ثبت بالدليل العقلي والنقل أن الله تعالى لا يشبه الأجسام ولا يشبه سائر أنواع العالم بأي وجه من الوجوه، أما النقل فآيات كثيرة أصرحها قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} (الشورى)، فهذه الآية صريحة في وجوب تنــزّه الله تعالى عن مشابهة من سواه على الإطلاق، لأن كلمة: (شَىْءٌ) نكرة وقعت في سياق النفي فأفادت العموم، أي أنه ينتفي عن الله مشابهة شىء من العالم، قال الفقيه زكريا الأنصاري في كتابه غاية الوصول شرح لبّ الأصول([1]): «والنكرة في سياق النفي وفي معناه النهي للعموم وضعًا في الأصح» اهـ. ثم هذه الآية من المحكمات، ومحكم القرآن هو الأصل الذي يُرَدّ إليه المتشابه، فكلّ آية أوهمت تشبيهًا أو جسمية يجب ألّا تحمل على ظاهرها بل تُرَدُّ إلى المحكم، فبذلك نكون قد وفّقنا بين المحكم والمتشابه كما قال النبي ﷺ: «اعْمَلُوا بمُحْكَمِهِ وآمِنُوا بمُتشابهِهِ»([2]).وذلك لأن القرءان لا تتناقض آياته بل يعضُدُ بعضها بعضًا.
ولفهم هذا الموضوع على الوجه الصحيح ينبغي معرفة أن القرآن الكريم توجد فيه آيات محكمات وآيات متشابهات، قال تعالى: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ {7} (آل عمران).
فالآيات المحكمات هي ما لا يحتمل من التأويل بحَسَبِ وَضْعِ اللغة إلا وجهًا واحدًا، أو ما عُرِف بوضوح المعنى المراد منه([3])، كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} (الشورى)، وقوله: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ {4} (الإخلاص)، وقوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا {65} (مريم)، وقوله سبحانه: وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ {8} (الرعد).
وأما المتشابه فهو ما لم تتَّضح دِلالته أو احتمل أوجهًا عديدة واحتاج إلى النظر لحمله على الوجه المطابق، كقوله عزَّ وجلَّ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} (طه)، أي قهر العرش واستولى عليه في قول كثير من أهل العلم([4])، وقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ {10} (فاطر) أي أن العمل الصالح يصعد إلى محلّ كرامته تعالى وهو السماء([5])، وهذا منسجم مع الآية الكريمة:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11} (الشورى)، فتفسير الآيات المتشابهة يجب أن يُرَدّ إلى الآيات المحكمة، وهذا في المتشابه الذي يجوز للعلماء أن يعْلَموه.
وأما المتشابه الذي أُرِيد بقوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ {7} (آل عمران) على قراءة الوقف على لفظ الجلالة، فالمقصود ما كان كوجبة القيامة وخروج الدجّال على التحديد، وليس المراد ما هو من قبيل آية الاستواء، وبذلك يكون الإنسان عاملًا بما ورد.
فتبيّن بذلك أن المتشابه على قسمين:
– قسم لا يعلمُ تأويلَهُ إلا الله، وهو ما كان من نحو قيام السّاعة وخروجِ الدّجالِ على التّحديدِ، وهو المراد بقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ {7} على قراءة الوقف على لفظ الجلالة، وليس من هذا القسمِ ءايةُ الاستواء.
– وقسم يعلم تأويلَه الله والرّاسخون في العلمِ، ومثاله ما كان من معنى الاستواء المذكور في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5}.
