الثلاثاء مارس 18, 2025

المقالة الثانية : قوله بحوادث لا أول لها لم تزل مع الله
أي لم يتقدم الله جنس الحوادث، وإنما تقدم أفراده المعينة أي أن كل فرد من أفراد الحوادث بعينه حادث مخلوق، وأما جنس الحوادث فهو أزلي كما أن الله أزلي، أي لم يسبقه الله تعالى بالوجود.
وهذه المسألة من أبشع المسائل الاعتقادية التي خرج بها عن صحيح العقل وصريح النقل وإجماع المسلمين، ذكر هذه العقيدة في خمسة من كتبه: موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول ومنهاج السنة النبوية، وكتاب شرح حديث النزول، وكتاب شرح حديث عمران بن حصين، وكتاب نقد مراتب الإجماع، وكل هذه الكتب مطبوعة.
أما عبارته في الموافقة فهي ما نصه [1]: وأما أكثر أهل الحديث ومن وافقهم فإنهم لا يجعلون النوع حادثًا بل قديمًا، ويفرقون بين حدوث النوع وحدوث الفرد من أفراده كما يفرق جمهور العقلاء بيم دوام النوع ودوام الواحد من أعيانه اهـ. وقال في موضع ءاخر في رد قاعدة ما لا يخلو من الحادث حادث لأنه لو لم يكن كذلك لكان الحادث أزليًا بعدما نقل عن الأبهري أنه قال: قلنا لا نسلم وإنما يلزم ذلك لو كان شيء من الحركات بعينها لازمًا للجسم، وليس كذلك بل قبل كل حركة لا إلى أول، ما نصه [2]: قلت هذا من نمط الذي قبله فإن الأزلي اللازم هو نوع الحادث لا عين الحادث، قوله لو كانت حادثة في الأزل لكان الحادث اليومي موقوفًا على انقضاء ما لا نهاية له، قلنا: لا نسلم بل يكون الحادث اليومي مسبوقًا بحوادث لا أول لها اهـ.
فهذا من عجائب ابن تيمية الدالة على سخافة عقله قوله بقدم العالم القدم النوعي مع حدوث كل فرد معين من افراد العالم. قال الكوثري [3] في تعلقيه على السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل ما نصه [4]: وأين قدم النوع مع حدوث أفراده؟ وهذا لا يصدر إلا ممن به مس، بخلاف المستقبل، وقال أبو يعلى الحنبلي في [المعتمد]: “والحوادث لها أول ابتدأت منه خلافًا للملحدة” اهـ. وهو من أئمة الناظم –يعني ابن القيم- فيكون هو وشيخه من الملاحدة على رأي أبي يعلى هذا فيكونان أسوأ حالًا منه في الزيغ، ونسأل الله السلامة اهـ.
وقال –أي ابن تيمية- في منهاج السنة النبوية ما نصه [5]: فإن قلتم لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب، قلنا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل…” وقال في موضع ءاخر ما نصه [6]: وحينئذ فيمتنع كون شيء من العالم أزليًا وإن جاز أن يكون نوع الحوادث دائمًا لم يزل، فإن الأزل ليس هو عبارة عن شيء محدد بل ما من وقت يقدر إلا وقبله وقت ءاخر، فلا يلزم من دوام النوع قدم شيء بعينه” اهـ. ومضمون هذا أمران: أحدهما أنه يقرّ ويعتقد قدم الأفراد من غير تعيين شيء منها، ثم هذا يتحصل منه مع ما نقل عنه الجلال الدواني [7] في كتاب شرح العضدية بقوله: وقد رأيت في تأليف لأبي العباس أحمد بن تيمية القول بالقدم الجنسي في العرش. أنه كان يعتقد أن جنس العرش أزلي أي ما من عرش إلا وقبله عرش إلى غير بداية وأنه يوجد ثم ينعدم ثم يوجد ثم ينعدم وهكذا، أي أن العرش جنسه أزلي لم يزل مع الله ولكن عينه القائم الآن حادث.
وفي كتاب ابن تيمية ليس سلفيًا ما نصه [8]: قال فضيلة الدكتور سليمان دنيا أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية أصول الدين بالأزهر: قال في كتابه [الحقيقة في نظر الغزالي] صحيفة 545، 456 نقلًا عن شرح العقائد العضدية لجلال الدين الدواني إن ابن تيمية قائل بقدم العالم بالجنس بمعنى أنه لا يزال فرد من أفراد العالم موجودًا، وما من جزء من أجزاء الزمان إلا وقد كان فيه حادث إلى غير نهاية، وذلك أن ابن تيمية كان من الحنابلة الآخذين بظواهر الآيات والأحاديث القائلين بأن الله استوى على العرش جلوسًا، فلما أورد عليهم أنه يلزم أن يكون العرش أزليًا لما أن الله أزلي فمكانه أزلي قال: إنه قديم بالنوع أي أن الله لا يزال يعدم عرشًا ويحدث ءاخر من الأزل إلى الأبد حتى يكون له الاستواء أزلًا وأبدًا اهـ.
