الأحد يونيو 16, 2024

الدرس الثالث والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

الغيبة المحرمة

درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمّد العبدري الحبشي رحمه الله تعالى وهو في بيان الغيبة المحرمةِ والتحذير الواجب. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمّد وعلى ءاله وصحبه.

أما بعد فإن من الأمور المهمة معرفةَ تعريف الغيبةِ أي ما هيَ الغيبة التي حرمها الله تعالى، فالغيبةُ التي حرَّمها الله تعالى فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال: الغيبةُ ذكرُكَ أخاك بما يكره قيل أرأيتَ يا رسولَ الله إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّهُ([1]) اهـ المعنى أنّ ذكرَ المسلمِ أي في خلفه بما يكره غيبةٌ حرَّمها الله تعالى بقوله: ﴿ولا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا([2]) هذه الغيبة التي نهانا الله عنها فسرها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ذكركَ أخاكَ بما يكره اهـ هذه الكلمة الموجزة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم تشمل أشياءَ كثيرةً فذِكْرُ المسلم في خَلفهِ بما كان يكرَهُهُ لو سمعه هو الغيبة المحرَّمة.

ثم الغيبة منها ما هو من الكبائر ومنها ما هو من صغائر الذنوب غيبةُ المسلم التقيّ الدَّيّن من الكبائر أما غيبة المسلم الفاسق فليست من الكبائر. هيَ حرامٌ لكنها ليست من الكبائر بل من الصغائر.

ثم هذه الغيبة كما تحصل بالنطق للعبارة تحصل بالكتابة فإذا إنسان كتب عن شخص مسلم إن فلانًا كذا مما يكرَهُ ووَصَفهُ بما يكرهُ ذلك المسلمُ هذا أيضًا حكمُه كأنه ذكره بلسانه واغتابه بلسانه لأنَّ القلمَ قيل عنه القلمُ أحدُ اللسانَين.

هذا إذا اغتابه بما فيه يكون غيبةً أما إذا اغتابه بما ليس فيه يكون بهتانًا وهو أعظم ذنبًا وأشد إثمًا. بعض الناس من جهلهم إذا اغتابوا إنسانًا في خلفه فذكروه بما يَكره وقيل لهم الغيبةُ حرامٌ يقولون أنا أقول هذا في وجهه فنحن نقول لو قلتَ له في وجهه لا يكونُ ذلك حلالاً لأنَّ إيذاءَ المسلم حرامٌ إلا لأسباب شرعية.

ومن الأسباب الشرعية التي تجعل الغيبةَ جائزةً التحذير فإذا أردنا أن نحذرَ شخصًا مسلمًا أو جماعةً مسلمين من شخص غشاش في تجارته يبيع بضائع فيها عيب ولا يذكر العيب الذي فيها فهذا إذا ذكرناه بما فيه فقلنا فلانٌ يغش الناس في بيعه يكون لنا ثوابٌ ولا يكون علينا ذنبٌ. كذلك إذا علمنا أنَّ إنسانًا يعمل أجيرًا عند ءاخَر ونحن نعلم فيه خيانةً في عمله فإذا قلنا لصاحب العمل فلانٌ احذَرْهُ فلانٌ خائنٌ لنا ثواب وما علينا ذنب ولو كان هذا الشخص يكره لو وقعت هذه الكلمة في أذنه فنحن لنا ثواب لأننا عملنا بالواجب، تحذيرُ المسلم مما يضرُّه واجبٌ ما فيه ذنبٌ ليس هذا غيبةً محرمةً، الغيبةُ المحرمة هيَ التي تكون لغير سبب شرعيّ. بعضُ الجهال إذا أرادَ شخصٌ أن يحذّرَ من أحد التجار الغشاشين أو أحد العمال الخائنين يقولون كيف نقطع الرزق على مخلوق اهـ الرزاق موجودٌ، صاحب العمل الله يرزقه والعامل الله يرزقه. كلٌّ في هذه الدنيا يأكل ما كتبَ اللهُ له أن يأكلَ ويتركُ ما سوى ذلك لغيره. الذي يعرف شريعة الله لا يقول هذا قطعُ رزقٍ كيف أتكلم على هذا الأجير الفقير فأقول لصاحب العمل عنه هذا خائن احذره. نحن نقول لصاحب العمل هذا أجيرُك خائنٌ نقول له هذا ليحذرَه ثم إن لم يكن هو يصرفه عن العمل بل يرضى به مع خيانته فهو وشأنه. هذا الذي حذَّرهُ كسِبَ أجرًا عند الله وغضب ذلك الأجير لا يضره عند الله بل له ثواب لأنه أدى الذي عليه.