قال الحافظ الفقيه اللغويّ الحنفيّ محمد مرتضى الزَّبيديّ في شرحه على إحياء علوم الدين للغزالي([6]) نقلًا عن كتاب التذكرة الشرقية للقشيريّ ما نصّه: «وأمّا قول الله عزَّ وجلَّ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ {7} (آل عمران) إنما يريد به وقت قيام الساعة، فإن المشركين سألوا النبيّ ﷺ عن الساعة: أيّان مرساها ومتى وقوعها، فالمتشابه إشارة إلى علم الغيب، فليس يَعلم عواقب الأمور إلا اللهُ عزَّ وجلَّ، ولهذا قال: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ {53} (الأعراف)، أي هل ينظرون إلا قيام الساعة. وكيف يسوغ لقائلٍ أن يقول في كتاب الله تعالى ما لا سبيل لمخلوق إلى معرفته، ولا يعلم تأويله إلا الله، أليس هذا مِن أعظم القدح في النبوّات، وأن النبيّ ﷺ ما عرف تأويل ما ورد في صفات الله تعالى ودعا الخلقَ إلى علم ما لا يعلم؟ أليس يقول: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ {195} (الشعراء)، فإذًا على زعمهم يجب أن يقولوا كَذَبَ حيث قال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ {195} (الشعراء) إذ لم يكن معلومًا عندهم، وإلا فأين هذا البيان؟! وإذا كان بلُغَةِ العرب فكيف يُدَّعى أنه مما لا تعلمه العرب لَـمَّا كان ذلك الشىء عربيًّا. فما قولٌ في مقالٍ مآله إلى تكذيب الربّ سبحانه؟» اهـ. ثم قال القشيريّ: «ثم كان النبيّ ﷺ يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى، فلو كان في كلامه وفي ما يلقيه إلى أمته شىء لا يعلم تأويله إلا الله تعالى، لكان للقوم أن يقولوا: بَيّن لنا أولًا مَنْ تدعونا إليه وما الذي تقول، فإنّ الإيمان بما لا يُعْلَمُ أصلُه غير متأتّ» اهـ. ويردّ القشيريّ قائلًا: «ونسبة النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى أنه دعا إلى ربّ موصوف بصفات لا تُعقل أمر عظيم لا يتخيّله مسلم، فإن الجهل بالصفات يؤدّي إلى الجهل بالموصوف، والغرض أن يستبين من معه مسكة من العقل([7]) أنَّ قول مَن يقول: استواؤه صفة ذاتية لا يُعْقَلُ معناها، واليد صفة ذاتية لا يُعْقَلُ معناها، والقَدم صفة ذاتية لا يُعْقَلُ معناها، تمويه ضِمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل. وقد وضح الحق لذي عينين، وليت شِعري هذا الذي ينكر التأويل يطرد هذا الإنكار في كلّ شىء وفي كلّ آية! أم يقنع بترك التأويل في صفات الله تعالى؟ فإن امتنع من التأويل أصلًا فقد أبطل الشريعة والعلوم، إذ ما من آية أو خبر إلا ويحتاج إلى تأويل وتََصَّرُّف في الكلام([8])، لأنّ ثَمَّ أشياء لا بدّ من تأويلها لا خلاف بين العقلاء فيه إلا الملحدة الذين قَصْدُهُمُ التعطيلُ للشرائع، والاعتقاد لهذا يؤدّي إلى إبطال ما هو عليه من التمسّك بالشرع بزعمه. وإن قال يجوز التأويل على الجملة إلا في ما يتعلّق بالله وبصفاته فلا تأويل فيه فهذا مصيرٌ منه إلى أنّ ما يتعلّق بغير الله تعالى يجب أن يُعلم، وما يتعلّق بالصانع وصفاته يجب التقاصي عنه، وهذا لا يرضى به مسلم» اهـ. ويشرح القشيري حال هؤلاء المجسمة قائلًا: «وسرّ الأمر أنَّ هؤلاء الذين يمتنعون عن التأويل معتقدونَ حقيقةَ التشبيه غير أنهم يدلّسون ويقولون: له يد لا كالأيدي، وقدم لا كالأقدام، واستواء بالذات لا كما نعقل فيما بيننا. فليقل المحقّق: هذا كلام لا بدّ له من استبيان، قولُكُمْ: نُجري الأمر على الظاهر ولا يعقل معناه، تناقض، إن أَجْرَيْتَ على الظاهر فظاهر السياق([9]) في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ {42} (القلم) هو العضو المشتمِل على الجلد واللحم والعظم والعصب والمخ، فإن أخذتَ بهذا الظاهر والتزمت بالإقرار بهذه الأعضاء فهو الكفر، وإن لم يمكنك الأخذ بها ـ أي إن كنت لا تقول بذلك ـ فأين الأخذ بالظاهر؟ ألستَ قد تركت الظاهر وعلمت تقدُّس الربّ تعالى عمّا يوهم الظاهر، فكيف يكون أخذًا بالظاهر؟ وإن قال الخصم: هذه الظواهر لا معنى لها أصلًا فهو حُكْمٌ بأنها ملغاة، وما كان في إبلاغها إلينا فائدة وهي هَدَر وهذا محال. وفي لغة العرب ما شئت من التجوّز والتوسُّع في الخطاب، وكانوا يعرفون موارد الكلام ويفهمون المقاصد. فمن تجافى عن التأويل فذلك لقلّة فهمه بالعربية، ومن أحاط بطرقٍ منَ العربية هان عليه مدركُ الحقائق. وقد قيل في قول الله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ {7} (آل عمران): فكأنه قال: والراسخون في العلم أيضًا يعلمونه ويقولون: آمنّا به، فإن الإيمان بالشىء إنما يُتصوّر بعد العلم، أما ما لا يُعلم فالإيمان به غير متأتّ، ولهذا قال ابن عبّاس([10]): «أنا من الرّاسخين في العلم» اهـ. كلام القشيريّ، نقله الزَّبيديّ وأقرّه.
