الجمعة أبريل 19, 2024
  •  

    الحلقة ((-1-))

     

    الحمدُ للهِ ربِّ العالمين وصلى الله على سيِّدِنا محمّدٍ سيِّدِ الأوّلينَ والآخِرين وعلى آلِه وأصحابِه الطيّبينَ الطاهرين، وبعدُ

    فإنَّ معرفةَ سيرةِ النبيِّ محمّدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ والتّفَكُّرَ فيها فائِدَتُها كبيرةٌ جدًّا. الشخصُ إذا نظَرَ في سيرَتِهِ عليه السلام وفي أحْوالِهِ وفي مَا كانَ عليه عندَ تغيُّرِ الأحوالِ يتَعَلَّمُ أشياءَ كثيرة، يتَهَذّبُ إذا كانَ نظَرُهُ نظَرَ منْ يريدُ الفائدة، تتهَذّبُ نفْسُهُ بذلك.

    نبْدأُ بذِكْرِ نسبِهِ عليه الصلاةُ والسلام.

    هو محمّدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المطّلِبِ بنِ هاشمِ بنِ عبدِ مَنافِ بنِ قُصَيّ بنِ كِلابٍ بنِ مُرّةَ بنِ كعبِ بنِ لُؤَي بنِ غالِبِ بنِ فِهْرِ بنِ مالِكِ بنِ النّضرِ بنِ كِنانة بنِ خُزَيْمةَ بنِ مُدْرِكَةَ بنِ إلياس بنِ مُرّةَ بنِ نزارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عدنان.

    إلى هنا كلُّ النّسابين متَّفقونَ على هذا النّسب، وكلّهم اتّفقوا أنَّ عدنانَ منْ نسْلِ إسماعيل نبيِّ اللهِ ابنِ إبراهيم عليهما السلام. لكنْ ما بينَ عدنان وإسماعيل ترتيبُ الآباءِ فيهِ خِلاف. والنبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ منْ بَني هاشم منْ قبيلةِ قُريش. وأمّا أمُّهُ عليه الصلاةُ والسلامُ فهيَ آمنةُ بنتُ وَهب رضيَ اللهُ عنها.

    وُلِدَ عليه الصلاةُ والسلامُ بِمَكّةَ عامَ الفيل. وقصّةُ الفيل، كانت اليمن في ذلك الزّمن تحتَ حُكْمِ ملِكِ الحبشة، وكانَ الحاكمُ الذي هو في اليمنِ بَنى مَعْبَدًا لأهلِ الشِّركِ كبيرًا وتكلَّفَ عليه، ظنَّ أنَّ هذا يَجْذِبُ قلوبَ العربِ إليه، لكنْ لمْ يحصُلْ هذا واسْتَمرَّ العرَبُ في قصْدِ الكعبةِ معَ أنّهمْ كانوا في ذلك الوقتِ على غيرِ الإيمانِ أغلَبُهُمْ، لكنْ كانَ بقيَ فيهمْ شىءٌ مِنْ بقايا ما تناقَلوهُ عنْ سيِّدِنا إبراهيم عليه السلام، منْ ذلك قصْدُ الكعبة في موْسمٍ مُعَيَّنٍ للحجِّ. فقيلَ لهذا الملِك طالَما هذه الكعبةُ موْجودة لا يأتي الناسُ إلى مَعْبَدِك، فغضِبَ وسيَّرَ جيشًا معهُ الأفيال لِتَدْميرِ الكعبة.

    لمّا اقْتَرَبَ هذا الجيش عرَفَ أهلُ مكّة أنّهُ لا طاقةَ لهمْ بِمُحارَبَتِهِ فتَرَكوها وخرجوا. لمّا اقْتَرَبَ، اللهُ تعالى أرسلَ طيرًا معَ حجارةٍ ترمي بها هذا الجيش فهَلَكوا كلُّهُمْ وهلَكَ الفيل. وبقيَ مَنْ رجَعَ إلى الحاكِمِ الذي أرْسَلَهُمْ فأخْبَرَهُ بِما جرى.

    في ذلك العام وُلِدَ النبيُّ الأعظمُ صلى الله عليه وسلم في شهرِ ربيعٍ الأول، قيلَ في الثاني عشرَ يوم الاثنين وهذا هو الأشهَر. المُجْمَعُ عليه أنّ ولادَتَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ كانتْ يومَ الاثنين هو أيضًا قال ذلك. وكذلك نزَلَ الوحيُ عليه أوّلَ ما نزلَ يومَ الاثنين وتوُفِّيَ عليه الصلاةُ والسلامُ يومَ الاثنين.

    النبيُّ كانَ يَحُثُّ على صوْمِ يومِ الاثنيْن. كانَ يقولُ: “هو يومٌ وُلِدْتُ فيه”، ويُعْلَمُ منْ هذا، العلماءُ اسْتَنْبَطوا منْ هذا أنّهُ يُسْتَحَبُّ تَجْدِيدُ الطاعةِ في مِثلِ يومِ وِلادتِهِ، ومنْ ذلك يُعْلَم أنَّ الاحتفالَ بِمَوْلِدِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ شىءٌ حسَنٌ لهُ أصلٌ في الشرعِ. لأنَّ احتفالَ المسلمينَ بِمَوْلِدِهِ هو بقراءةِ القرآنِ والذِّكرِ وبإطْعامِ الطعام والصلاةِ على النبيِّ محمّدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ وكلُّهُ للهِ تعالى وكلُّها أفعالُ خيرٍ، أفعالُ طاعةٍ وهو عليه الصلاةُ والسلامُ كانَ يحُثُّ على صوْمِ يومِ الاثنين لأنّهُ يومٌ وُلِدَ فيه. يُعْلَمُ منْ هذا أنهُ شىءٌ حسَنٌ تجديدُ الطاعةِ في مِثلِ ذلك اليوم، وهذا الكلامُ ذكَرَهُ الحافظُ السيوطيُّ وغيرُهُ.