فالمسلم عليه أن يحذّر المسلم ممن يضرُّه في دنياه وبالأولى أن يحذره ممن يضره في دينه. هذا أوجبُ وأفرضُ وأكثرُ ثوابًا فالتحذيرُ ممن يحرف شريعةَ اللهِ فرضٌ مؤكدٌ كأن يقول للشخص فلانٌ ليس بأهلٍ للتدريس لا تأخذ منه ولا تذهب لدرسه، فرضٌ أن يحذره فمن لم يفعل وترك الناس يذهبون إلى ذلك الشخص ويتعلمون منه ما هو غيرُ صحيحٍ في دين الله بل هو افتراء على دين الله وهم لا يعلمون ذلك فقد غشَّهُم. أما إذا حذَّرَ فيأخذ الأجر من الله تعالى لأن الله فرض علينا أن نحذر المسلمين ممن يضرهم في دينهم ولا يقال هذا عالم كيف يُتكَلَّمُ فيهِ لا بل نتكلم فيه وإن كان بحسب الظاهر فيما يبدو لبعض الناس عالمًا لكن نحن إذا تحققنا أنه ليس بأهل للتدريس وأنه يُحرِّفُ شريعةَ الله فرضٌ علينا أن نحذر منه من غير نظرٍ إلى رضى الناس أو غضبهم، يُحَذَّرُ منه رَضِيَ من رَضِيَ وكَرِهَ من كره، نحن علينا البيان والأجر من الله تعالى والضَّارُ النافعُ هو الله تعالى لا أحدَ يضرُّ وينفعُ على الحقيقة سواه. أليسَ ثبتَ أنَّ النارَ لا تخلقُ الإحراقَ والماءَ لا يخلقُ الريَّ والخبزَ لا يخلقُ الشبعَ والدواءَ لا يخلقُ العافيةَ والشفاءَ فكذلكَ سائرُ المخلوقاتِ لا يَضُرُّونَ بدون مشيئة اللهِ ولا ينفعون بدون مشيئةِ الله، نحنُ علينا أن نفعلَ ما أمرَنا الله به سواءٌ رضيَ الناسُ عنا أم لم يرضَوا وعلينا أن ننتهيَ عما حرم الله علينا رضيَ من رضيَ من الناسِ أو كرِهَ مَنْ كره من الناس.

ومن جملةِ ما يدخلُ في باب التحذير أننا إن علمنا فلانًا يريد أن يصادقَ فلانًا أو علمنا أن فلانةً تريد أن تصادق فلانة فرضٌ علينا أن نحذر إن كان في الشخص الآخر ما يستوجب التحذير فمن لم يحذّر وسكت وقال لماذا أجعل هذا يتغير خاطرُه عليَّ فهو عند الله تعالى مَوزُورٌ يستحق العذاب أما الذي حذّر فهو مأجورٌ عند الله.

كثيرٌ من الضلال يأتي من طريق الصحبة فالشاب قد يكون بحالة حسنة ثم إذا به انقلب فيصير بعيدًا عن طاعة الله تعالى والسببُ في ذلك في كثير من الأحيان أنه التقى بشخصٍ فاسدٍ فصَحِبَهُ فأفسده. كم وكم من الناس كانوا يُصَلُّونَ ويقيمون الصلاة ويؤمنون بالله ورسوله ثم طرأ عليهم أن صادقوا وصاحبوا شخصًا ملحدًا فصاروا كافرين بعد أن كانوا مسلمين مؤمنين انقلبوا كافرين بسبب إفساد ذلك الشخص الذي صاحبَه. فيجبُ وجوبًا مؤكدًا التحذيرُ من كُلّ إنسان يضرُّ المسلم في دنياه وكذلك التحذير من الذي يضر المسلم في دينه بطريق الأولى. التحذير من الفريقين فرضٌ مؤكد. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا علمًا إنك أنت العليمُ الحكيم.

انتهى والله تعالى أعلم.

 

[1])) رواه مسلم في صحيحه باب تحريم الغيبة.

[2])) سورة الحجرات/الآية 12.