لم يكن سيدنا موسى عليه السلام نموذجًا للرجل المندفع العصبيّ المزاج كما يُفترى عليه في الكتاب المسمّى: (التصوير الفنيّ في القرآن)([1]) لسيد قطب المجسّم الذي صدّره حزب الإخوان وبرّزوه؛ بل كان سيدنا موسى عليه السلام حليمًا رقيق القلب، فقد أخرج البخاريّ في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قسم النبيّ ﷺ قسمة كبعض ما كان يقسم، فقال رجل من الأنصار: والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله – وهذا كفر والعياذ بالله – قلت: أما أنا لأقولنَّ للنبيّ ﷺ فأتيته وهو في أصحابه فساررته فشقَّ ذلك على النبيّ ﷺ وتغيَّر وجهه وغضب حتى وددت أن لم أكن أخبرته. ثم قال: «يرحم الله موسى قد أُوذي بأكثر من هذا فصبر»([2]). قال ابن حجر في معرض بيانه بعض الأمور التي صبر فيها سيدنا موسى عليه السلام: «وأشار بقوله ﷺ: «قد أوذي موسى» إلى قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى} [الأحزاب: 69] قد حُكِيَ في صفة أذاهم ثلاث قصص إحداها: قولهم هو آدر([3])، وقد تقدَّم ضبط ذلك وشرحه في قصة موسى من أحاديث الأنبياء، ثانيها: في قصة موت هارون وقد أوضحته أيضًا في قصة موسى، ثالثها: في قصته مع قارون حيث أمر البغيَّ أن تزعم أن موسى راودها حتى كان ذلك سبب هلاك قارون، وقد تقدم ذلك في قصة قارون في آخر أخبار موسى من أحاديث الأنبياء»([4]).اهـ.
وقال الله تعالى في مدح أنبيائه عليهم السلام: {وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 86]، وقضيةُ تفضيلهم جعلهم على أحسن خَلْقٍ وأعدله وأفضل خُلُقٍ وأتـمّه، فوصفُ سيدنا موسى بأنه كان متَسخّطًا حَنِقًا يستشيط غضبًا مضادٌ للآية وتنقيص لشأن سيدنا موسى عليه السلام، والعياذ بالله من الضلال، قال تعالى: { وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136]، وأما سيد قطب فكفرياتُه وأخطاؤه لا يحصيها إلا الله، ومنها ما أدت به إلى القدح والذَّمّ بسيدنا موسى عليه السلام فقال في كتابه المسمّى «التصوير الفنيّ في القرآن» ما نصّه: «لنأخذ موسى إنه نموذج للزعيم المندفع العصبي المزاج»، ويقول في الصحيفة التالية: «فلندعه هنا لنلتقي به في فترة ثانية من حياته بعد عشر سنوات، فلعله قد هدأ وصار رجلًا هادئ الطبع حليم النفس»([5]).اهـ.