وعبارة الدواني في شرح العضدية: وقد رأيت في تأليف لأبي العباس أحمد بن تيمية القول بالقدم الجنسي في العرش اهـ. ومن علم هذا علم صحة قول الحافظ أبو زرعة العراقي في ابن تيمية أن علمه أكبر من عقله، يعني أن حظه كثرة المحفوظات لا صحة الفهم.

والأمر الثاني أنه أثبت قدم الزمان.
وقال في موضع ءاخر من المنهاج [9] ما نصه: ومنهم من يقول بمشيئته وقدرته –أي أن فعل الله بمشيئته وقدرته- شيئًا فشيئًا، لكنه لم يزل متصفًا به فهو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف اهـ. انظروا كيف افترى كعادته هذه المقولة الخبيثة على أئمة الحديث، وهذا شيء انفرد به ووافق به متأخري الفلاسفة، لكنه تقوّل على أئمة الحديث والفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم وافترى عليهم، ولم يقل أحد منهم ذلك لكن أراد أن يروّج عقديته المفتراة بين المسلمين على ضعاف الأفهام، ويربأ بنفسه عن أن يقال إنه وافق الفلاسفة في هذه العقيدة.
وقد ردّ على ابن حزم في نقد مراتب الإجماع [10] لنقله الإجماع على أن الله لم يزل وحده ولا شيء غيره معه، وأن المخالف بذلك كفر باتفاق المسلمين، فقال ابن تيمية بعد كلام ما نصه: وأعجب من ذلك حكايته الإجماع على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحده ولا شيء غيره معه اهـ. وهذه عبارته في نقد مراتب الإجماع فهذا صريح في اعتقاده أن جنس العالم أزلي لم يتقدمه الله بالوجود.
أما عبارته في شرح حديث عمران بن الحصين [11] فهي: “وإن قدّر أن نوعها –أي الحوادث- لم يزل معه فهذه المعية لم ينفها شرع ولا عقل، بل هي من كماله، قال تعالى: {أفمن يخلُقُ كمن لا يخلقُ أفلا تَذَكَّرونَ} [سورة النحل/17]”. وقال: “والخلق لا يزالون معه” إلى أن قال: “لكن يشتبه على كثير من الناس النوع بالعين” اهـ.
وقال في شرح حديث النزول [12] في الرد على من قال: ما لا يخلو من الحوادث حادث، وعلى من قال: ما لا يسبق الحوادث حادث، ما نصه: إذ لم يفرقوا بين نوع الحوادث وبين الحادث المعين اهـ. يريد أن القول بقيام حوادث لا أول لها بذات الله لا يقتضي حدوثه.
وقد أثبت هذه العقيدة عن ابن تيمية الحافظ السبكي في رسالته الدرة المضية، وأبو سعيد العلائي.
فقد ثبت عن السبكي ما نقله عنه تلميذه الصفدي وتلميذ ابن تيمية أيضًا في قصيدته المشهورة عند المنتصرين لابن تيمية وقد تضمنت الرد على الحلي ثم ابن تيمية لقوله بأزلية جنس العالم وأنه يرى حوادث لا ابتداء لوجودها كما أن الله لا ابتداء لوجوده قال –أي السبكي- ما نصه:
ولاين تيمية ردٌّ عليه وفى *** بمقصدِ الردِّ واستيفاءِ أضْربهِ
لكنه خلطَ الحقَّ المبين بما *** يشوبُهُ كدرٌ في صفوِ مشربهِ
يُحاولُ الحشوَ أنَّى كان فهو لهُ *** حثيثُ سيرٍ بشرقٍ أو بمغربهِ
يرى حوادثَ لا مبدا لأوَّلها *** في اللهِ سبحانهُ عما يظنُّ بهِ
وقال العلامة البياضي الحنفي في كتابه إشارات المرام [13] بعد ذكر الأدلة على حدوث العالم ما نصه: “فبطل ما ظنه ابن تيمية من قدم العرش كما في شرح العضدية” اهـ.
