الأحد ديسمبر 22, 2024

الناصر صلاح الدين الأيوبي السلطان المجاهد


ترجمته:
هو العالم الورع والفارس المجاهد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي. ولد سنة خمسمائة واثنين وثلاثين للهجرة في قلعة “تكريت” وهي مدينة تقع على ضفاف دجلة جنوبي بغداد في العراق. كان أبوه واليًا على المدينة ثم انتقل معه إلى الموصل واستقر فيها برعاية عماد الدين زنكي. كان طاهر القلب عفيف اللسان، يردّ الحقوق إلى أهلها ويمنع الرشوة ويعاقب عليها، لا يُحابي في الحق أحدًا، وكان رحمه الله سياسيًا بارعًا، وقائدًا فذًا، وفارسًا مقدامًا عمّ ذكره في الآفاق شرقًا وغربًا.

انتقل والده نجم الدين أيوب مه أهله إلى بعلبك بعد أن عيّنه عماد الدين واليًا عليها، ولكن لم يطل مقامهم في بعلبك حيث انتقلوا للعيش في دمشق، وقد تولّى صلاح الدين رئاسة شرطة دمشق في عهد نور الدين. وبعد وفاة الأتابك نور الدين بن عماد الدين زنكي عام خمسمائة وتسع وستين للهجرة استقلّ صلاح الدين بحكم مصر والشام وغيرها، ثم شمّر عن ساعده لتوحيد البلاد الإسلامية وجهز الجيوش لقتال الإفرنج وانتزاع ما بقي من أراضي الشام. كما جهز جيشًا لاسترداد اليمن وبعثه إليها وعلى رأسه أخوه توران شاه بن أيوب، حيث وجد صلاح الدين أن ضم بلاد اليمن إلى ملكه سيجعل المسلمين يُحكمون السيطرة على منافذ البحر الأحمر لحماية الأراضي المقدسة في الحجاز، خصوصًا بعد استعادة منطقة العقبة الواقعة على البحر الأحمر. كما وأن عدن أصبحت مركزًا مهمًا للتجارة الإسلامية، فالمطلوب حمايتها من هجمات الإفرنج الذين قد يفكرون بالاتصال بأنصارهم في بلاد الحبشة، فكان من المهم تحصين المنفذ الجنوبي للبحر الأحمر.

وهكذا، وبعد أن جهز صلاح الدين الجيش، عبر أخوه بالجيوش الإسلامية البحرَ إلى جدة ومنها إلى مكة حيث دخلها معتمرًا، ثم سار إلى “زبيد” وتمت السيطرة عليها، وتم أسر حاكم “عدن”. كما واصل الجيش تقدمه فملك القلعة في “تعز” وهي من أحصن القلاع، وعامل أهلها بالإحسان وقضى على الانقسام والتشرذم فيها، وقضى على بقايا النفوذ الفاطمي. وقد حكم بنو أيوب اليمن أكثر من نصف قرن من الزمن.

كما أن السلطان صلاح الدين بعث حملة إلى غربي مصر بقيادة “قراقوش” فاستولى على برقة وطرابلس الغرب وتونس. وهكذا تم توحيد البلاد الإسلامية في جبهة واحدة تمتد من برقة وتونس غربًا إلى الفرات شرقًا، ومن الموصل وحلب شمالاً إلى النوبة واليمن جنوبًا، وبقي لدى صلاح الدين همّ كبير وهو تحرير الأقصى من العدو الجاثم في فلسطين.


الاستيلاء على حصن الكرك:
شيَّد حصنَ الكرك الواقع جنوبي الأردن “باجان الساقي” وهو من الإفرنج، وقد أقيم الحصن على تلة عالية، وجُعل بناؤه كبيرًا بحيث يتسع لعدد كبير من الجنود وأهلهم، وكان بالغ المناعة، مقامًا على تلة حجرية يتعذر الوصول إليه من جميع الجهات لشدة انحداره. وللوصول إليه أُقيم جسر يسهل الدفاع عنه من حامية الحصن القوية، وكان لموقع الحصن أهمية التحكم في طرق المواصلات بين مصر وبلاد الشام. وقد تولى حكم المنطقة “رونالد شانيون” المعروف بـ”أرناط” كما تسميه العرب.