    وماتَ أبوهُ عليه الصلاةُ والسلامُ عبدُ اللهِ بنُ عبدِ المُطّلب وهو قدْ أتى لهُ ثمانيةٌ وعشرونَ شهرًا، وقالَ بعضُهُمْ ماتَ أبوهُ وهو حَمْلٌ. تُوُفّيَ بينَ مكّةَ والمدينة. وبعضُهُمْ قالَ تُوُفِّيَ في المدينة. ثمَّ بعدَ وفاةِ والِدِهِ رعَتْهُ أمّهُ حتى إذا بلَغَ ستَّ سنين خرجَتْ بهِ لزيارةِ أخوالِهِ في المدينةِ ثمَّ مَكَثَتْ هناك شهرًا. وعندَ رُجوعِها في الطريقِ ماتتْ ودُفِنَتْ في ناحيةٍ يُقالُ لها الأبواء. أخَذَتْهُ برَكة، كانتْ أمَةً عندَ والِدَيه وأخَذَتْهُ إلى جدِّهِ عبدِ المُطّلِبِ. توَلّى رعايتَهُ إلى أنْ صارَ سنُّهُ ثمانيَ سنين، وكانَ يحبُّهُ حبًّا جمًّا. لمّا صارَ في سنِّ ثمانية توُفّيَ عبدُ المُطّلب، وعندَ احْتِضارِهِ أوْصى بهِ إلى عمِّهِ أبي طالب. وأرْضَعَتْهُ أولَ ولادَتِهِ ثُوَيْـبة (جاريةُ عمِّهِ أبي لهب)، لمّا أُخْبِرَ أنّهُ وُلِدَ لأخيهِ ولدٌ فرِحَ، ثُوَيْبةُ أخْبَرَتْهُ فأعْتَقَها.

     

    لكنَّ اللهَ ما شاءَ لهُ السعادة بعدَ أنْ نزَلَ الوحيُ على النبيِّ عاداهُ عداءً شديدًا، وهنا يَجْدُرُ الإشارةُ إلى شىءٍ، رُوِيَ في بعضِ الأحاديثِ أنَّ العبّاسَ بنَ عبدِ المُطّلِبِ رأى أخاهُ في الرّؤيا، رءاهُ يتعَذّب، وهذا بعدَ موتِ أبي لهب، بعضُ الناسِ وقتَ المولِدِ يذْكُرونَ قصةً أنَّ أبا لهب يُخَفَّفُ عنهُ العذاب يومَ الاثنينِ لأنّهُ أعْتَقَ ثُوَيْبة فرَحًا بولادةِ النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ ويقولونَ إنّهُ يُخَفَّفُ عنهُ شىءٌ منَ العذابِ بزَعْمِهِمْ يشرَبُ شيئًا منْ مكانٍ في يدِه، هذا الكلام غيرُ صحيحٍ لا يَثْبُتُ ولو كانَ الإسنادُ ثابتًا إلى العباس. العباسُ رُويَ عنهُ أنهُ رأى ذلك في رؤيا، والرؤيا (رؤيا المنامِ) لا تَثْبُتُ فيها الأحكامُ الشرعية لا سيَّما والخطرُ أكبرُ إذا قالَ الشخص أنَّ أبا لهَب يُخَفَّفُ عنهُ العذاب في الآخرة، لأنّهُ إذا قالَ يُخَفَّفُ عنهُ العذابُ (أي منْ عذابِ النار) فقدْ كذّبَ صريحَ القرآن. اللهُ تعالى قال: {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} فلا يجوزُ أنْ يَعْتَقِدَ مُعْتَقِدٌ أنَّ عذابَ أبي لهبٍ في النارِ يُخَفَّفُ بسببِ إعْتاقِهِ ثُوَيْبة فرحًا بمَوْلِدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

    البعضُ يُورِدُ هذه القصةَ في مناسبةِ الموْلِدِ لِبيانِ فضلِ يومِ موْلِدِهِ وهذا في غيرِ محلِّهِ، خارجٌ عنْ قانونِ الشرعِ لا يُوافقُ شرعَ اللهِ تعالى.

    إذًا أرْضَعَتْهُ ثُويبة وأرْضَعَتْ معهُ حمزَةَ بنَ عبدِ المُطلِب (عمَّه) وعبدَ اللهِ بنَ عبدِ الأسدِ المَخْزوميّ، أرْضَعَت الثلاثة مع ولدِها مَسْروح، فهؤلاءِ الأربعة النبيّ وعمُّهُ حمزة والاثنان الباقيان كلّهم إخوةٌ منَ الرَّضاع. ثمَّ بعدَ ذلكَ أرْضَعَتْهُ حليمةُ بنتُ أبي ذُئَيب السعدية. وأمّا تفصيلُ قصةِ الرَّضاعِ سنَذْكُرُها في الحَلْقةِ التاليةِ بإذنِ اللهِ تباركَ وتعالى.