ولا يخفى عليك أيها القارئ المنصِف ما في هذا الكلام من الطعن والقدح بنبيّ الله موسى عليه السلام الذي قال الله عنه في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]. قال القرطبيّ في تفسيرها: «لَـمَّا ذكر الله تعالى المنافقين والكفار الذين آذَوْا رسول الله ﷺ والمؤمنين، حذّر المؤمنين من التعرض للإيذاء، ونهاهم عن التشبّه ببني إسرائيل في أَذِيَّتِهِم نبيَّهم موسى. واختلف الناس في ما أوذي به محمد ﷺ وموسى عليه السلام، فحكى النَّقَّاش([6]) أن أذيتهم محمدًا عليه السلام قولهم: «زيد ابن محمد»، وقال أبو وائل: أذيته أنه ﷺ قَسَمَ قَسْمًا فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أُرِيدَ بها وجه الله، فذكر ذلك للنبيّ ﷺ فغضب وقال: «رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر». وأما أذية موسى ﷺ فقال ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة: هي ما تضمنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ، وذلك أنه قال: «كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة، وكان موسى عليه السلام يتستّر كثيرًا ويخفي بدنه، فقال قوم: هو آدر وأبرص أو به آفة، فانطلق ذات يوم يغتسل في عين بأرض الشام وجعل ثيابه على صخرة، ففرَّ الحجر بثيابه واتبعه موسى عريانًا يقول: «ثوبي حجر، ثوبي حجر» حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فنظروا إليه وهو من أحسنهم خلقًا وأعدلهم صورةً وليس به الذي قالوا فهو قوله تبارك وتعالى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا}»([7]) أخرجه البخاريّ ومسلم بمعناه. ولفظ مسلم قال: قال رسول الله ﷺ: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سَوْءَة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال: فذهب يومًا يغتسل فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر بثوبه، قال: فجمح – أي: جرى جريًا سريعًا – موسى عليه السلام بإثره يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر، حتى نَظَرَتْ بنو إسرائيل إلى سَوْءَة موسى وقالوا: والله ما بموسى من بأس. فقام الحجر حتى نظر إليه، قال: فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربًا»([8])، قال أبو هريرة: والله إنه بالحجر نَدَب([9]) ستة أو سبعة ضرب موسى بالحجر. فهذا قول. وروي عن ابن عباس عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: «آذوا موسى بأن قالوا: قتل هارون، وذلك أن موسى وهارون خرجا من فحص – أي: أرض – التيه([10]) إلى جبل فمات هارون فيه، فجاء موسى فقالت بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشدّ حبًّا، فآذوه بذلك، فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى طافوا به في بني إسرائيل، ورأوا آية عظيمة دلّتهم على صدق موسى عليه السلام، ولم يكن فيه أثر القتل».
فإن قيل: كيف نادى موسى عليه السلام الحجر نداء من يعقل؟ قيل: لأنه صدر عن الحجر فعل من يعقل. و«حجر» منادى مفرد محذوف حرف النداء، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]، و«ثوبي» منصوب بفعل مضمر، التقدير: «أعطني ثوبي، أو اترك ثوبي»، فحذف الفعل لدلالة الحال عليه. قول الله سبحانه: {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا}، أي: عظيمًا. والوجيه عند العرب: العظيم القدر الرفيع المنـزلة. ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئًا أعطاه إياه»([11]). انتهى كلام القرطبيّ وقد تقدَّم بعضه.
وموسى عليه السلام مدحه الله في القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة منها ما جاء في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 51]، وقال الله تعالى لموسى عليه السلام: {إِنَّكَ مِنَ الْأَمِنِينَ} [القصص: 31]، ويكفيه شرفًا ورفعةً أنه كليم الله كما أخبر سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164].
وهنا تنبيه مهم في بيان معنى تكليم الله لسيدنا موسى عليه السلام، قال شيخنا شيخ الإسلام عبد الله الهرريّ مبيّنًا صفة الكلام لله تعالى: «ومعنى صفة الكلام لله أن له صفة هو بها متكلم آمر ناهٍ واعد مُتوَعّد ليس ككلام غيره؛ بل أزليّ بأزلية الذات لا يشبه كلام الخلق. وليس بصوت يحدث من انسلال الهواء أو اصطكاك الأجرام، ولا بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان، ونعتقد أن سيدنا موسى عليه السلام سمع كلام الله الأزليّ بغير حرف ولا صوت كما يرى المؤمنون ذات الله في الآخرة من غير أن يكون جوهرًا ولا عرًضًا، لأن العقل لا يحُيل سماع ما ليس بحرف ولا صوت. وكلامه تعالى الذاتيّ ليس حروفًا متعاقبة ككلامنا. وإذا قرأ القارئ منا كلام الله فقراءته حرف وصوت ليست أزلية، لأن ما يقوم بالمخلوق لا يُعقل أن يكون أزليًّا. وأما مقروؤه فهو عبارة عن الكلام الأزليّ الأبديّ الذي ليس بحروف ولا صوت.
