الحلقة ((-4-))
بسمِ اللهِ والحمدُ للهِ وصلى الله وسلّمَ على رسولِ الله
تكَلَّمْنا في الحلْقةِ السابقةِ على الهجرةِ إلى الحبشة وأنَّ النبيَّ عليه الصلاةُ والسلامُ أرسَلَ إلى الحبشةِ عددًا منَ الصحابةِ الكرام بعدَ اشْتِدادِ الأذى عليهم وبقيَ هو عليه الصلاةُ والسلامُ في مكة. وفي تلكَ المدة وهو في مكة أسلَمَ النجاشي ملِكُ الحبشة.
لمّا ذهبَ إليه الصحابةُ المُهاجرونَ منَعَ أحدًا منْ إيذائِهِم. مُشرِكُو مكّة تضايقوا قالوا الآنَ أصحابُ محمّدٍ وجدوا ملْجأً آمِنًا، فأرسَلوا أُناسًا إلى النّجاشي فكَلَّموه فقالوا إنّهمْ يقولونَ في المسيحِ غيرَ قولِكَ. فاسْتَدْعاهُمُ النّجاشي، قالوا بماذا نُكَلِّمُهُ؟ قال جعفرُ بنُ أبي طالب نقولُ لهُ ما قالَ لنا النبيّ. دخلوا إلى النّجاشي، قال ماذا تقولونَ في عيسى؟ جعفرٌ تَلا {كهيعص} وما بعدَ ذلك ما يتعَلَّقُ بسيِّدِنا عيسى عليه السلام.
فقالَ هذا ما نعْتَقِدُهُ، فأخذَ عودًا منَ الأرضِ وقال: الذي قلتُمْ عنْ عيسى هو الحقُّ الذي لا يُجاوِزُ هذا العود.
عنْدَهُ البطارِكة صاروا يتَناخَرون، يصْدُرُ منهمْ ضجّة ونحو ذلك. توَجَّهَ إليهم وقال: وإنْ تناخَرْتُمْ، ثمَّ نظرَ إلى الصحابةِ فقالَ أنتمْ ءامِنون وتشَهّدَ، دخلَ في الإسلامِ.
ثمَّ عاشَ مدّةً ولمْ يسْتَطِعْ أنْ ينْشُرَ دينَ الإسلام كما رغِب، أرسَلَ ولَدَهُ وعددًا منْ رجالِ الدِّينِ الذينَ ءامنوا إلى النبيّ. لكنْ طلَعَ لهُ ضِدٌّ منَ المُشرِكين فشَغَلَهُ بقِتالِهِ مدّة ثمّ ماتَ بعدَ ذلك.
فلمّا ماتَ قالَ النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ: “ماتَ اليوم أخوكُمُ النجاشي فصَلّوا عليه”. فصَلَّوا عليه صلاةَ الغائب.
وقالت السيّدة عائشة: كنَّا نتحَدّثُ أنّهُ لا يزالُ يظهَرُ على قبرِهِ النّور.
ثمّ المُشرِكونَ تضايَقوا قالوا نُكَلِّمُ أبا طالب هو يحْميه، أخذوا لهُ واحدًا منْ أقوى وأجملِ وأذكَى فِتيانِ قريش، قالوا يا أبا طالب نحنُ ما عُدْنا نَحْتَمِلُ ما يفعلُ ابنُ أخيك لا بدَّ أنْ تَمْنَعَهُ وهذا فلانٌ اتَّخِذْهُ ولدًا أو أعْطِناهُ نَقْتُلهُ. قالَ آخُذُ ولَدَكُمْ أغْزوهُ لكم وأُعْطيكُمْ ولدي تقْتُلونَهُ؟ كيفَ هذا؟ قالوا فكلِّمْهُ إذا كان يريدُ المُلك ملَّكْناهُ علينا إذا كان يريدُ المال نجْمَعُ لهُ المالَ حتى يصيرَ أغْنانا.
فدعاهُ وأخْبرَهُ ما يقولون، فقالَ عليه الصلاة والسلام: “واللهِ يا عمّ لوْ وضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في يساري ما ترَكْتُ هذا الأمر حتى يُظْهِرَهُ الله أوْ أهلَكَ دونَهُ”.
فعنْدَ ذلك أبو طالب تأثّرَ فقالَ لهُ قلْ ما بدَا لك. ثمَّ إنَّ الكفارَ قالوا فيمَا بينَهُمْ ما هذا إلى متى تَسْكُتون عنْ هذا؟ قالَ أبو جهل: إذا أنا قمْتُ إليه فقتَلْتُهُ تَحْمُونَني؟ تمْنَعونَ بني هاشم أنْ يقتُلوني؟ قالوا نحْميكَ. فذهبَ يريدُ قتلَ النبيِّ محمّدٍ عليه الصلاةُ والسلام، فمَا أسرَعَ أنْ رَجَعَ يَرْتَجِف فقالوا ما بالُكَ؟ قال: لمّا دَنَوْتُ منهُ رأيتُ بيْني وبينَهُ فَحْلًا منَ الإبلِ ما رأيتُ مثْلَهُ قطّ لوْ خَطَوْتُ خطوَةً لأكلَني. فكانَ هذا مِنْ جُمْلةِ ما حَمى بهِ ربُّنا النبيَّ محمّدًا صلى الله عليه وسلم.
وفي تلكَ المُدة جاءَ وفدُ نَجْران إلى النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ كانَ لهم صِلاةٌ معَ الحبشةِ فسَمِعوا منَ الذينَ هناك عنِ النبيِّ ودَعوَتِهِ، فجاءُوا إليه حتى يتكَلّموا معه، فلمّا كلّموه تلَا عليهم منَ القرآن فصاروا يَبْكُونَ ممّا عرَفوا منَ الحقّ فآمَنوا باللهِ وبالرسول.
الكفارُ اغْتاظوا كثيرًا قالوا: بنو هاشمٍ لا يَبْقَوْنَ معنا في البلدِ تعالَوا نتّفِقْ لا نَبيعُهُمْ ولا نشْتَري منهمْ ولا نَنْكِحُ إليهم نُقاطِعُهُمْ مُقاطَعةً تامّة. فاتّفقوا على ذلك فخرجَ بنو هاشم إلى شعبِ أبي طالب فكانوا لا يَخرجونَ منْ ذلك الشعب منْ ذلك المكانِ إلّا منَ الموْسمِ إلى الموْسِمِ مُسلِمُهُمْ وكافِرُهُمْ، أمّا المسلم فمِنْ بابِ الإيمان وأمّا الكفار فعَصَبيّةً.
بقُوا على ذلك ثلاثَةَ سنين. ثمَّ بعضُ كفّارِ قريْش كانَ قريبًا منْ ذلك المكان فسَمِعَ بكاءَ أولادِهِمْ منَ الجُوعِ ما تحَمَّل، كانَ لهُ قَرابةٌ فيهم، فذهبَ فكَلَّمَ أناسًا حالُهُمْ يُشْبِهُ حالَهُ لا يُريدونَ أنْ يسْتَمِرَّ هذا الأمر، فحَمَلوا السلاح وجاءوا إلى الشعبِ فأخرَجوهُمْ إلى بيوتِهِمْ، فرَجَعَ المسلمونَ إلى بيوتِهِمْ ومنْ جُمْلَتِهمْ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم.
لكنْ بعدَ هذه المدّة منَ الحصارِ أصابَ الضَّعفُ المسلمين، صارَ كثيرٌ منهمْ صحَّتُهُ ضعيفة. بعدَ ذلك بقليلٍ ماتَ أبو طالب وماتتْ خديجة فاشتَدَّ عندَ ذلك أذى المشركينَ للنبيِّ كثيرًا.
فخرجَ النبيُّ إلى الطائفِ فكَلَّمَ أهلَها أنْ يُؤمِنوا به، فواجَهوهُ بكلامٍ قاسٍ. وكلَّمَ غيرَهُمْ أيضًا ففعَلَ كما فعل. وسلّطوا عليه في الطائفِ الأولادَ الصغارَ يَرْمُونَهُ بالحجارةِ.
فلَمَّا خرجَ أسْنَدَ ظهْرَهُ إلى الحائطِ وقالَ: “يا ربّ إنْ لمْ يكُنْ بكَ غضَبٌ عليّ لا أبالي”،
ثمَّ رآهُ عبدٌ كانَ هناكَ فأتاهُ بِقِطْفٍ منْ عنبٍ والطائفُ مِزاجُها مُعتَدِلٌ فيها عنبٌ ورُمّانٌ وغيرُ ذلك، فقالَ لهُ النبيُّ ما اسمُك؟ قال: كذا، قال منْ أين أنت؟ قال منْ نينَوى، فقالَ النبيُّ: بلدةُ الرجلِ الصالحِ يونُسَ بنِ متّى.
لمّا سمِعَ هذا الكلام انْكَبَّ على رجلَيْهِ يُقَبِّلُهُما، بعضُ الكفارِ يُراقِبُهُ قالوا له ماذا تفعل، قال تكلّمَ بشىءٍ لا يعرِفُهُ أهلُ هذه النّواحي. هذا لا يعرِفُهُ إلّا إنسانٌ صادقٌ أنّهُ يُوحَى إليه صلواتُ ربِّي وسلامُهُ عليه وعلى كلِّ رسولٍ أرْسَلَهُ. واللهُ سبحانَهُ أعلَمُ وأحْكم.
الإشعارات