الحلقة ((-6-))
الحمدُ لله ربِّ العالمين وصلى الله على سيِّدِنا محمَّدٍ سيّدِ الأولينَ والآخِرين وعلى آلِه وأصحابِه الطيِّبين الطاهرين.
الذين كتبوا للنبيِّ من الصحابة كَثرة لكنْ ليسوا كلُّهم كانوا كَتبةً للوحي، بل كان الذي يكتبُ الوحيَ منهم اثنين معروفَيْن، الأولُ زيدُ بنُ ثابت والثاني أُبيُّ بنُ كعب رضيَ اللهُ عنهما.
وأمّا غيرُهُما فكَتبا له أشياء مختلفة أحيانًا مُعاهدة وأحيانًا رسالة، منهم عليُّ بنُ أبي طالب وعمرُ وعثمانُ وأبو بكر، ومنهم عبدُ اللهِ بنُ الأرقم، وثابتُ بنُ قيس ومعاويةُ بن أبي سفيان، قال له أبوهُ “اتّخِذْ ولدي هذا كاتبًا” لكنْ لم يَكتب الوحي، وغيرُهم.
وكان إذا أوحِيَ للنبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ كان يطلبُ من زيدٍ أو أُبيّ، كان يُملي عليه الوحي الذي جاءَه وكان زيدٌ أو أُبيّ يكتبُ ذلك. ثم كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام يقولُ لِمن كتبَ بالوحي: “اجعل هذه الآية بعد آيةِ كذا”.
لم يكن ترتيبُ النزولِ على ترتيب التِلاوة كان مختلفًا. بعد نزولِ الآية جبريلُ يقولُ للنبيّ “اجعلْ هذه الآيات بعد آيةِ كذا” حتى اكتملَ ترتيبُ التِلاوة على الوجهِ الذي نعرفُه اليوم قبل وفاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وأما رسائلُ النبيّ فكانت عديدةً أيضًا أرسلَ إلى أصحمةَ النجاشي رسالةً أرسلها مع عَمرو بن أميّةَ الضمَمي. لما وصل الكتابُ إلى النجاشي أخذَه وضعَه على عينيْه ثمّ نزَل عن سريرِه فجلسَ على الأرضِ وقرأ الرسالة. وبعثَ النبيُّ إلى عظيمِ الروم هِرَقل رسالةً أيضًا فسألَ عن النبيِّ عن أحوالِه وعن أوصافِه وعرَف أنه نبيُّ آخِرِ الزمان، فقال لجماعتِه أغلِق الأبواب وقال لِمَن معه قد عرَفتُم أنّ هذا هو نبيُّ آخرِ الزمان وهو صادقٌ فيما يقول فإني أرى أنْ نتْبَعَه. فحصلَ منهم شىءٌ عجيبٌ من الضيق خافَ على مُلكِه، فقال إنما كنتُ أختبرُكم أردتُ أن أعرفَ مدى صلابتِكم في دينِكم أمّا الآن اطمأنَّ قلبي. ثم لم يتْبعْ رسولَ الله ولم يُسلِم.
وبعثَ الرسولُ عبدَ الله بنَ حذافة إلى ملِكِ الفرس كِسرى، فلمّا وصلَه كتابُ النبيّ مزّقَه. فلمّا عرَفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: “مزّقَ اللهُ مُلْكَه”، وهذا ما حصل بعد ذلك.
وبعثَ الرسولُ حاطِب بن أبي بلتعة إلى المقوقِس ملِك الإسكندرية، لما قرأ الرسالةَ قارب ولم يُسلم وأرسل إلى النبيّ بهدايا، أرسلَ إليه جاريتيْن وغيرَ ذلك.
