بسم الله والحمدُ لله وصلى الله وسلمَ على رسولِ الله وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ومَنْ والاه.
أهلًا وسهلًا بكم في حلْقَتِنا الثانية في الكلامِ عنْ سيرةِ نبيِّنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم وقدْ وصلْنا في الكلامِ عنِ الرَّضاع، فإنّهُ بعدَ أنْ أرْضَعَتْهُ ثُوَيْبة أرْضَعَتْهُ حليمةُ بنتُ أبي ذُئَيْبٍ السّعديّة.
أرْضَعَتْهُ في بلادِ قبيلَتِها سعدِ بنِ بكر.
جاءَتْ حليمة إلى مكّة تريدُ أنْ تأخذَ طفلًا لِتُرْضِعَهُ. في ذلك الوقت كانَ أهلُ البادية يأتونَ إلى أهالي المُدُنِ يأخُذونَ منْ عندِهمْ أولادًا لإرْضاعِهِمْ. وكانَ أهلُ المُدُنِ يَدْفَعُونَ لهمْ أُجرة ليَفْعَلوا ذلك، لأنّهمْ كانوا يَرَوْنَ أنَّ نشْأتَهُمْ في البادِيةِ أوْفَقُ لِصِحَّتِهمْ. فكانوا يُعْطونَ أولادَهُمْ مُقابِلَ أُجرةٍ لهؤلاءِ النِّسْوة مُدّةً يُرْضِعْنَهُمْ. وهكذا حليمةُ جاءتْ فما وجَدَتْ طفلًا تأخُذُهُ إلّا النبيّ، ولمْ يكُنْ عنْدَها رغبة في الأصلِ بأخذِهِ لأنّهُ يتيمٌ. هيَ ترْغَبُ في برِّ أهلِهِ لكن ما وجَدَتْ ولدًا آخَرَ تأخُذُهُ. فأخَذَتْهُ، فوجَدَتْ منَ البرَكةِ الشىءَ الكثيرَ في نفسِها وفي أهلِها وفي دوابِّها إلى حدِّ أنّهُ عندما تمَّتْ مدّةُ الرَّضاعِ أقْنَعَتْ والِدَتَهُ أنْ تَتْرُكَهُ عندَها أكثر إلى أنْ حصلَتْ حادثة. يومًا منَ الأيامِ جاءَ أخُ النبيِّ ابنُ حليمة أخوهُ منَ الرَّضاع، جاءَ إلى أمِّهِ يقولُ أدْرِكي أخي القُرَشيّ جاءَ رجالٌ أضْجَعوهُ وشقَّوْا صدْرَهُ، بعدَ ذلك سألوهُ ماذا حصل. النبيُّ أخبَرَهُمْ بحقيقةِ ما جرى أنَّ جبريلَ جاءَ معَ بعضِ الملائكةِ غيرِهِ فشقَّ صدرَهُ وأخرجَ قلبَهُ وأخرجَ منهُ علَقةً سوداء وهي محلُّ إلقاءِ الشيطانِ ما يُلْقِيهِ عادةً في بني آدم إظهارًا أنَّ النبيَّ محمّدًا صلى الله عليه وسلم أصلًا ما فيه موْضِعٌ في قلبِهِ قابِلٌ لإلْقاءِ الشيطانِ. ثمَّ بعدَ ذلك غسلَ قلبَهُ بماءِ ثلجٍ ثمَّ ردَّهُ إلى مكانِه.
لمّا سمِعَتْ حليمةُ ذلك خافتْ أنْ يكونَ قدْ أصيبَ في عقلِهِ، فأسرَعَتْ فرَدَّتْهُ إلى أمِّهِ قالت: أرجَعْتِ بهِ وكنتِ حريصةً عليه؟ ألَحَّتْ عليها، أخبَرَتْها.
فقالت لها أمُّهُ آمنة: بلْ لا يكونُ منهُ ذلك أنا لا أخافُ عليه ما تخافين لمّا ولَدْتُهُ خرجَ منهُ نورٌ أضاءَتْ منهُ قصورُ بُصرى. فتَرَكَتْهُ عندَها قالت اتْرُكيه.
وأمّا اسمُهُ عليه الصلاةُ والسلامُ الذي سُمِّيَ بهِ فهوَ محمّد، وهو اسمٌ لمْ يكُنْ شائِعًا لمْ يكُنْ معروفًا في الجاهلية. لكنْ لمّا اقْتَرَبَتْ ولادَتُهُ عليه الصلاةُ والسلامُ كانَ كلامٌ ينْتشِرُ بينَ بعضِ العربِ أنّهُ يولَدُ نبيٌّ يكونُ اسْمُهُ محمّدًا. فسَمّى بعضُهُمْ أولادَهُ بهذا الاسم سبعةٌ سُمّوا بهذا الاسمِ غيرُ النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ. لكنْ لهُ أسماءٌ أُخَر. منْ أسمائِهِ أحمد وهو الاسمُ المذكورُ في الإنجيل. ومنْ أسمائِهِ الماحي أي الذي يُمْحَى بهِ الكفر، ومنها الحاشر نسبةً إلى حشرِ الناسِ يومَ القيامةِ، ومنها العاقب وهو الذي لا نبيَّ بعدَه، ومنها نبيُّ التوبةِ ومنها نبيُّ المَرْحَمةِ ومنها نبيُّ المَلْحَمة، ومنها غيرُ ذلك.