هذا، وقد نقل المحدث الأصولي بدر الدين الزركشي في تشنيف المسامع [14] اتفاق المسلمين على كفر من يقول بأزلية نوع العالم فقال بعد أن ذكر أن الفلاسفة قالوا: إن العالم قديم بمادته وصورته، وبعضهم قال: قديم المادة محدَث الصورة، ما نصه: “وضللهم المسلمون في ذلك وكفروهم” اهـ. ومثل ذلك قال الحافظ ابن دقيق العيد والقاضي عياض والحافظ ابن حجر في شرح البخاري.
فقول ابن تيمية بأزلية نوع العالم مخالف للقرءان والحديث الصريح وإجماع الأمة وقضية العقل، أما القرءان فقوله تعالى: {هوَ الأولُ والآخرُ} [سورة الحديد/3]، فليس معنى هو الأول إلا أنه هو الأزلي الذي لا أزلي سواه أي أن الأولية المطلقة لله فقط لا تكون لغيره، فأشرك ابن تيمية مع الله غيره في الأولية التي أخبرنا الله بأنها خاصة له، وذلك لأن الأولية النسبية هي في المخلوق، فالماء له أولية نسبية أي أنه اول المخلوقات بالنسبة لغيره من المخلوقات، ثم تلاه العرش ثم حدث ما بعدهما وهو القلم الأعلى واللوح المحفوظ ثم الأرض ثم السماوات، ثم ما ذكره الله تعالى بقوله: {والأرضَ بعدَ ذلكَ دحاها} [سورة النازعات/30].
وأما الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري في كتاب بدء الخلق وغيره: “كان الله ولم يكن شيء غيره” الذي توافقه الرواية الأخرى رواية أبي الزبير: “كان الله قبل كل شيء” ورواية: “كان الله ولم يكن معه شيءٌ”.
وأما رواية البخاري في أواخر الجامع: “كان الله ولم يكن شيء قبله” فترد إلى روايته في كتاب بدء الخلق وذلك متعين، ولا يجوز ترجيح رواية: “كان الله ولم يكن شيء قبله” على رواية: “كان الله ولم يكن شيء غيره” كما أومأ إلى ذلك ابن تيمية، لأن ظاهر رواية: “كان الله ولم يكن شيء قبله” يوافق ما يزعمه كما أشار لذلك الحافظ ابن حجر في شرح البخاري عند ذكر حديث: “كان الله ولم يكن شيء قبله” فقال فيما حاول ابن تيمية من ترجيح هذه الرواية على تلك الرواية توصلًا إلى عقيدته من إثبات حوادث لا أول لها ما نصه: وهذه من أشنع المسائل المنسوبة له –يعني ابن تيمية- اهـ.
أقول: ولا أدري لماذا لم يجزم ابن حجر بقول ابن تيمية بهذه المسألة مع أنه ذكر في كتابه لسان الميزان قول الحافظ السبكي في ابن تيمية في تلك الابيات التي منها: يرى حوادث لا مبدا لأولها في الله وأنه يقول بتجدد حوادث في ذات الله كلمات وإرادات بحسب المخلوقات. وهو المراد بقول ابن تيمية نوع العالم أزلي وأفراده حادثة.
وكذلك رواية مسلم: “اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء” ترد إلى رواية البخاري: “كان الله ولم شيء غيره” فإن لم ترد ورجحت رواية مسلم كان ذلك رجوعًا إلى قول الفلاسفة وإلغاء لرواية البخاري.

فخالف ابن تيمية القرءان والحديث وقضية العقل التي لم يخالف فيها إلا الدهرية وامثاله، وهذا ليس مشكوكًا في نسبته إلى ابن تيمية ذكر ذلك في خمسة من كتبه كما مر، وعبّر في بعضها بأزلية جنس العالم. ولو لم يكن نص ابن تيمية في كتبه الخمسة التي هي في متناول من يريد الاطلاع عليها لأنها طبعت، لكفى شهادة الحافظين الإمامَيْن الجليلين المتفق على إمامتهما تقي الدين السبكي وأبو سعيد العلائي، وقد تقدمت ترجمة السبكي في كتاب أعيان العصر لتلميذه الصفدي بتوسع ووصفه له بالثناء البالغ ليُنزل بمنزلته لما صح من حديث رسول الله: “أنزلوا الناس منازلهم” رواه أبو داود من حديث عائشة.