فهنا مسلكان كلٌّ منهما صحيح:
الأول: مسلك السلف، -وهم أهل القرون الثلاثة الأولى- أي الغالب عليهم، فإنهم يؤولونها تأويلًا إجماليًّا بالإيمان بها واعتقاد أنّ لها معنًى يليق بجلال الله وعظمته بلا تعيين، وردّوا تلك الآيات إلى الآيات المُحْكَمة، كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ {11} (الشورى).
وهذا كما قال الإمام الشافعيّ رضي الله عنه([11]): «آمنت بما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله([12])» اهـ.
ثم نَفْيُ التأويل التفصيليّ عن السلف كما زعم بعضٌ مردودٌ بما في صحيح البخاريّ في كتاب تفسير القرآن وعبارته هناك([13]): «سورة القصص (كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ {88}(، إلا مُلْكَهُ» اهـ. أي سلطان الله تعالى وهو صفة من صفات الله وقد تقدّم ذكره.
وأَوَّلَ البخاريُّ كذلك الضحكَ الواردَ في الحديث بالرحمة، فقد قال ابن حجر العسقلاني([14]): «قوله «يضحكُ اللهُ إلى رجلينِ»، قال الخطابي: الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى، وإنما هذا مَثَل ضُرِب لهذا الصنيع الذي يحل محل الإعجاب عند البشر، فإذا رأوه أضحكهم، ومعناه الإخبار عن رضا الله بفعل أحدهما وقبوله للآخر ومجازاتهما على صنيعهما بالجنة مع اختلاف حاليهما. قال: وقد تأوَّل البخاريُّ الضحكَ على معنى الرحمة وهو قريب، وتأويله على معنى الرضا أقرب، فإن الضحك يدل على الرضا والقبول » اهـ.
وصحّ أيضًا التأويل التفصيليّ عن الإمام أحمد رضي الله عنه وهو من السلف فقد ثبت عنه رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا {22} (الفجر) جاءت قدرته، صحّح سنده الحافظ البيهقيّ([15])، ومعناها جاءت آثار قدرته من المخلوقات مثل الأهوال العظيمة التي تظهر يوم القيامة، ومنها أنّ الملائكة يجرّون جزءًا من جهنم بسبعين ألف سلسلة إلى حيث يراه الناس، هذا موقف عظيم من أهوال يوم القيامة، ثم الأرض التي كان الإنسان يعمل عليها الحسنات والمعاصي، يأتي الله تعالى بكلّ قطعة منها فتشهد عليه، وتنطق: فلان عمِل عليّ كذا وكذا من حسنات ومن معاصٍ، القطعة من الأرض التي كان يعيش عليها في الدنيا تشهد عليه، أما المعاصي التي تاب منها لا تشهد عليه بها، هذه من جملة الأمور العظيمة، وهذا يكون بعدما تدكّ الأرض ولا يبقى عليها وادٍ ولا جبل، الأرض الجديدة تصير كالفضّة البيضاء، الناس يعادون إليها، بعد ذلك يؤتى بقطعة من الأرض التي بُدّلت فتشهد بما فعله هذا الإنسان من خير أو شرّ، بالنسبة لهذا وبالنسبة لهذا، هذه من آيات قدرة الله: (وَجَاء رَبُّكَ) معناه الله يُظْهِرُ ذلك اليوم أمورًا عظامًا تبهر العقول.
وهناك خلق كثير من العلماء ذكروا في تآليفهم أن الإمام أحمد رضي الله عنه أوَّل تأويلًا تفصيليًّا، منهم الحافظ عبد الرحمن بن الجوزيّ الحنبليّ الذي هو أحد أساطين المذهب الحنبليّ لكثرة اطّلاعه على نصوص المذهب وأحوال الإمام أحمد.