كان “أرناط” هذا شخصًا مقامرًا متهورًا ناقضًا للعهود، فكثيرًا ما خرق العهود والمواثيق المعقودة مع المسلمين، فيعتدي على القوافل التجارية الإسلامية وينهبها. فكان من السلطان صلاح الدين أن وضع نصب عينيه خطة للاستيلاء على الحصن الذي يعتبر شوطة في خاصرة المسلمين. فحاصر صلاح الدين القلعة واستمر الحصار لأكثر من عام حتى صاروا يأكلون جوابهم، فأرسلوا يطلبون الامان مقابل تسليم الحصن فوافق وتسلم القلعة وأمّن من فيها على أنفسهم.


النصر الكبير في حطين:
تقع قرية حطين غربي “طبرية”، وهي غنية بالمياه وفيرة المرعى في جزء منها، وقد دارت المعركة في المنطقة الممتدة بين “طبرية” شرقًا و”صفورية” غربًا، وهذا الجزء جاف وعرٌ قليل المياه إلا من الآبار والينابيع المحلية النادرة. ومع أن استعادة بيت المقدس وتخليص الأقصى من يد الإفرنج كان الهدف الذي يسعى إليه السلطان المجاهد بعد أن وحَّد الجبهة الإسلامية وأمّن الحدود، غير أنه لم يشأ أن يكون هو البادئ بالحرب لحنكة هو أرادها فانتظر حتى بدأ “أرناط” صاحب الكرك المشهور بالخيانة والغدر، فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير والشرارة التي أشعلت نيران الحرب، وذلك أن “أرناط” اعتدى على قافلة كانت تمر بالكرك في طريقها من مصر إلى الشام، فنهبها وأسر وقتل من فيها، وقال للأسرى وهو يعذبهم: “فليأت محمدكم ليخلصكم”، فغضب صلاح الدين ونذر لئن مكّنه الله منه ليقتلنه بيده. ودعا صلاح الدين إلى النفير والتعبئة الشاملة للجهاد. وبعد أن كملت الاستعدادات وجاءت الجيوش الإسلامية متطوعة من شتى الممالك الإسلامية، غادر صلاح الدين دمشق إلى بصرى وبدأ بمهاجمة “الكرك” ثم استولى على “طبرية” واستعصت عليه قلعتها فتركها إلى حين يعود إليها، وبدأ بتحصين موقعه. وهنا تبرز مهارة صلاح الدين العسكرية إذ لم يتقدم بجيوشه إلى المعركة، بل سعى لإجبار العدو على المسير إليه، حتى ينهك جيشهم وخيولهم.

ونشب الخلاف في صفوف العدو وانقسموا على رأيين، إذ كان يرى “ريمند” حاكم طرابلس بقاء جيوشهم في صفورية لقربها من ممتلكاتهم في الساحل، وليدفع بجيش المسلمين إلى عبور الصحراء بين “طبرية” و”صفورية” فيتعب ويسهل التغلب عليه، ورأى “أرناط” حاكم الكرك المتعطش لدماء المسلمين الإسراع بالتقدم نحو “طبرية” لمفاجأة صلاح الدين والبطش به، وهكذا غلب رأي “أرناط” وزحفت الجيوش الصليبية والخلافات تعصف بها، بالإضافة إلى الحرارة العالية في الصيف، في الوقت الذي كان فيه جيش صلاح الدين محتفظًا بقواه. ولما وصل خبر زحف جيوش الأعداء قال صلاح الدين: “قد حصل المطلوب وكمل المخطوب وجاءنا ما نريد”.

وهكذا سار جيش الصليبيين بأسلحتهم وخوذاتهم ودروعهم الحديدية، وأشعة الشمس تنعكس على رمال الصحراء فتلهب الجو لهيبًا، حتى كادت أجسامهم تقع تحت ثقل حديد دروعهم ولباسهم الساخن، وذلك يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر سنة خمسمائة وثلاث وثمانين للهجرة.

ولما بدأت المعركة حاصر المسلمون الاعداء وأحاطوا بهم إحاطة السوار بالمعصم، وأشبعوهم ضربًا وقتلاً وأسرًا. وقد حاول “ريمند” صاحب طرابلس أن يُحدث ثُغرة في الحصار المضروب عليهم فدبر له تقي الدين، ابن أخ صلاح الدين مكيدة وتظاهر بالهزيمة فأفسح له الطريق ليخرج، فعاد تقي الدين وانضم إلى الجيش والتأمت دائرة المسلمين من جديد، فصار “ريمند” وجيشه خارج جيوش الإفرنج المحاصرة، فآثر النجاة وهرب إلى طرابلس، ومات بعد مدة قليلة حسرة وكمدًا حينما اتهم بالخيانة.

