الأحد ديسمبر 7, 2025

المقدمة الثانية

قال الحافظ ابن الجوزي: «واعلم أن الطريق الموصلة إلى الحق سبحانه ليست مما يقطع بالأقدام إنما يقطع بالقلوب، والشهوات العاجلة قطاع الطريق والسبيل كالليل المدلهم، غير أن عين الموفق بصر فرس لأنه يرى في الظلمة كما يرى في الضوء، والصدق في الطلب منار أين وجد يدل على الجادة، وإنما يتعثر من لم يخلص، وإنما يمتنع الإخلاص ممن لا يراد، فلا حول ولا قوة إلا بالله »[(6)] اهـ.

وقال في موضع آخر: «ومن ضرورة الإخلاص ألا يقصد التفات القلوب إليه، فذاك يحصل لا بقصده بل بكراهته لذلك» [(7)] اهـ.

وقال أيضًا: «فالله الله في إصلاح النيات فإن جمهور هذه الأعمال مردود، قال مالك ابن دينار: «وقولوا لمن لم يكن صادقا لا يتعنّ» أي لا يتعب، وليعلم المرائي أن الذي يقصده يفوته وهو التفات القلوب إليه، فإنه متى لم يخلص حرم محبة القلوب، ولم يلتفت إليه أحد، والمخلص محبوب، فلو علم المرائي أن قلوب الذين يرائيهم بيد من يعصيه لما فعل .

وكم رأينا من يلبس الصوف ويظهر النسك لا يلتفت إليه وآخر يلبس جيد الثياب ويبتسم والقلوب تحبه. نسأل الله عز وجل إخلاصا يخلصنا ونستعيذ به من رياء يبطل أعمالنا إنه قادر» [(8)] اهـ.

وما أحسن قوله رحمه الله في نفس الكتاب: «من رزق همة عالية يعذب بمقدار علوها كما قال الشاعر:

وإذا كانت النفوس كبارا

تعبت في مرادها الأجسام

.. ثم إذا حقق الإخلاص في الأعمال زاد تعبه (أي تعب صاحب الهمة) وقوى وصبه، فأين هو ومن دنت همته؟

.. ولكن تعب العالي الهمة راحة في المعنى، وراحة القصير الهمة تعب وشين … والدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي، فينبغي لذي الهمة ألا يقصر في شوطه، فإن سبق فهو المقصود، وإن كبا جواده مع اجتهاده لم يلم» [(9)] اهـ بتصرف.

وقال ممشاد الدينوري رأيت في بعض أسفاري شيخا توسمت فيه الخير، فقلت له: «يا سيدي كلمة تزودني بها، قال: همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراءها من الأعمال والأحوال »[(10)] اهـ.

فإذا تنبه البصير بزمانه العامل لآخرته لهذه المعاني الشريفة كان حريصًا على إنقاذ الناس من براثن أهل الهوى والبدع الذين يدّعون أنهم يحاربون البدع، وقد أردت من التذكير بذلك أن يستعين السني بهما (الإخلاص والهمة العلية) في دفاعه عن دينه.

ـ[6]  صيد الخاطر (ص/358).

ـ[7]  صيد الخاطر (ص/367).

ـ[8]  صيد الخاطر (ص/391).

ـ[9]  صيد الخاطر (ص/465).

ـ[10] انظر صفة الصفوة للحافظ ابن الجوزي (4/434).