وقال ملا عليّ القاري([16]): «علمت أن مالكًا والأوزاعيّ ـ وهما من كبار السلف ـ أوَّلا الحديث تأويلًا تفصيليًّا. ومنهم الإمام جعفر الصادق، بل قال جمع منهم ومن الخَلَف: «إن معتقد الجهة كافر» اهـ. وهذا واضح، ومثله ما صرّح به العراقيّ، وقال: إنه قولٌ لأبي حنيفة ومالك والشافعيّ والأشعريّ والباقلانيّ.
وقد اتفق سائر الفرق على تأويل نحو: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ {4} (الحديد) أي مَعِيَّة العلم والإحاطة، كما قال تعالى لموسى وأخيه هارون: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ {7} (المجادلة)، وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {115} (البقرة) قال مجاهد([17]): قِبلة الله، فأينما كنت في شرق أو غرب فلا توجهن إلا إليها، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} (ق)، أي لا يخفى على الله خافية» اهـ.
الثاني: مسلك الخَلَف، وهم مَنْ جاءَ بعد القرون الثلاثة الأولى، وهم يؤولون تلك الآيات المتشابهات تفصيلًا بتعيين معانٍ لها مما تقتضيه لغة العرب ولا يحملونها على ظواهرها أيضًا كالسلف، ولا بأس بسلوكه لا سيّما عند الخوف من تزلزل العقيدة حفظًا من التشبيه، مثل قوله تعالى في توبيخ إبليس: مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ {75} (ص)، فيجوز أن يقال المراد باليدين العناية([18])، والمراد بذلك تكريم نبيّ الله آدم عليه الصلاة والسلام.
وإذا كان المجسمة قد بالغوا في القدح في مسلك التأويل الإجمالي لتمسكهم بالظواهر والعياذ بالله، وهو ما لم يفعله السلف، فمن باب الأولى عندهم أن يبالغوا في القدح في التأويل التفصيلي الذي أسموه تعطيل الصفات! وقد أخذوه من أشخاص غرقوا في متاهات التجسيم والعياذ بالله، منهم الجعد ابن درهم([19])، قال البيهقيّ([20]): «زعم ـ أي الجعد بن درهم ـ أنَّ الله تعالى لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلّم موسى تكليمًا، سبحانه وتعالى عما يقول الجعد بن درهم علوًّا كبيرًا، قال أبو رجاء: وكان الجهم يأخذ هذا الكلام من الجعد بن درهم» اهـ. وقال أبو منصور البغداديّ([21]): «والجهمية أتباع جهم بن صفوان الذي زعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وزعم أيضًا أن علم الله تعالى حادث، وامتنع من وصف الله تعالى بأنه شىء أو حيّ أو عالم أو مريد وقال: لا أصفه، وقال بحدوث كلام الله تعالى كما قالته القدرية، ولم يسمّ اللهَ تعالى متكلمًا به، وأكفره أصحابنا في جميع ضلالاته» اهـ.
ومن رؤوسهم ابن تيمية المجسّم الذي قال في كتابه المسمى بيان تلبيس الجهمية([22])، -عِلْمًا أنه قد تبع الجهمية في بعض مقالاته([23])-: «فمن ادَّعى أنه ليس لله حدٌّ فقد ردّ القرآن وادَّعى أنه لا شىء لأن الله وصف حدَّ مكانِه في مواضع كثيرة من كتابه فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} (طه)، أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء{16} (الملك)، يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ {50} (النحل)، إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ {55} (آل عمران)، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ {10} (فاطر)، فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحدّ، ومن لم يعترف به فقد كفر بتنـزيل الله تعالى، وجحد آيات الله تعالى» اهـ. فكلام ابن تيمية المجسّم هذا تكفير لأمة سيدنا محمد ﷺ سلفها وخلفها، لاتفاقهم على نفي الحدّ عن الله تعالى، كما قال سيدنا عليٌّ رضي الله عنه([24]): «من زعم أن إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود» اهـ. فماذا يقول ابن تيمية في سيدناعلي رضي الله عنه؟ هل يقول إنه كافر بتنزيل الله وجاحد لآياته؟!
وقال ابن تيمية([25]) ما نصه: «وقال أهل السّنة في قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} (طه) الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز» اهـ. وهذا زور وبهتان كعادته الخبيثة في الافتراء على أهل السّنة. ويقول في الفتوى الحموية ما نصه([26]): «فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة» اهـ.