كما لجأ صلاح الدين إلى إشعال النار في الأعشاب اليابسة المحيطة بمعسكر الأعداء فانهارت قواهم وقُتل منهم عدد كبير ووقع الباقي في الأسر.

قال المؤرخ ابن الأثير المعاصر لتلك الموقعة في تاريخه: “كل من يرى القتلى يحسب أن ليس هناك أسرى وكل من يرى الأسرى يحسب أن ليس هناك قتلى” وقال ءاخر: “كان الفارس من المسلمين يقود ثلاثين أو أربعين أسيرًا في حبل واحد، وكان المائتان من الإفرنج الأسرى يحرسهم فارس واحد من المسلمين، وقُدِر عدد الأسرى بثلاثين ألف أسير، مما أثر في كساد أثمانهم في السوق لدى عرضهم للبيع، ووصل الأمر أن يباع منهم أسير بنعل”.

وكان من بين الأسرى معظم قوادهم وملوكهم ومن بينهم “أرناط”. وعنّف صلاح الدين “أرناط” على فعلته الشنيعة مع قافلة المسلمين واستهزائه بمقام النبوة وعرض عليه الإسلام فأبى، فاستل صلاح الدين سيفه وقال له: “ها أنا أنتصر لمحمد صلى الله عليه وسلم” فضربه تنفيذًا لوعده وبرًا بقسمه. وإثر ذلك انهارت الدولة المسماة “أورشليم”، وتمكن السلطان صلاح الدين من استرجاع جميع مدنها وقلاعها، وبدأت المدن تسقط بأيدي المسلمين الواحدة تلو الأخرى لا سيما عكا ويافا وحيفا وصيدا وبيروت وجبيل.


حبه للعلم الديني وتقواه:
يقول السبكي في طبقات الشافعية عن السلطان صلاح الدين إنه سمع الحديث من الحافظ أبي طاهر السلفي وأبي طاهر بن عوف والشيخ قطب الدين النيسابوري وعبد الله برّي النحوي وجماعة غيرهم.

وقد سلك صلاح الدين مسلك السلف الصالح في المحافظة على الدين والتمسك بالعقيدة الصافية النقية عقيدة أهل الحق. فقد أمر رضي الله عنه بتدريس العقيدة الإسلامية والتي فيها تنزيه الله عن المكان والحيز واللون وسواها من صفات المخلوقين في الكتاتيب والمدارس، وقد ألّف العلامة محمد بن هبة الله المكي رسالة في العقيدة سماها “حدائق الفصول وجواهر الأصول” في علم الكلام على أصول أبي الحسن الأشعري رحمه الله، أهداها إلى السلطان صلاح الدين الذي أمر بتعليمها في المدارس للصبية الصغار فعُرفت بالعقيدة الصلاحية ومما يقوله فيها:

وصانعُ العالم فَرْدٌ واحد *** ليس له في خلقِهِ مساعدُ
جلَّ عن الشريك والأولاد *** وعزّ عن نقيصة الأندادِ
وهو قديم مالَهُ ابتداءُ *** ودائم ليس له انتهاء

ويقول عنه معاصروه: كان خاشع القلب غزير الدمعة إذا سمع القرءان خشع قلبه ودمعت عيناه، وكان كثير التعظيم لشعائر الإسلام.


مآثره:
ومن مآثره الحميدة أنه أبطل المكس [الضريبة] المأخوذ من الحجاج في البحر على طريق عَيْذاب في أيام مكثّر بن عيسى وهو ءاخر أمراء مكة المعروفين بالهواشم.

وكان لم يؤدّ بعيذاب يُؤخذ منه بجدة وهو سبعة دنانير مصرية على كل إنسان. وكان سبب إبطاله أن الشيخ علوان الأسدي الحلبي حجّ، فلما وصل إلى جدة طولب بذلك فأبى أن يسلم لهم شيئًا وأراد الرجوع، فلاطفه الجند وبعثوا إلى صاحب مكة، وكان الشريف مُكثّر بن عيسى، فأمر بإطلاقه ومسامحته. فلما طلع إلى مكة، اجتمع به واعتذر إليه بأن مدخول مكة لا يفي بمصالحنا وهذا الحامل لنا على هذا. فكتب الشيخ علوان إلى السلطان صلاح الدين وذكر له حاجة أمير مكة، وعرّفه أن البلد ضعيفة وأنها ما تُدخل من أموال لا يكفيه، وأن ذلك هو الذي حمله على هذه البدعة الشنيعة. فأنعم عليه السلطان صلاح الدين بثمانية ءالاف إردب قمح وقيل بألفي دينار وألفي إردب قمح وأمره بترك هذه المظلمة.