وقدْ ذكرَ اللهُ في القرآن أنّهُ بشيرٌ وأنّهُ نذيرٌ وأنّهُ رؤوفٌ رحيمٌ وأنّهُ رحمةٌ للعالمين صلى الله عليه وسلم.
ونشأَ عليه الصلاةُ والسلامُ في كفالةِ جدِّهِ عبدِ المُطلِبِ إلى أنْ تُوُفّيَ فأوْصَى بهِ إلى عمِّهِ أبي طالب، ونشأَ على الخُلُقِ الحسنِ، طهَّرَهُ اللهُ منَ العُيوبِ التي كانت في الجاهلية ما سجدَ لصَنَمٍ قط، وما ارْتَكبَ الأفعالَ الشنيعةَ التي كانَ يرْتَكِبُها الجاهليّون، ولمْ يكنْ يُعرَفْ بينَ قومِهِ إلا بالأمين وذلك لِما شاهدوا مِنْ أمانَتِهِ وصدقِ حديثِهِ وحُسْنِ أخلاقِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ.
ولمّا بلغَ اثْنَتَيْ عشْرةَ سنة خرجَ معَ عمِّهِ أبي طالبٍ إلى الشامِ حتى وصلا إلى مدينةِ بُصْرى كانَ يُقامُ فيها سوق. كانَ فيها راهبٌ يُقالُ لهُ بَحِيرة. لمّا رءاهُ عرَفَ فيه الصِّفات التي كانَ قرَأها عنْ نبيِّ آخِر الزمانِ، ووجدَ غَمامةً تتْبَعُهُ منْ بينِ القوْمِ في أثناءِ سيْرِهِ وهو راكبٌ تُظَلِّلُهُ تَتْبَعُهُ، فجاءَ إليه وأخذَ بيَدِهِ وقالَ لعمِّهِ “هذا الغلامُ سيكونُ لهُ شأنٌ كبيرٌ في المستقبل، قال له: ماذا يكونُ منك؟” فقال: هو ابنُ أخي لكنْ مثلُ ولدي وقدْ تُوُفِّيَ والِدُهُ. فأوْصاهُ أنْ يَنْتَبِهَ عليه أنْ يَعْتَنِيَ به وقالَ له ارجِعْ بهِ قبلَ أنْ يراهُ غيري ممَّنْ يعرِفُ منهُ ما أعرِف فيُؤْذوه.
فرَجَعَ بهِ أبو طالبٍ إلى مكّة فبقِيَ النبيُّ في مكّةَ إلى أنْ صارَ في الخامسةِ والعشرين. عندَ ذلك كُلِّمَ أنْ يأخُذَ تجارةَ خديجةَ إلى الشامِ لِيَبِيعها. وكانت خديجةُ امرأة تاجرة تُرسِلُ تجارةً إلى الشامِ لِتُباع. فقَبلَ النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ وتمَّ الاتِّفاقُ بينَهُ وبينَ خديجة، اسْتَأجَرَتْهُ لِيَتْجَرَ لها وأرْسَلَتْ معهُ غُلامَها مَيْسَرة. فذهبَ النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ بالتجارةِ إلى الشامِ وما أسرَعَ أنْ باعَها، ومَيْسَرةُ رأى منهُ خِصالًا عجيبة في هذه الرّحلة. في وقتٍ منَ الأوقاتِ نزلَ النبيُّ تحتَ شجرة فجاءَ رجلٌ مُتعبِّدٌ إليه فقالَ لِمَيسرة: منْ هذا؟ قالَ لهُ مَيْسرة: لماذا تسأل؟ قالَ هذه الشجرةُ لا ينزِلُ تحتَها إلّا نبيّ.
أيضًا في أثناءِ البَيعِ جاءَ رجلٌ كلَّمَهُ في شىءٍ يتعلَّقُ بذلك فقالَ للنبيِّ اِحلِفْ باللاتِ والعُزّى، فقالَ لهُ النبيُّ: أنا ما حلَفْتُ بهما قطّ ولا أحلِف. ميْسَرةُ أيضًا رأى ذلك، رأى ما رأى.
لمّا رجَعَ إلى خديجة أخبرَها عمّا رأى منْ أحوالِ النبيِّ. فخديجةُ رغِبَتْ في الزِّواجِ منهُ، فخَطَبَتْهُ. أرسَلَتْ إليه مَنْ يقولُ له: ما رأيكَ لوْ تتزَوّجْ بخديجة؟ بعدَ هذا تقدَّمَ لخِطْبَتِها وتمَّ الأمرُ وزوَّجَهُ إيّاها والِدُها. وكانتْ خديجةُ قدْ تزوَّجتْ قبلَهُ مرّتَيْن وكانَ لها ولَدان. كانَ سنُّها أربعين وكانَ النبيُّ في الخامسةِ والعشرين.
واللهُ سبحانَهُ وتعالى أعلمُ وأحكمُ