وقد تقدّم أن كلام أهل السّنة يدل على أنَّ استوى تأتي بمعنى استولى، وهناك أكثر من سبعين عالِـمًا من السلف والخلف أوّلوا كلمة «استوى» المضافة إلى الله تعالى في قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} (طه): باستولى، ومنهم: الإمام المجتهد الحافظ السلفيّ عبد الله بن يحيى بن المبارك في غريب القرآن وتفسيره([27])، والإمام اللغويّ إبراهيم بن السريّ الزَّجَّاج في معاني القرآن([28])، والإمام أبو منصور الماتريديّ الحنفيّ في تأويلات أهل السُّنَّة([29])، واللغويّ الزجاجيّ([30]) في اشتقاق أسماء الله، والشيخ أبو بكر الرازيّ الجصّاص الحنفيّ في أحكام القرآن([31])، وإمام الحرمين أبو المعالي الجوينيّ الشافعيّ في الإرشاد([32]) وغيرهم كثير([33]). قال الحافظ أبو بكر بن العربيّ في عارضة الأحوذي شرح الترمذي ما نصه([34]): «وللاستواء في كلام العرب خمسة عشر معنى ما بين حقيقة ومجاز، منها ما يجوز على الله فيكون معنى الآية، ومنها ما لا يجوز على الله بحال، وهو إذا كان الاستواء بمعنى التمكن أو الاستقرار أو الاتصال أو المحاذاة، فإن شيئًا من ذلك لا يجوز على البارئ تعالى ولا يضرب لـه الأمثال به في المخلوقات، وإما أن لا يُفسّر» اهـ.
وفي كتاب المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهانيّ ما نصه([35]): «واستوى يقال على وجهين: أحدهما: يسند إليه فاعلان فصاعدًا نحو استوى زيد وعمرو في كذا أي تساويا، قال تعالى: لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ {19} (التوبة). والثاني: أن يقال لاعتدال الشىء، نحو قوله تعالى: ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى {6} (النجم)، وقوله: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ {28} (المؤمنون)، ومتى عُدّي بـ«على» اقتضى الاستيلاء كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} (طه) وقيل: معناه استوى لـه ما في السمـوات وما في الأرض أي استقام الكل على مراده بتسوية الله إياه كقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ {29} (البقرة)، وقيل: معناه استوى كل شىء في النسبة إليه، فلا شىء أقرب إليه من شىء، إذ كان تعالى ليس كالأجسام الحالّة في مكان دون مكان» اهـ.
ودونك أيّ كتاب في عقيدة المجسمة، فسترى أنهم يذكرون التأويل منسوبًا للجهمية والإلحاد والتعطيل والتحريف، ويصفونه بأنه أصلُ كلّ بدعة وأنه شرٌّ من التشبيه والتعطيل وأنه الطاغوت الأكبر([36])، والحق يقال: هؤلاء المضلّلين الذين وصفوا التأويل بهذه الأوصاف لا يمكنه ترك التأويل في جميع الأخبار، فهل يكون على زعمهم الإلحاد والتعطيل والتحريف والطاغوت مقبولًا في بعض النصوص دون بعض؟! ثم هذا التأويل قد ثبت -كما تقدم- عن أئمة السلف والخلف، فمن أين لهم أن يُشنّعوا هذا التشنيع، ما أجرأهم على الطعن والتطاول على أئمة المسلمين، إذا كان أئمة السلف في صدر الأمة قد أوّلوا وتابعهم على ذلك أئمة الخلف فهل بسلوكهم هذا المسلك يُعدّون معطلين ملحدين، نعوذ بالله من الخِذلان.
[1] ) غاية الوصول شرح لبّ الأصول، زكريا الأنصاري، ص 147.
[2] ) مشكل الآثار، الطحاويّ ، 4/184، 185. المستدرك، الحاكم، 1/553.
[3] ) فتح الباري، ابن حجر، 8/210. كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، التهانوي، 2/711.
[4] ) مفاتيح الغيب، الفخر الرازي، 22/8، 9.
[5] ) تفسير النسفي، النسفي، 3/163.
[6] ) إتحاف السادة المتقين، الزَّبيديّ، 2/110.
[7] ) أي شىء من العقل. تاج العروس، الزبيدي، مادة م س ك، 27/ 338.
[8] ) إلا ما كان نحو قوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ {101} (الأنعام).
[9] ) هكذا في الأصل، ولعل الصواب الساق.
[10] ) زاد المسير، ابن الجوزيّ، 1/354. الدر المنثور، السيوطيّ، 2/152.
[11] ) دفع شبه من شبه وتمرد، تقي الدين الحصني، ص56.
[12] ) يعني رضي الله عنه لا على ما قد تذهب إليه الأوهام والظنون من المعاني الحسّية الجسمية التي لا تجوز في حقّ الله تعالى.
[13] ) صحيح البخاري، البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة القصص، 14/437.
[14] ) فتح الباري، ابن حجر، 6/40. ونقله الحافظ البيهقيّ في كتاب الأسماء والصفات، ص 470.
[15] ) مناقب الإمام أحمد، البيهقي، مخطوط. ونقل ذلك ابن كثير في البداية والنهاية، البداية والنهاية، 10/275. وعزاه للبيهقي في مناقب أحمد،
[16] ) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، ملا علي القاري، 2/ 137.
[17] ) مجاهد بن جبر، ت 104هـ، أبو الحجاج المكيّ، مولى بني مخزوم، تابعيّ مفسر من أهل مكة. قال الذهبيّ: «شيخ القراء والمفسرين» اهـ. أخذ التفسير عن ابن عباس، قرأه عليه ثلاث مرات، يقف عند كل آية يسأله: فيم نزلت وكيف كانت؟ وتنقَّل في الأسفار، واستقر في الكوفة. حلية الأولياء، أبو نعيم، 3/279. صفة الصفوة، ابن الجوزيّ، 2/117. الأعلام، الزركلي، 5/278.
[18] ) مفاتيح الغيب، الرازي، 26/413.
[19] ) الجعد بن درهم، ت 118هـ، مبتدع، له أخبار في الزندقة. قال الذهبيّ: «مبتدع ضال، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلًا ولم يكلم موسى، فقُتل على ذلك بالعراق يوم النحر» اهـ. وقال ابن الأثير: «كان مروان يلقب بالجعديّ، لأنه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر، وقيل: كان الجعد زنديقًا شهد عليه ميمون بن مهران، فطلبه هشام، فظفر به، وسيّره إلى خالد القسريّ في العراق فقتله» اهـ. كان يقول بخلق القرآن، وهو أول من تكلم بذلك في دمشق، وكان يقول بنفي الصفات ـ وهو كفر والعياذ بالله تعالى ـ. الأعلام، الزركلي، 2/120.
[20] ) الأسماء والصفات، البيهقي، ص329.
[21] ) الفرق بين الفرق، أبو منصور البغداديّ، 1/199.
[22] ) بيان تلبيس الجهمية، ابن تيمية، ص 427.
[23] ) ذلك أن ابن تيمية قال بفناء النار فوافق جهمًا في نصف عقيدته لأن جهمًا قال بفناء الجنة والنار، على أن المشبهة يطلقون لفظ (الجهمية) ويريدون بذلك الأشاعرة. وغرضهم في ذلك التشنيع على مقالة الأشاعرة في تنزيه الله عن الحدّ والكيفية.
[24] ) حلية الأولياء، أبو نعيم، 1/72 ،73.
[25] ) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، 3/220.
[26] ) الفتوى الحموية، ابن تيمية، 1/521.
[27] ) غريب القرآن وتفسيره، ابن المبارك، ص113.
[28] ) معاني القرآن، الزجاج، 3/350.
[29] ) تأويلات أهل السّنة، الماتريدي، 1/85.
[30] ) الزجاجي يوسف بن عبد الله الزجاجي الجرجاني أبو القاسم، ت 415هـ. أديب لغوي، محدّث نسبته إلى شيخه الزجّاج. من كتبه: «عمدة الألباب»، و«اشتقاق الأسماء». الأعلام، الزركلي، 8/239.
[31] ) أحكام القرآن، أبو بكر الرازي، 1/35.
[32] ) الإرشاد، الجويني، ص59.
[33] ) الأسماء والصفات، البيهقي، ص519. الغنية، المتولي، ص78. المفردات في غريب القرآن، الأصفهاني، ص251. إحياء علوم الدين، الغزالي، 1/128.
[34] ) عارضة الأحوذيّ بشرح صحيح الترمذيّ، أبو بكر بن العربيّ المالكيّ، 2/236 .
[35] ) المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهانيّ، 1/439، 441.
[36] ) الفتوى الحموية، ابن تيمية، ص118. الكتاب المسمّى جواب أهل السّنة، عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص95. الكتاب المسمّى فتح رب البرية، ابن عثيمين ص114. الكتاب المسمّى الماتريدية، أحمد اللهيبـــيّ، ص169، 173. الكتاب المسمّى مختصر العقيدة الإسلامية، طارق السويدان، ص60. ملاحظات على الباجوريّ، عمر بن محمود، ص42. وكلّهم من دعاة التشبيه.