وكان مواظبًا على صلاة السنة وكان له ركعات يصليها إذا استيقظ بوقت من الليل، وإلا صلاها قبل صلاة الصبح، وكان إذا أركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى، وكان يصلي قائمًا في مرضه الذي أصيب به في ءاخر أيامه وكان سببًا في وفاته.


ذكر طرف من مناقبه وشجاعته:
كان السلطان صلاح الدين رضي الله عنه ديّنًا ورعًا زاهدًا كثير العبادة يحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة في المسجد، حتى في أيام مرضه كان يتجلد ويحضرها كما ذكره ابن شداد، وكان مع ذلك مواظبًا على السنن والرواتب وقيام الليل، وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى، وهو مع ذلك رحمه كان ينتقي إمامه ويتخيره عالمًا بالقرءان متقنًا ضابطًا لحفظه، وكان كثيرًا ما يتأثر بسماع القرءان الكريم ولربما استقرأ الحارس بالليل الجزءين والثلاثة والأربعة وهو يسمع، وإنه لمما يشهد على مدى حبه وتعظيمه للقرءان ما روي أن صبيًا مر بين يديه وهو يقرأ القرءان فاستحسن قراءته فقربه وجعل له حظًا من طعامه ووقف عليه وعلى أبيه جزأين من مزرعة يجنيان منها، وكان رحمه الله خاشع القلب غزير الدمعة رفيقًا حليمًا شفوقًا ناصحًا محبًا للعلم وطلبه، شديد الرغبة في سماع الحديث، فكان إذا سمع بشيخ محدث ذي رواية عالية وكان ممن يحضر مجالس السلاطين استدعاه وأخذ عنه فسمع وأسمع أولاده ومماليكه، وإن كان هذا الشيخ ممن لا يقصدون أبواب السلاطين سار إليه بنفسه فسمع منه وقرأ وأخذ عنه، وكان رضي الله عنه عادلاً رؤوفًا رحيمًا ناصرًا للضعيف المظلوم، وله مجالس للخصومات كل يوم اثنين وخميس يحضره الفقهاء والقضاة، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه من شاء من كبير وصغير أو عجوز أو شيخ وما استغاث به أحد إلا سمع له وكشف ظلامته إن كان عليه ظلامة ودفعها عنه، وقد حدث ابن شداد مرة فقال: “لقد رأيته وقد استغاث به إنسان من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقي الدين ابن أخيه فأنفذ إليه ليحضر مجلس الحكم وكان تقي الدين هذا مقربًا إليه محبوبًا لديه عظيمًا في عينه ولكنه لم يحابه في مثل هذا الأمر بل استدعاه حرصًا على إقامة العدل.

كان رحمه الله سلطاًنا شجاعًا كريم الاخلاق، عالمًا صالحًا متواضعًا. وقالوا: “لم يؤخر صلاة عن وقتها ولم يصلِ الصلاة المفروضة إلا في جماعة”. كان قانتًا لا تأخذه في الله لومة لائم. وكان في مجلسه يجمع العلماء والفضلاء والفقراء وأصحابه كأنما هم على قلب رجل واحد.

أما الشجاعة والصبر فقد بلغ السلطان في ذلك شأوًا كبيرًا، فكان رحمه الله من عظماء الشجعان، قوي النفس شديد البأس عظيم الثبات، لا يهوله أمر العدو بل كان يدور حول العدو المرة والمرتين في اليوم يستطلع أخباره بنفسه إن كان قريبًا منه فيحكم خطته بهدوء وترو، فإذا ما اشتدت الحرب يخترق بين الصفين ويرتب العساكر ويأمرهم بالتقدم والثبات ثم يشرف على العدو بنفسه يباشره بالطعن فيكون أقرب إليه في مواطن النزال حتى تنكشف الحرب وهو ثابت لا يبرح كليث هصور تفر أمامه الحمر الوحشية.

وقد حدث عنه ابن شداد فقال: ولقد رأيته رحمه الله يخرج عكا وهو على غاية من مرض اعتراه بسبب كثرة دماميل كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبتيه بحيث لا يستطيع الجلوس، وإنما يكون منكبًا على جانبه إن كان بالخيمة، وامتنع من مد الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس، وكان يأمر أن يفرق على الناس. وكان مع ذلك قد نزل بخيمة الحرب قريبًا من العدو وقد رتب الناس ميمنة وميسرة وقلبًا للقتال، وكان مع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى صلاة المغرب يطوف على الجيش، ثم قال: ولقد رأيته ليلة على صفد وهو يحاصرها وقد قال لا ننام الليلة حتى تنصب لنا خمسة مناجيق ورتب لكل منجنيق قومًا يتولون نصبه، وكنا طوال الليل في خدمته والاخبار تتواصل بأن قد نصب المنجنيق الفلاني كذا والمنجنيق الفلاني كذا حتى أتى الصباح وقد فرغ منها وكانت من أطول الليالي وأشدها بردًا. ا.هـ.

من أشهر أعماله الحربية وأعظمها تحرير بيت المقدس وفتح القدس، حيث نزل عليها في الخامس عشر من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وتسلمها يوم الجمعة في السابع والعشرين من رجب لمناسبة ذكرى الإسراء والمعراج وأقيمت الجمعة، فعلت الأصوات بالتكبير والتهليل، وكان فتحًا وتحريرًا عظيمًا مهيبًا.


من وصاياه:
وقد ورد أنه أوصى أحد أولاده قائلاً: “أوصيك بتقوى الله، فهي رأس كل خير، وءامرك بما أمر الله به، فإنه سبب نجاتك، واحذر من الدماء والدخول فيها والتقلد بها، فإن الدم لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالها، ولا تحقد على أحد فإن الموت لا يُبقي على أحد”.

وكان رحمه الله إذا سمع أن العدو دهم بلاد المسلمين خرّ إلى الأرض ساجدًا داعيًا إلى الله بهذا الدعاء: “إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك ولم يبق إلا الإخلاد إليك والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك أنت حسبي ونعم الوكيل”.

قال القاضي ابن شداد: “رأيته ساجدًا والدموع تتقاطر على لحيته ثم على سجادته ولا أسمع ما يقول، ولم ينقضِ ذلك اليوم إلا وتأتيه أخبار الانتصار على الأعداء”.

وكان يتخير وقت صلاة الجمعة للهجوم على أعدائه تبركًا بدعاء الخطباء له بالنصر على المنابر.

ءاثاره ووفاته:
بنى المساجد والمدارس وعمّر قلعة الجبل في القاهرة وسوّرها، وبنى قبة الشافعي.

وكان شافعي المذهب، أشعري الاعتقاد، لحقه ليلة السبت سادس عشر من صفر تعب عظيم وغشيته نصف الليل حُمى شديدة وأخذ الموض في التزايد فقصده الاطباء واجتمعوا لديه ينظرون أمره والحمى تثقل عليه حتى أخذته رعشة وأغمي عليه واشتد الخطب في البلد فعم الحزن وكثر البكاء ولحقه في اليوم العاشر من مرضه عرق شديد حتى نفذ من الفراش، واشتد مرضه ليلة الثاني عشر من مرضه فحضر عنده الشيخ أبو جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده في القلعة يذكره الشهادتين عند الاحتضار، فكان أن توفي السلطان من تلك الليلة في السابع والعشرين من صفر وأخرج بعد صلاة الظهر من يوم الأربعاء في تابوت مسجى وصلى عليه الناس ثم دفن في قلعة دمشق في الدار التي كان يقيم بها وأنزل إلى لحده وقت العصر بعد الصلاة من اليوم المذكور، وقد كانت وفاته سن تسع وثمانين وخمسمائة عن سبع وخمسين سنة، وخلف سبعة عشر ذكرًا وبنتًا واحدة. ولم يوجد في خزانته الخاصة سوى دينار وأربعين درهمًا. أقام في السلطنة أربعًا وعشرين سنة توفي بعدها وعمره سبعٌ وخمسون سنة، وله مقام ظاهر يزوره المسلمون تبركًا بسيرته العظرة ونهجه السوي. وقد كان لهذا السلطان المجاهد ثلاثة عوامل هيأت له النجاح بتوفيق الله وكرسته حاكمًا وقائدًا وفارسًا فذًا: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية، يزينها جميعًا دين وتقوى وورع وحنكة عسكرية، فما هي إلا سنوات قليلة حتى استطاع أن يمد سلطانه من مصر إلى بلاد الشام ويوحد البلاد والعباد، ويعيد الأرض لأصحابها وللأمة قوتها بعد الوهن والضعف الذي أصابها.

رحم الله السلطان المجاهد صلاح الدين بطل وقعة حطين ومحرر بيت المقدس، فقد كان رجل عقيدة وصاحب زهد وتقى، حقق لأمة الإسلام عزّها وقهر أعداءها وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.