وكُتُب الله المنـزلة من القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وغير ذلك مما أنزله على رسله عبارات عن كلامه الذاتيّ الأزليّ الأبديّ. والعبارة غير المعبَّر عنه، ولذلك اختلفت باختلاف الألسنة. فإذا عُبّر عن الكلام الذاتيّ بحروف القرآن التي هي عربية فقرآن، وبالعبرانية فتوراة، وبالسريانية فإنجيل وزبور. فالاختلاف في العبارات دون المعبَّر عنه. فحروف القرآن حادثة، والمعبَّر عنه بها هو الكلام الذاتيّ القائم بذات الله أزليٌّ. فتبيّن أن القراءة والتلاوة والكتابة حادثة، كما أنه إذا ذُكر اللهُ بألسنةٍ متعددةٍ ولغات مختلفة فإن الذكر حادث والمذكور هو ربّ العباد قديم أزليّ. فوضحَ أن القرآن له إطلاقان: أحدهما: إطلاقه على كلامه الذاتيّ الأزليّ الأبديّ الذي لا يتجزّأ ولا يتبَعَّض، الذي هو ليس عربيًّا ولا سريانيًّا ولا غيرهما من اللغات، فالقرآن بهذا المعنى قديم قطعًا.
والإطلاق الثاني: اللفظ المنزَّل على سيدنا محمد لإعجاز المعارضين بأقصر سورة منه. ويسمّى هذا اللفظ كلام الله أيضًا لأنه دالّ على الكلام الذاتيّ وعبارة عنه.
وكِلا الإطلاقين حقيقة، أما تسمية الأول كلام الله فظاهر لا يحتاج إلى تأويل.
وأما تسمية اللفظ المنزّل كلام الله فلأنه يدل على الكلام الذاتيّ، ولأنه ليس من تأليف جبريل ولا من تأليف سيدنا محمد ﷺ. فالكلام الأزليّ لا يقبل الانفصال والافتراق بالانتقال إلى قلوب العباد والأوراق، ولا التقديم ولا التأخير ولا اللحن ولا الإعراب ولا سائر التغييرات، فتفهموا ذلك رحمكم الله»([12]).اهـ.
[1])) الكتاب المسمّى التصوير الفنيّ في القرآن، سيد قطب، (ص161، 162).
[2])) صحيح البخاري، البخاري، كتاب الأدب، باب: الصبر على الأذى، (4/191)، رقم الحديث 3405.
[3])) من أصيب بالأُدرة، قال الزبيدي: «الأُدرة بالضم مرضٌ تنتفخ منه الخصيتان ويكبران جدًّا».اهـ. تاج العروس،الزبيديّ، مادة: (أ د ر)، (10/40). وقد تقدم.
[4])) فتح الباري، ابن حجر، (10/512).
[5])) الكتاب المسمّى التصوير الفنيّ في القرآن، سيد قطب، (ص161، 162).
[6])) محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون (ت351هـ)، أبو بكر النَّقَّاش، عالم بالقرآن وتفسيره. أصله من الموصل ومنشؤه ببغداد. رحل رحلة طويلة. وكان في مبدأ أمره يتعاطى نقش السقوف والحيطان فعرف بالنقاش. من تصانيفه: (شفاء الصدور) في التفسير، و(الإشارة في غريب القرآن)، و(الموضح في القرآن ومعانيه)، و(المعجم الكبير في أسماء القراء وقراءاتهم). الأعلام، الزركلي، (6/81).
[7])) صحيح البخاري، البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، (4/190).
[8])) تقدَّم تخريجه (ص14).
[9])) «نَدَب: بفتح النون والدال وهو الأثر».اهـ. شرح مسلم، النووي، (2/52).
[10])) التيه هو الموضع الذي ضلّ فيه قوم موسى بن عمران عليه السلام، وهو أرض بين أَيْلَةَ (العقبة) ومصر وبحر القُلْزُم (البحر الأحمر) وهو الآن قلب شبه جزيرة طور سيناء. قال الزبيديّ: «التّيه: موضع تاه فيه بنو إسرائيل بين مصر والعقَبة فلم يَهْتدوا للخروج منه».اهـ. تاج العروس، الزبيديّ، مادة: (ت ي هـ)، (36/361).
[11])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (14/250).
[12])) الدليل القويم على الصراط المستقيم، الهرريّ، (ص227 – 229).