وابن تيمية قد أخذ هذه المسألة أعني قوله بقدم نوع العالم عن متأخري الفلاسفة لأنه اشتغل بالفلسفة كما قال الذهبي وإن كان معروفًا بتشديد النكير على إرسطو وغيره لقولهم العالم أزلي بجنسه وتركيبه وصورته على أن قسمًا من الفلاسفة لم يقولوا بهذه المقالة قال ابن أمير الحاج في كتابه التقرير والتحبير [15]: بخلاف إجماع الفلاسفة على قدم العالم –يعني أنه لا يعتبر- لأنه عن نظر عقلي يزاحمه الوهم فإن تعارض الشبه واشتباه الصحيح بالفاسد فيه كثير ولا كذلك الإجماع في الشرعيات فإن الفرق فيها بين القاطع والظني بيّن لا يشتبه على أهل المعرفة والتمييز فضلًا عن المحققين المجتهدين، على أن التواريخ دلت على من يقول بحدوث العالم منهم –أي الفلاسفة- فلا إجماع لهم على ذلك، فقد قال الفقيه المحدث الحنفي تلميذ الحافظ ابن حجر في شرحه على تحرير ابن الهمام في الأصول ممزوجًا مع المتن ما نصه: وجدت بحجر في أساس الحائط الجيروني من جامع دمشق حسبما ذكره الإمام القفطي في كتابه إنباء الرواة على أنباء النحاة ولا بأس بسوقه ذكر المشار إليه في ترجمة أبي العلاء المقري عمن ذكر أنه قرئ بحضرته يومًا: أن الوليد لما تقدم بعمارة دمشق أمر المتولين لعمارته أن لا يضعوا حائطًا إلا على جبل فامتثلوا، وتعسّر عليهم وجود جبل لحائط جهة جيرون وأطالوا الحفر امتثالًا لمرسومه، فوجدوا رأس حائط مكين العمل كثير الأحجار يدخل في عملهم، فاعلموا الوليد أمره وقالوا نجعل رأسه أسًّا فقال: اتركوه واحفروا قدامه لتنظروا أسّه وُضِع على حجر أم لا؟ ففعلوا ذلك فوجدوا في الحائط بابًا وعليه حجر مكتوب بقلم مجهول، فأزالوا عنه التراب بالغسل ونزلوا في حفره لونًا من الاصباغ فتميزت حروفه وطلبوا من يقرؤها فلم يجدوا ذلك، وتطلب الوليد المترجمين من الآفاق حتى حضر منهم رجل يعرف اليونانية الأولى فقرأ الكتابة الموجودة فكانت: باسم الموجد الأول أستعين، لما أن كان العالم محدثًا لاتصال أمارات الحدوث به وجب أن يكون له محدِث لا كهؤلاء كما قال ذو السنين وذوي اللحيين وأشياعهما حينئذ أمر بعمارة هذا الهيكل من صلب ماله محب الخير على مضي ثلاثة ءالاف وسبعمائة عام لاهل الأسطوان، فإن رأى الداخل إليه ذكر بانيه عند بارئه بخير فعل والسلام اهـ.
ونقل ذلك أيضًا الحافظ المؤرخ شمس الدين بن طولون في كتابه ذخائر القصر قال ما نصه: ووجد مكتوب على عتبة على أساس الجامع الأموي بدمشق بالقلم اليوناني وفسر: باسم الحي الأزلي لما كان العالم محدَثًا وجب أن يكون له محدِث ليس هو كهو فأدت الضرورة إلى تعظيمه والخضوع لقربه لا كما قال ذو اللحيين وذو السنين وأشياعهما انتدب لعمارة هذا الهيكل المبارك والإنفاق عليه من ماله محب الخير فإن أمكن الداخل فيه ذكر بانيه عند بارئه بشيء من خير شُكِرَ فعله والسلام وذلك لألفي سنة مضت لأصحاب الأسطوان اهـ.
الهوامش:
[1] أنظر الموافقة [1/75].
[2] أنظر الموافقة [1/245].
[3] محمد زاهد بن الحسن الكوثري [1296-1371هـ=1879- 1952ر] فقيه حنفي، تفقه في جامع الفاتح بالأستانة ودرس فيه، ثم جاء إلى الإسكندرية عام 1922ر. ثم استقر في القاهرة موظفًا في دار المحفوظات، له تآليف كثيرة منها: الاستبصار في التحدث عن الجبر والاختيار، وله نحو مائة مقالة جمعت في كتاب مقالات الكوثري.
[4] أنظر السيف الصقيل [ص/74].
[5] أنظر المنهاج [1/24].
[6] أنظر المنهاج [1/109].
[7] الدواني عالم مشهور ترجمه الحافظ السخاوي في البدر الطالع ووثقه.
[8] أنظر الكتاب [ص/242] لمنصور محمد محمد عويس.
[9] انرظ المنهاج [1/224].
[10] انظر نقد مراتب الإجماع [ص/168].
[11] انظر الكتاب [ص/193].
[12] انظر الكتاب [ص/161].
[13] انظر الكتاب [ص/197].
[14] انظر تشنيف المسامع [ص/342] [مخطوط].
[15] انظر الكتاب [3/84].