وبعث الرسولُ صلى الله عليه وسلم عَمرو بنَ العاص إلى ملِكي عُمان كانا أخوَيْن جيْفر وعبد، فلما قرآ الرسالة أسلما وخلَّيا بين عَمرو بنِ العاص وبين الصدقة فبقيَ عمرو بنُ العاص عندهُما إلى أن ماتَ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وبعثَ رسولُ الله آخرَ من الصحابة إلى ملِك غسان. في ذلك الوقت الرومُ كان حكمُهُم واسع مِن جملة ذلك الإسكندرية ومصر هذا المُقوقِس حاكم مصر كان تحت حكمِ ملِكِ الروم. كذلك قبيلةٌ من العرب كبيرةٌ يقالُ لها “غسان” كان عليهم حاكمٌ منهم لكنْ تحت حكمِ الروم، فأرسل الرسولُ صلى الله عليه وسلم رسالةً إلى حاكمِهم واسمُه الحارث أرسلها مع شجاعِ بنِ وهب، فلما أتاه كتابُ النّبيّ رماه من يدِه وغضب وقال: أنا أسير إليه، ثم لم يفعل، ثم زالَ مُلكُه.
وبعث النبيّ عليه الصلاة والسلام المهاجِر بنَ أمية إلى الحارثِ الحِميَري أحدِ ملوكِ اليمن بعدما قرأ رسالةَ النبيّ أسلم.
وبعث العلاءَ بنَ الحَضرميّ إلى المُنذِرِ بنِ ساوة العبدي ملِك البحرين. البحرين كانت ناحيةً واسعةً لها مَلِكُها بعدما قرأ الرسالة أسلمَ وصدّق.
وبعث النبيّ أبا موسى الأشعري ومُعاذَ بنَ جبل إلى اليمن، بعثهما إلى ناحيتيْن قريبتيْن لكن مختلفتيْن وأوصاهُما النّبيّ بالدعوةِ إلى الله بالحكمةِ فذهبا فعمِلا بالدعوة إلى الله فأسلمَ على يديهِما خَلقٌ كثير من الملوك والعامة.
وأرسلَ النبيُّ غيرَ هؤلاء، رسائلَ غيرَ هذه فأسلمَ بسببهِم خلقٌ كثير حتى إنه في السنةِ العاشرة والحاديةَ عشرةَ بعد الهجرة جاءت وفودٌ كثيرة إلى المدينة إلى النبيِّ الأعظم عليه الصلاة والسلام من نواحي شتى وقبائلَ شتى يُبايعونَه أحيانًا كان يأتي أربعمائة من الناحية، أحيانًا عشرة أحيانًا خمسون وهكذا.
واحدٌ من الصحابة بعدما أسلمَ قال للنبيّ: أنا أرجعُ إلى قومي أدعوهم إلى الله وآتيكَ بألفٍ منهم قد أسلم.
فرجَع فدعاهُم إلى الله وأسلم على يديه ألف. لما صاروا ألفا قال نذهبُ إلى النبيّ، فذهب معه تسعُمائة، ومائةٌ كان عندهم ما يشغلُهم. في الطريق إلى النبيّ هو مات. هكذا كانت دعوتُهم إلى الله وهكذا انتشرَ الدِّينُ في أيامِهم بسرعةٍ بسبببِ هذه الهمةِ العالية والإخلاصِ والتواضع وبذلِ الجُهد وليس بسببِ كثرةِ المال ولا كثرةِ الوسائل، بسبب حالِهم الله وفّقهم. في خمسٍ وعشرينَ سنة انتشر الدِّين من حدود الصين إلى المغرب الأقصى. لكنهم أناسٌ تربَّوْا بالأنظار المحمَّدية وكان همُّهم الآخرة. ولمّا حصل كلُّ هذا الإقبال وأقبلت كل هذه الوفود إلى النبيِّ عليه الصلاة والسلام من كلِّ أنحاء الجزيرة حتى من خارجِها، خطبَ النبيُّ يومًا أصحابَه فقال من جملة ما قال: “إنَّ عبدًا خيّرَهُ اللهُ بين الدنيا والآخرة فاختارَ الآخرة”. أبو بكر لمّا سمِع هذا صار يبكي، الصحابة تعجبوا لمّا بكى أبو بكر، في الحقيقة كان النبيُّ يعني نفسَه، أبو بكرٍ تفطَّن فعرف أنّ وفاتَه قرُبَتْ، كان اللهُ أنزل قولَه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ • وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا • فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}، فكان ذلك علامةً للنبيِّ أنّ أجلَه قد اقتربَ، وهكذا كانَ بعد مدةٍ قصيرةٍ النبيُّ مرضَ ثم توُفِّيَ صلوات ربِّي وسلامُه عليه وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَه.
واللهُ سبحانَه أعلمُ وأحكمُ.