلِّدُ مَذْهَبَ الشَّافِعِىِّ أَوْ مَالِكٍ أَوْ أَبِى حَنِيفَةَ أَوْ أَحْمَدَ أَوْ غَيْرِهِمْ وَإِنْ شَاءَ مَرَّةً يُقَلِّدُ هَذَا وَمَرَّةً هَذَا وَمَرَّةً هَذَا أَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلا يَعْمَلُ بِغَيْرِ اجْتِهَادِهِ (وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِى فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا فَرُبَّ مُبَلِّغٍ لا فِقْهَ عِنْدَهُ« رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ وَابْنُ حِبَّانَ) فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا فِى حَدِيثِهِ هَذَا لِمَنْ حَفِظَ حَدِيثَهُ فَأَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ بِنَضْرَةِ الْوَجْهِ أَىْ بِحُسْنِ وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبِالسَّلامَةِ مِنَ الْكَآبَةِ الَّتِى تَحْصُلُ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمُ الأَهْوَالِ الْعِظَامِ وَالشَّدَائِدِ الْجِسَامِ وَ(الشَّاهِدُ فِى الْحَدِيثِ قَوْلُهُ »فَرُبَّ مُبَلِّغٍ لا فِقْهَ عِنْدَهُ« وَفِى رِوَايَةٍ) لِابْنِ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ (»وَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ« فَإِنَّهُ يُفْهِمُنَا أَنَّ مِمَّنْ يَسْمَعُونَ الْحَدِيثَ مِنَ الرَّسُولِ مَنْ حَظُّهُ أَنْ يَرْوِىَ مَا سَمِعَهُ لِغَيْرِهِ وَيَكُونُ هُوَ فَهْمُهُ أَقَلَّ مِنْ فَهْمِ مَنْ يُبَلِّغُهُ بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ يُبَلِّغُهُ هَذَا السَّامِعُ يَسْتَطِيعُ مِنْ قُوَّةِ قَرِيحَتِهِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْهُ أَحْكَامًا وَمَسَائِلَ وَيُسَمَّى هَذَا الِاسْتِنْبَاطَ وَالَّذِى سَمِعَ لَيْسَ عِنْدَهُ هَذِهِ الْقَرِيحَةُ الْقَوِيَّةُ إِنَّمَا يَفْهَمُ الْمَعْنَى الَّذِى هُوَ قَرِيبٌ مِنَ اللَّفْظِ. مِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ يَكُونُ أَقَلَّ فَهْمًا مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ. وَفِى لَفْظٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ »فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ« وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ فِى التِّرْمِذِىِّ وَابْنِ حِبَّانَ) فَأَفْهَمَنَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَسْمَعُ مِنْهُ الشَّخْصُ الْحَدِيثَ الْمُتَضَمِّنَ أَحْكَامًا وَلا يَكُونُ عِنْدَهُ أَهْلِيَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ وَيَحْمِلُهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ أَىْ إِلَى مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاسْتِنْبَاطِ. وَفِى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ »وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ« دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْتَخْرِجُوا الْفِقْهَ مِنَ الْحَدِيثِ أَكْثَرُ مِنَ الَّذِينَ يَسْتَطِيعُونَ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى كُلِّ زَمَانٍ مُجْتَهِدًا لا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْهُ فَقَدْ رَوَى كَمِيلُ بنُ زِيَادٍ عَنْ عَلِىِّ بنِ أَبِى طَالِبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ »لا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَجِهِ« أَىْ لا تَخْلُو مِنْ مُجْتَهِدٍ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِى حِلْيَةِ الأَوْلِيَاءِ (وَهَذَا الْمُجْتَهِدُ هُوَ مَوْرِدُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ« رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ) قَالَ النَّوَوِىُّ فِى شَرْحِ مُسْلِمٍ »قَالَ الْعُلَمَاءُ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِى حَاكِمٍ عَالِمٍ أَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ وَأَجْرٌ بِإِصَابَتِهِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ بِاجْتِهَادِهِ« ثُمَّ قَالَ »قَالُوا فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْحُكْمِ فَلا يَحِلُّ لَهُ الْحُكْمُ فَإِنْ حَكَمَ فَلا أَجْرَ لَهُ بَلْ هُوَ ءَاثِمٌ وَلا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ سَوَاءٌ وَافَقَ الْحَقَّ أَمْ لا لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ فَلَيْسَ صَادِرًا عَنْ أَصْلٍ شَرْعِىٍّ فَهُوَ عَاصٍ فِى جَمِيعِ أَحْكَامِهِ سَوَاءٌ وَافَقَ الصَّوَابَ أَمْ لا وَلا يُعْذَرُ فِى شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ« (وَإِنَّمَا خَصَّ رَسُولُ اللَّهِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ الْحَاكِمَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَحْوَجُ إِلَى الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ مَضَى مُجْتَهِدُونَ فِى السَّلَفِ مَعَ كَوْنِهِمْ حَاكِمِينَ كَالْخُلَفَاءِ السِّتَّةِ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِىٍّ وَالْحَسَنِ بنِ عَلِىٍّ وَعُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَشُرَيْحٍ الْقَاضِى) وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ »إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا« رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِى سُنَنِهِ، وَيُشْتَرَطُ فِى الْمُجَدِّدِ أَنْ يَكُونَ حَيًّا عِنْدَ تَمَامِ الْقَرْنِ مَعَ كَوْنِهِ بِصِفَةِ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى ذَابًّا عَنِ السُّنَّةِ قَامِعًا لِلْبِدْعَةِ يَنْفَعُ النَّاسَ بِبَيَانِهِ يُبَيِّنُ الضَّلالاتِ وَيُحَذِّرُ مِنْهَا وَيُبَيِّنُ السُّنَنَ وَيَحُثُّ عَلَيْهَا وَالسُّنَنُ هِىَ الأُمُورُ الَّتِى شَرَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ مِنْ فَرَائِضَ وَغَيْرِ فَرَائِضَ. وَأَوَّلُ مُجَدِّدٍ كَانَ فِى هَذِهِ الأُمَّةِ هُوَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الَّذِى كَانَ حَاكِمًا عَدْلًا وَلَمْ يَجْتَمِعْ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ الْمُجَدِّدِينَ أَنْ جَمَعَ بَيْنَ صِفَةِ الْمُجَدِّدِيَّةِ وَالْحُكْمِ ثُمَّ بَعْدَهُ الإِمَامُ مُحَمَّدُ بنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِىُّ وَقَدْ تُوُفِّىَ بَعْدَ تَمَامِ الْقَرْنِ الثَّانِى بِأَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ ثُمَّ بَعْدَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ الَّذِى هُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ ثُمَّ بَعْدَهُ أَبُو الطَّيِّبِ سَهْلُ ابْنُ مُحَمَّدٍ الصُّعْلُوكِىُّ ذَكَرَ هَذَا التَّرْتِيبَ الْحَافِظُ الْحَاكِمُ صَاحِبُ كِتَابِ الْمُسْتَدْرَكِ (وَقَدْ عَدَّ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِى كُتُبِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ الْمُفْتِينَ فِى الصَّحَابَةِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ) كَمَا فِى تَدْرِيبِ الرَّاوِى لِلسُّيُوطِىِّ وَ(قِيلَ نَحْوُ سِتَّةٍ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ نَحْوُ مِائَتَيْنِ مِنْهُمْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الأَصَحُّ. فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ فِى الصَّحَابَةِ هَكَذَا فَمِنْ أَيْنَ يَصِحُّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْءَانَ وَيُطَالِعَ فِى بَعْضِ الْكُتُبِ أَنْ يَقُولَ أُولَئِكَ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُقَلِّدَهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ كَانُوا غَيْرَ مُجْتَهِدِينَ بَلْ كَانُوا مُقَلِّدِينَ لِلْمُجْتَهِدِينَ فِيهِمْ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ أَنَّ رَجُلًا كَانَ أَجِيرًا لِرَجُلٍ فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَسَأَلَ أَبُوهُ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ عَلَى ابْنِكَ مِائَةَ شَاةٍ وَأَمَة ثُمَّ سَأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا لَهُ إِنَّ عَلَى ابْنِكَ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ فَجَاءَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ زَوْجِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِى هَذَا كَانَ عَسِيفًا) أَىْ أَجِيرًا (عَلَى هَذَا وَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَقَالَ لِى نَاسٌ عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ ابْنِى مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْهِ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ«) أَىْ يُخْرَجُ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ لِمُدَّةِ سَنَةٍ (فَهَذَا الرَّجُلُ مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ سَأَلَ أُنَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ فَأَخْطَأُوا الصَّوَابَ ثُمَّ سَأَلَ عُلَمَاءَ مِنْهُمْ ثُمَّ أَفْتَاهُ الرَّسُولُ بِمَا يُوَافِقُ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ أَفْهَمَنَا أَنَّ بَعْضَ مَنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُ الْحَدِيثَ لَيْسَ لَهُمْ فِقْهٌ أَىْ مَقْدِرَةٌ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الأَحْكَامِ مِنْ حَدِيثِهِ وَإِنَّمَا حَظُّهُمْ أَنْ يَرْوُوا عَنْهُ مَا سَمِعُوهُ مَعَ كَوْنِهِمْ يَفْهَمُونَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ الْفُصْحَى فَمَا بَالُ هَؤُلاءِ الْغَوْغَاءِ الَّذِينَ يَتَجَرَّءُونَ عَلَى قَوْلِ »أُولَئِكَ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ« أُولَئِكَ رِجَالٌ يَعْنُونَ الْمُجْتَهِدِينَ كَالأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ. وَفِى هَذَا الْمَعْنَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ) فِى سُنَنِهِ (مِنْ قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِى كَانَتْ بِرَأْسِهِ شَجَّةٌ فَأَجْنَبَ فِى لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَاسْتَفْتَى مَنْ مَعَهُ فَقَالُوا لَهُ اغْتَسِلْ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ »قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالُ« أَىْ شِفَاءُ الْجَهْلِ السُّؤَالُ أَىْ سُؤَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ »إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيَغْسِلُ سَائِرَ جَسَدِهِ« الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الِاجْتِهَادُ يَصِحُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمُسْلِمِينَ لَمَا ذَمَّ رَسُولُ اللَّهِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَفْتَوْهُ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى. ثُمَّ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ الَّتِى هِىَ خَاصَّةٌ لَهُ الْقِيَاسُ أَىْ أَنْ يَعْتَبِرَ مَا لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ بِمَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ لِشَبَهٍ بَيْنَهُمَا) وَالْقِيَاسُ هُوَ إِلْحَاقُ الْفَرْعِ الَّذِى هُوَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ بِالأَصْلِ الَّذِى هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَيُقَالُ الْقِيَاسُ هُوَ رَدُّ الْفَرْعِ إِلَى الأَصْلِ بِعِلَّةٍ تَجْمَعُهُمَا فِى الْحُكْمِ وَمِثَالُ ذَلِكَ وَرَدَ فِى الْقُرْءَانِ تَحْرِيمُ التَّأْفِيفِ بِالأَبَوَيْنِ نَصًّا لَكِنْ لَمْ يَرِدْ لا تَضْرِبْهُمَا لا تَجْرَحْهُمَا بِحَدِيدَةٍ إِلَى ءَاخِرِ مَا هُنَالِكَ مِنْ هَذِهِ التَّفَاصِيلِ فَهَذِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ تُلْحَقُ بِالأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ تَحْرِيمُ التَّأْفِيفِ لِأَنَّ التَّأْفِيفَ أَذًى خَفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ لِلضَّرْبِ وَنَحْوِهِ (فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ الَّذِينَ يَحُثُّونَ أَتْبَاعَهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ كَوْنِهِمْ وَكَوْنِ مَتْبُوعِيهِمْ بَعِيدِينَ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ فَهَؤُلاءِ يُخَرِّبُونَ وَيَدْعُونَ أَتْبَاعَهُمْ إِلَى التَّخْرِيبِ فِى أُمُورِ الدِّينِ) فَكَمْ مِنْ حُفَّاظٍ يَحْفَظُونَ الآلافَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنَ الْمُتُونِ وَالأَسَانِيدِ وَأَحْوَالِ الرُّوَاةِ وَمَوَالِيدِهِمْ وَرِوَايَتِهِمْ مُقَلِّدِينَ لا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ لِعَدَمِ فِقْهِ النَّفْسِ الَّتِى هِىَ شَرْطٌ فِى الِاجْتِهَادِ. هَذَا الْبَيْهَقِىُّ الَّذِى هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُحَدِّثِينَ الْحُفَّاظِ مُقَلِّدٌ لِلإِمَامِ الشَّافِعِىِّ وَكَذَلِكَ كُلُّ الْمُحَدِّثِينَ إِلَّا النَّادِرُ مِنْهُمْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ (وَشَبِيهٌ بِهَؤُلاءِ أُنَاسٌ تَعَوَّدُوا فِى مَجَالِسِهِمْ أَنْ يُوَزِّعُوا عَلَى الْحَاضِرِينَ تَفْسِيرَ ءَايَةٍ أَوْ حَدِيثٍ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ تَلَقٍّ مُعْتَبَرٌ مِنْ أَفْوَاهِ الْعُلَمَاءِ. فَهَؤُلاءِ الْمُدَّعُونَ شَذُّوا عَنْ عُلَمَاءِ الأُصُولِ لِأَنَّ عُلَمَاءَ الأُصُولِ قَالُوا »الْقِيَاسُ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ« وَخَالَفُوا عُلَمَاءَ الْحَدِيثِ أَيْضًا) وَأَمَّا دَعْوَةُ الأَلْبَانِىِّ أَىَّ إِنْسَانٍ أَنْ يَعْمَلَ بِحَدِيثِ »اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ« فَفِيهَا تَشْجِيعُ الْعَوَامِّ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ وَالْعَمَلِ بِمَا يَمِيلُ إِلَيْهِ قَلْبُهُ وَلا يَخْفَى أَنَّ الْعَامِىَّ قَدْ يَمِيلُ قَلْبُهُ إِلَى مَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ فَكَيْفَ يَتْرُكُ فَتْوَى الْمُجْتَهِدِينَ الْمُعْتَبَرِينَ وَيَعْمَلُ بِمَا تَمِيلُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَهَذَا الْحَدِيثُ كَانَ الْخِطَابُ فِيهِ لِوَابِصَةَ بنِ مَعْبَدٍ وَهُوَ مِنْ مُجْتَهِدِى الصَّحَابَةِ فَوَابِصَةُ وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُ مُجْتَهِدًا فَهُوَ الَّذِى يَأْخُذُ بِمَا يَنْشَرِحُ بِهِ قَلْبُهُ وَلَيْسَ أَىَّ إِنْسَانٍ وَإِلَّا لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْفَوْضَى.