الجمعة أبريل 19, 2024

المجاهد الكبير  السلطان قلاوون


ترجمته:
بعد أن كان واحدًا من المماليك جلس على كرسي المُلك وصار سلطانًا لمصر بعد الملك “سلامش” يوم الأحد في الثاني عشر من رجب سنة ستمائة وثمان وسبعين للهجرة وتلقب بالملك المنصور.

هو السلطان قلاوون، صاحب القبة الشريفة المعروفة بقبة قلاوون التي تعتبر من روائع فن العمارة الإسلامية في قاهرة المماليك.

ذكر الحافظ الذهبي أن المنصور قلاوون كان من أحسن الناس صورة في صباه، وأبهاهم وأهيبهم في رجولته، كان تام الشكل، مستدير اللحية. على وجهه هيبة المُلك وعلى أكتافه حشمة السلطنة، وعليه سكينة ووقار.

ويذكر المؤرخون أن أصل قلاوون من أترك أواسط ءاسيا من جنس “القبجان” الذين استقروا بعد تجوالهم حول نهر “الفلجا” جنوبي روسيا الحالية.

كان “قلاوون” من قادة السلطان الظاهر “بيبرس” بعد موت الملك الصالح نجم الدين أيوب، وفي عهد السلطان العادل “سلامش” الابن الثاني للسلطان الظاهر “بيبرس” رقي قلاوون إلى وظيفة القائد العام للجيش، وأصبح اسمه يذكر مع اسم السلطان على المنابر، وصار “قلاوون” يتصرف تصرف الملوك عدة أشهر، ثم اختبر بعدها سلطانًا على البلاد سنة ستمائة وثمان وسبعين للهجرة، فسارع إلى تعيين ابنه “علي” وليًا للعهد بعد مضي أسبوع على توليه الملك، ليتفرغ للزحف إلى الشام لمحاربة المغول.

قتال المغول والإفرنج:
مُني جيش المغول بقيادة “كتبغا” بهزيمة كبرى على يد الظاهر بيبرس في معركة “عين جالوت” [موضع بين نابلس وبيسان]، وفي هذه المعركة أسر قائد المغول “كتبغا” فأمر السلطان “قطز” بقطع رأسه والطواف به في البلاد، فصمم “هولاكو” المغولي على الانتقام، فأرسل جيشًا بقيادة أخيه “منكوتمر”، ودارت معارك طاحنة انتهت بالنصر للمسلمين وجرح “منكوتمر” ومُني التتار بهزائم عظيمة.

قال صاحب كتاب “النجوم الزاهرة”: “إن السلطان قلاوون توجه بعد الموقعة إلى دمشق فخرج الناس للقائه، ودخل دمشق وبين يديه جماعة من أسرى التتار وبأيديهم رماح عليها رءوس القتلى من التتار، وذلك بعد الموقعة العظيمة التي لم يشهد مثلها في تلك الأزمان، إذ اضطربت ميمنة المسلمين فيها وحملت التتار على ميسرة المسلمين فكسروها، وانهزم من كان بها، وكذلك انكسر جناح القلب الأيسر، لكن السلطان “قلاوون” ثبت في جمع قليل بالقلب ثباتًا عظيمًا. ولما رأى أعيان الأمراء ومشاهيرهم وشجعانهم ثبات السلطان “قلاوون”، ردوا على التتار وحملوا عليهم حملات حتى كسروهم، وقتلوا عددًا كبيرًا تجاوز الوصف” اهـ.

ثم خرج لقتال الفرنجة، وحاصر طرابلس الشام أربعة وثلاثين يومًا، ثم فتحها، وفتح جبيل وطرد الفرنجة منها.


القبة الشريفة والبيمارستان:
ومن ءاثار السلطان “قلاوون” أنه عمل بالقاهرة قبة عظيمة ومدرسة وبيمارستانًا للمرضى. وهذه الاماكن واقعة بشارع المعز في القاهرة بمصر.

وقد وصف المقريزي القبة والمجموعة التي حولها فقال: “إنها من أعظم المباني المملوكية، وبها قبر يضم الملك المنصور قلاوون، وابنه الملك الناصر محمد، والملك الصالح عماد بن محمد بن قلاوون.

وهناك قاعة جميلة في وسطها بركة ماء يصل إليها الماء من فوارة بديعة وسائر القاعة مفروشة بالرخام الملون. وقال: “إن هناك مكانًا للخدم الذين يعرفون بالطواشية، ولهؤلاء الخدم في كل يوم ما يكفيهم من الخبز النقي واللحم المطبوخ”.

وكان هناك خمسون مقرئًا يتناوبون قراءة القرءان ليلاً ونهارًا وهم يجلسون بالشبابيك المطلة على الشارع، وإمام ورئيس المؤذنين، ودروس لتفسير القرءان ودرس للحديث النبوي، وخزانة للكتب، ودروس للفقه على المذاهب الأربعة.

وصف القبة:
ذكر المقريزي أن القبة والمجموعة التي حولها أنشئت في خلال عام إلا شهرًا، وقالت مصادر أخرى إنها تمت خلال عام وشهرين، وقال البعض إن إتمام القبة تم في خمسة شهور. غير أن هذا الرأي شكك به بعض المؤرخين منهم ابن الفرات في تاريخه حيث يقول: “وإذا شاهد الرائي هذه العمارة العظيمة واتساع فضائها وعلو أسوارها ومُكنة بنيانها، ثم سمع أنها عمرت في هذه المدة القريبة ربما أنكر ذلك”.

وكان بناء القبة على أرض القصر الفاطمي بمحلة النحاسين. وكان القصر قد اندثر ولم يبق منه سوى قاعة كبيرة تخص “ست الملك” أخت الخليفة الفاطمي الحاكم. ثم ملكتها الاميرة “مؤنسة الأيوبية”، ثم اشترى السلطان قلاوون الأرض وأعطى الأميرة “مؤنسة” قصرًا تعويضًا لها عن قاعة “ست الملك”.

وتحتوي القبة من الداخل بجدرانها الأربعة وأرضيتها، وفتحات النوافذ والدواليب على وخارف متعددة، بعضها من الفسيفساء الرخامية والصدف والعاج، إلى جانب الكتابات بأساليب متعددة، والتي استعمل فيها الخط الكوفي في كتابة اسم “محمد” صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة مرة.

أما تصميم القبة فيتكوّن من قاعدة مربعة يوجد في وسطها ثمانية أعمدة، أربعة منها من الجرانيت وهي متقابلة ومذهبة التيجان والأربعة الأخرى دعائم مبنية بأركان كل منها أربعة أعمدة من الرخام. وقد حُلّيت بواطن العقود التي تعلوها العُمد والدعائم الثمانية بزخارف جصية ونقوش ذهبية، كما زخرفت جدران القبة المربعة وأرضيتها وفتحات النوافذ والخزائن الحائطية التي تزخر بها الجدران بزخارف من الفسيفساء والصدف.

أما محراب القبة فهو تحفة فنية لما اشتمل عليه من دقة في صناعة الرخام، وهو يعتبر أكبر وأجمل وأفخم محراب في مصر. ويغطي القبر بقايا تابوت خشبي منقوش عليه: “قلاوون الصالحي سلطان الإسلام والمسلمين قدس الله روحه ونور ضريحه”.

وقد دُفن في هذا القبر المنصور قلاوون وابنه الناصر محمد وابنه عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاوون.

ويعتبر “البيمارستان” أو المستشفى الكبير الموجود ضمن المجموعة التي أقيمت مع القبة من المنشآت التي استوقفت الرحالة والمؤرخين في العصور الوسطى، ليس من ناحية جمال وروعة فنون العمارة الإسلامية فقط، بل من ناحية الرسالة الجليلة والإنسانية باعتبارها مدرسة للطب ضمن أسماء علماء يحفظ لهم تاريخ الطب دورهم.

قال ابن بطوطة سنة ألف وثلاثمائة وسبع وعشرين رومية: “أما البيمارستان الذي بين القصرين عند قبة الملك المنصور قلاوون، فيعجز الواصف عن ذكر محاسنه، وقد أعد فيه من المرافق والأدوية ما لا يُحصى” اهـ. وفي هذا المستشفى لمع نجم “ابن النفيس” الذي توصل إلى حقيقة الدورة الدموية الصغرى قبل أن يكتشفها الأوروبيون بحوالي ثلاثة قرون.

ويذكر المقريزي أن السلطان قلاوون “خصص ميزانية قدرها ألف ألف درهم كل سنة، ورتب مصاريف القبة والمدرسة ودار الأيتام. وجعل البيمارستان لخدمة المرضى من الرجال والنساء، وأفرد لكل طائفة من المرضى موضعًا فجعل قاعة لمرضى الرمد، وعنبرًا لمرضى الحُميات، وقاعة للجرحى وأخرى لمن به إسهال، مع فصل بين الرجال والنساء، وأفرد أماكن لتركيب المعاجين والأكحال، وأماكن يجلس فيها كبار الأطباء لتقديم الدروس هذا ووقف الكثير من الضياع والاملاك والبساتين وغير ذلك للمدرسة والمستشفى، لم يزاحمه فيه كثيرون غيره”. اهـ.


الدفاع عن دين الإسلام:
وقد سار على خطاه ابنه السلطان الناصر محمد بن قلاوون الذي اشتهر بأعمال البر والخير واحترام العلم والعلماء، وتوقيرهم، والدفاع عن دين الإسلام ومحاربة أهل الضلال من المشبهة وغيرهم، وقد سجل التاريخ له موقفًا مشرفًا وذلك أنه أصدر مرسومًا سنة سبعمائة وخمس للهجرة قُرئ في مصر والشام يحذّر فيه من أحمد بن تيمية ويقضي بحبسه في السجن لمخالفته عقائد المسلمين.


وفاته:
عزم السلطان قلاوون على تطهير البلاد من الفرنجة الذين لم يبق لهم موقع سوى مدينة عكا، فجرد لهم حملة عسكرية، وعند خروجه من القاهرة كان متوعكًا، فلبث بمعسكره عند مسجد التين خارج القاهرة، وتزايدت عليه الحمى، وثقل عليه المرض حتى توفي في السادس من ذي القعدة سنة ستمائة وتسع وثمانين للهجرة وحُمل إلى القلعة فدفن هناك. ثم تولّى الحكم بعده ابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل.

وذكر ابن تغري بردي في “النجوم الزاهرة” أن السلطان قلاوون جمع من المماليك خلقًا عظيمًا حوالي اثني عشر ألفًا، صار منهم أمراء ونواب من بعده، وكان من محاسنه أنه لا يميل إلى جنس بعينه، بل كان ميله لمن يرى فيه النجابة كائنًا من كان، وكان يربي مماليكه على الاخلاق وكف الأذى عن الناس، وقيامهم بالغزو في سبيل الله.

وهكذا فإن الدعوة المحمدية كان لها على مدى العصور سلاطين ومجاهدون كرّسوا حياتهم لنشر الدين الإسلامي وقضاء حوائج المسلمين والدفاع عن حياض هذا الدين الحنيف، وكان السلطان قلاوون رحمه الله من أبرزهم.